عبد السلام انويكًة
تعد من أغنى مواقع المغرب الأركيولوجية البانطولوجية الأثرية، بل على مستوى منطقة شمال افريقيا وحوض البحر الأبيض المتوسط الغربي، بها بصمات حضارة إبيروموروسية تعود لفترة ما قبل التاريخ ولإنسان العصر الحجري الأعلى. ذلك هو موقع وتلك هي شبكة كهوف شهيرة ب”كيفان بلغماري” بمدينة تازة، التي تعد وعاء أثريا ببقايا متفردة الأهمية الانسانية وتطور الحياة البشرية على الأرض، بناء على ما تم العثور عليه بها وما أنجز حولها من حفريات خلال عشرينات القرن الماضي، وهي المخلفات الأثرية التي يرجعها باحثون متخصصون لفترة البلايستوسين الأعلى. ولعل من بقايا كوف تازة هذه ما كشفت عنه تنقيبات الضابط الفرنسي”كومباردو” خلال فترة الحماية، من عظام حيوانات سنوات 1915 و1916، وقد أبانت عما كانت عليه البيئة المحلية خلال فترة ما قبل التاريخ وما طبعها من تنوع وحيش، لا زالت بعض عظامه محفوظة في متحف وهران بالجزائر. وكان من جملة ما تم العثور عليه في هذا الموقع، سلسلة أدوات حجرية وعظمية ومواقد تعود لفترة ما يعرف ب”الموستيري” و”الابيرومغربي”، الى جانب عظام بشرية وأخرى حيوانية تخص حيوان الضبع والأسد والحصان والحمار والخنزير والغزال والخروف والجمل والنمر والدب والكروكدن والثعلب والأرنب، وغيرها مما انقرض من هذه المنطقة الجبلية (تازة) ومما لايزال بها لحد الآن.
ولا شك أن شبكة “كيفان بلغماري” كانت مسكنا لإنسان أزمنة ما قبل التاريخ، بناء على ما تم العثور عليه فيها من شواهد حياة انسان قديم. مع أهمية الاشارة الى أن ما وجد بالموقع كان ضمن ترسبات نتجت عن أمطار، غمرت ما كانت عليه هذه الكهوف من حياة وطبقات حيث كان يستقر الانسان ويدفن. ويسجل ما لهذه الكهوف الأثرية القديمة من علاقة بزمن حضارات أقصى غرب حوض البحر المتوسط الغربي، وبمعالم حياة “ابيريوموروسية” كما هو غير خاف عن باحثين مهتمين بمغرب ما قبل التاريخ ولعل الحضارة الابيروموروسية تعني ما تعنيه من انتماء لمجال شبه جزيرة ابيريا وشمال افريقيا القديم، إثر ما تم العثور عليه من أدوات بالساحل الجنوبي للبحر المتوسط، والتي كانت بنوع من الشبه مع ما تم التنقيب عليه غير بعيد بسلسلة كهوف جنوب اسبانيا مطلع القرن الماضي. معطيات أركيولوجية تَبيَّن فيما بعد غياب أية علاقة لها بين الأثرين والمجالين الجغرافيين أي شمال افريقيا وشبه الجزيرة الابيرية، عندما تبين للباحثين أن ما تم العثور عليه بإسبانيا هو حديث عهد يعود للعصر الحجري الحديث على أقل تقدير.
ورغم كل هذه الاضاءات والاشارات حول هذه الفترة الغابرة من زمن الانسان القديم، تم الإبقاء على إسم الحضارة الابيروموروسية رغم عدم دقة مضمون إسمها ودلالاتها. وقد حاول الباحثون فهم أصول الانسان الابيروموروسي بحوض البحر المتوسط الغربي القديم، بحديثهم عن كونها تعود لبلاد الشام مشيرين لطائفة هاجرت عبر ضفته الشمالية وقد سمحت بإنسان”كرومانيون”، وعن طائفة ثانية هاجرت عبر ضفته الجنوبية سمحت بانسان عربي، بدليل ما قالوا أنه تشابه بينهما لإنحدارهما من أصول واحدة. مع أهمية الاشارة الى أن من الباحثين من استبعد كل هذه الفرضيات والاعتقادات، بناء على ما تبين لهم من فروق مورفولوجية بين الانسان الابيروموروسي والانسان ذو الأصول الشامية خلال نفس الفترة قبل آلاف السنين. بل منهم من قال بأن الانسان العربي “مشتى العربي”، ينحدر من انسان “كرومانيون” الذي هاجر عبر مضيق جبل طارق، وهو ما قوبل بنفي آخرين أشاروا في دراساتهم الى أن الانسان الابيروموروسي الذي تم العثور عليه بجبل طارق، أقل تطورا من الانسان العربي ومن ثمة صعوبة انحدار هذا الأخير من الأول. وسجل بعض الباحثين الأركيولوجيين أنه نظرا لِما هناك من تشابه معبر بين القبائل التي عاصرت إنسان مشتى العربي” بغرب البحر المتوسط، فإن أصول هذه المجموعات افريقية واحدة. وهذا هو ما كان موضوع أبحاث خلال ثمانينات القرن الماضي لفهم تنقلات هؤلاء عبر المنطقة العربية للبحر المتوسط، والتي كانت وراء ظهور الانسان البيروموروسي.
وتتحدث الدراسات التي توجهت بعنايتها للموضوع، على أن المغرب عرف الحضارة الابيروموروسية في الفترة ما بين عشرين ألف وثمانية ألف سنة قبل الميلاد. وأن من مواقع هذه الحضارة الغابرة بحوض البحر المتوسط الغربي، ما يعرف في مدينة تازة بموقع “كيفان بلغماري” (كهف اليهودي)، والذي من خصوصيته بناء على ما تم العثور عليه، كون الانسان الذي عاش به اعتمد على أدوات بحجم صغير من شفرات وعظام، فضلا عن حلي عبارة عن أصداف بحرية مثقوبة وأنياب حيوانات. الى جانب ما تم العثور عليه من آثار لنقوش صخرية متفردة في مواضيعها واشاراتها في علاقتها بحياة الانسان والغابة والحيوان وغيرها. نقوش وغيرها خلال هذه الفترة من زمن المغرب والحوض الغربي للمتوسط، تعني ما كان عليه الانسان الابيروموروسي من إحساس وتفاعل مع حاجياته فنيا وتعبيريا. مع أهمية الاشارة الى أن طبيعة ما تم العثور عليه، من نقوش وتعبير انسان هذه الفترة بالمغرب ومحيطه. جعل الباحثين يقسمون الحضارة الابيروموروسية، الى فترة قديمة وتقليدية ومتطورة. وأن من اعتقادات وعادات انسان هذه الحضارة المغربية المتوسطية، طريقة الدفن لديه، فضلا عن اعتماده في مصدر عيشه وتغذيته على الحلزون الذي كان مفضلا لديه.
هكذا إذن هو وعاء وزمن شبكة “كيفان بلغماري” بمدينة تازة، باعتبارها واحدة من أهم مواقع حوض البحر المتوسط الأثرية، التي توجد شرق المغرب حيث جبال الأطلس المتوسط الشمالي الشرقي، وحيث مدينة تازة وممرها التاريخي، وحيث شبكة هامة من كهوف أثرية قديمة ممتدة عبر أجراف مطلة من أعالي على أسافل. بقدر ما إسمها حديث عهد دون شك، وقد ارتبط بما حصل من تنقيب وأبحاث أركيولوجية خلال فترة الحماية الأجنبية على المغرب، بقدر ما توجد على مقربة من باب أثري شهير بالمدينة “باب الجمعة”، بجوار سور أثري مريني مزدوج غربا فضلا عن حصن دفاعي جنوبا تم انشاءه خلال فترة حكم دولة السعديين بالمغرب أواخر القرن السادس عشر الميلادي وهو الحصن الشهير ب”البستيون”.
ولعل أولى المعطيات ذات الطبيعة الأركيولوجية حول كيفان بلغماري(كفان اليهودي)، تعود لسنة 1917 من خلال ما بلغه الضابط الفرنسي “كومباردو” من تنقيب في هذا المكان. وقد تبنى وفحص وصادق عدد من الخبراء البيئيين الفرنسيين من قبيل “دوميركً” و”بلاري” ثم “لوكواطر”، ما تم العثور عليه من بقايا أثرية بهذه الكهوف. علما أنه لم تسجل أية أبحاث حول الموقع وجواره لاحقا رغم ما أثارته أوراق “كومباردو” من اشارات، لمزيد من الدراسة والتنقيب لفهم ما طبع الحياة البشرية محليا من خصوصية، وكذا أصول الانسان الذي عاش بمغرب هذه المرتفعات، فضلا عما هناك من مستويات اركيولوجية تخص المنطقة.
ويسجل أن شبكة “كيفان بلغماري” الأثرية، محفورة في صخور كلسية مفتوحة على الجهة الشرقية من مدينة تازة العتيقة (تازة العليا)، باتساع حوالي عشرة امتار وعلو خمسة أمتار مع عمود صخري يتوسطها. فضلا عن مكونات وجوانب تاريخية أركيولوجية دقيقة تبقى من اختصاص الباحثين، لتفصيل الحديث فيها بما يلزم من نهج ومعرفة علمية حول ما هو ستراتوغرافي. مع أهمية الاشارة الى أن “كيفان بلغماري” بمدينة تازة، تظهر على شكل تجويف صخري بعدة طبقات ومستويات حياة بشرية تراكمت عير آلاف السنين.
هكذا تحتضن تازة ضمن حضارة المغرب الابيروموروسية، موقعا عظيما بتراث صخري رمزي متفرد (كيفان بلغماري) وبأثر انساني ضارب في القدم حيث زمن ما قبل التاريخ. ولعل ما هو عليه من قيمة تاريخية ودلالات، باعتباره إرثا ماديا ولا ماديا بشريا شاهدا، يجعله بحاجة ليس فقط لدراسات علمية بحثية ميدانية أركيولوجية جديدة متجددة في معطياتها وفصولها ومستوياتها، لتعميق فهم ما هناك من أثر انسان بالمنطقة منذ القدم. بل لتثمين هذا الارث الانساني البشري الحضاري المغربي المتوسطي، عبر ما ينبغي من ذكاء ترابي تنموي وسبل تعريف وابراز أكثر، فضلا عن تهيئات وحسن تدبير في أفق كونية الموقع ومن خلاله كونية تازة. ناهيك عما ينبغي من جرد لِما أنجز حول الموقع من دراسات هنا وهناك، من أجل مكتبة محلية رافعة بنصوصها لِما ينبغي من بحث وأبحاث رصينة وباحثين. الى جانب ما ينبغي من التفات لبيئة ومحيط هذا الموقع “كيفان بلغماري”، لجعله واحدا من موارد زمن تازة التي يمكن الرهان عليها واستثمارها فيما يجب من تنمية ترابية محلية، فضلا عن حماية وحفظ هذا الارث المحلي الانساني باعتباره هوية محلية وطنية وانسانية.
ولعل من سبل إلتفات معبر مسؤول صوب هذه المكونات الأثرية الرمزية من حضارة مغرب ما قبل التاريخ، ما ينبغي من لقاءات وندوات رصينة ذات أثر، يحضرها ويؤثثها باحثون متخصصون في زمن المغرب القديم، من اجل تسليط أضواء أهم وأوسع وأفيد فضلا عن اضافات علمية اركيولوجية تخص معالم “كيفان بلغماري” ذات الأثر البشري المتفرد عن مغرب ما قبل التاريخ، والتي لاتزال بدون ما ينبغي من اشعاع متناغم واستثمار عقلاني ترابي لفائدة المنطقة. مع أهمية الاشارة لضرورة إعطاء هذا الموقع المتميز تاريخيا، ما يجب من عناية وتهيئة مناسبة عوض ما هو عليه من وضع مقزز بئيس وحال يرثى له من شدة مشاهد الاهمال. فضلا عن أهمية فتح قنوات تواصل من أجل ما هو قانوني ترابي رافع، من شأنه اعادة الاعتبار لشبكة “كيفان بلغماري” الأركيولوجية، وابراز أهمية موقعها خدمة لِما ينبغي من تطلع تنموي سياحي محلي، إسوة بما هو كائن وطنيا (مغارة هرقل بطنجة..) ودوليا بعدد من المدن هنا وهناك، والتي التفتت وأحسنت استثمار ذاكرتها الرمزية وتراثها المادي واللامادي الانساني الصخري ومواقعها الاركيولوجية.
فهل لايزال وعي تدبير تازة بمكامن تراث المدينة لم يتبلور بعد؟، وهل لايزال الوقت لم يحن بعد للنظر في ورش إدماج تاريخها ومواردها الحضارية في التنمية المحلية، وفق ما ينبغي من إرادة وتشارك وخطط عمل إسوة بعدد من مدن المغرب الشبيهة، التي باتت جاذبة بأوراشها واشعاعها خلال السنوات الأخيرة؟. وهل هناك وعي محلي وجهوي بقيمة ما تحتويه وتحضنه تازة من تراث وأثر انساني متفرد يعود لزمن ما قبل التاريخ، من أجل ما ينبغي من تنمية مندمجة رافعة للمدينة والجهة معا، عبر ما هو مندمج منفتح على معالم المدينة ورمزيتها الانسانية الاركيولوجية، ممثلة في”كيفان بلغماري” باعتبارها واحدة من أعظم مواقع الشمال الإفريقي وحوض البحر المتوسط الغربي، ومن أعظم مواقع المغرب ومدينة تازة البانطولوجية الأثرية.
مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث