مدينة “دبدو” في رحاب مركز عالمي للدراسات بباريس..

admin
2021-07-31T00:52:50+02:00
متابعات
admin31 يوليو 2021آخر تحديث : منذ 3 سنوات
مدينة “دبدو” في رحاب مركز عالمي للدراسات بباريس..

عبد السلام انويكًة

هي مدينة قديمة أسسها أفارقة في منحدر جبل شاهق منيع، مصدر مجاري مياه عدة تأخذ سبيلها صوب أسافل وفق ما جاء في “وصف افريقيا” للشهير ب:ليون الافريقي. مدينة هي قصبة مرينية عن مغرب العصر الوسيط بمثابة إرث يشهد على عظمة مكان بمعالم عدة ،منها مئذنة شامخة مرتفعة تبدو من بعيد، كما ذكر “شال دوفوكو” في تقرير إثر رحلة شهيرة له أواخر القرن التاسع عشر. مدينة فسيفسائية بنفحات مغربية أندلسية اسلامية ويهودية معاً اختبأت بين جبال منذ القدم في موضع بقدر هام من خصب وماء وزرع، شكلت بها جالية يهودية أضخم مجموعة بشرية آخذة من وسطها حارة لها بحوالي ثلثي ساكنتها قبل حوالي قرن ونصف من الزمن.

غير بعيد عن وجدة وحدود المغرب الشرقية كانت وجهة استيطان يهود منذ القدم، حيث تكاثرت جالية هؤلاء إثر ما حصل من هجرات متتالية منذ العصر الوسيط. لعل من أسرهم التي اشتهرت بحيوية تجارة ودين وفعل وتفاعل، هناك “ولاد كوهن الصقلي” و”ولاد مرسيانو” و” ولاد حمو” و”ولاد” بن كيكي”، مع أهمية الاشارة لِما طبعهم من تفاعلات فضلاً عن اشعاع وصدى وشهرة لفترات طويلة، بالنظر لِما كانوا عليه من نشاط وانتاج وعمل دؤوب وحِرف، بقدر ما كانت عليه من تعدد وأهمية بقدر ما بلغته منتجاتها من امتداد مجالي واسع.

لجأ اليها يهود أندلس أواخر القرن الخامس عشر متخذين منها داراً الى جانب المسلمين بعد طردهم، توجد بها عين شهيرة محلياً بعين “سبيلة” والتي ربما هي كلمة محرفة من لفظة “اشبيلية الأندلسية”، ناهيك عن مقبرة يهودية عتيقة توجد بها والتي ربما يعود تاريخها الى وقائع ما حصل ببلاد الأندلس خلال العصر الوسيط زمن طرد اليهود والمسلمين منها إثر قرار محاكم تحقيق في حقهما معاً. اليها ينتمي”داوود هاليفي” هذه الشخصية اليهودية التي تنسب اليها جملة مقالات عقائدية قبالية، وهو الذي توفي بعد بلوغه مرتبة أولياء ليدفن في تامكروت ببلاد درعة جنوب المغرب وليصبح قبره موضع تقدير ومزار لكل طوائف اليهود.

 تلك هي “دبدو” بالمغرب المدينة التي كانت موضوع حلقة من حلقات ذاكرة المدن العربية في دورة سابعة، والتي ينظمها ويشرف عليها المركز العالمي للدراسات العربية والبحوث التاريخية بباريس، الذي يرأسه يحيى الشيخ أستاذ باحث مقيم بباريس منذ نهاية ثمانينات القرن الماضي، وهو في الأصل ابن مدينة “جرسيف” تحديداً بلدة “المريجة” بالمغرب. ولعل بقدر ما يطبع مركز باريس العالمي هذا من انفتاح على ما هو ثقافة وفن وابداع وأدب وتعبير وتاريخ في كل البلاد العربية، بقدر ما ميز ندوته حول ذاكرة “دبدو” من نقاش ورأي ومقترح وقراءات ومقاربات تقاسمها باحثون اكاديميون، منهم “عبد الرحمن حرادجي” الباحث عن كلية الآداب والعلوم الانسانية بوجدة، والذي يسجل له ما راكمه حول منطقة المغرب الشرقية من نصوص واسهامات على قدر عال من الأهمية وما كان عليه ولا يزال من دراسة والمام بما هو طبيعي مجالي بيئي. وممن أطر حلقة دبدو من الباحثين أيضا هناك “نور الدين دخيسي” باحث في التاريخ ومهتم بما هو عمارة وتعايش انساني، فضلاً عن انشغالات فعل مدني كرئيس لجمعية ابن خلدون للدراسات بدبدو. هذا الى جانب أيضاً كل من “عمر قلعي” و”عبد العزيز بلبكري” وهما باحثان في مجال التراث والأدب وفاعلان مدنيان باسهامات عدة فكرية وابداعية، فضلاً عن “عبد السلام انويكًة” باحث عن مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث.

ندوة المركز العالمي للدراسات العربية والبحوث التاريخية بباريس حول “دبدو”، أبانت من خلال تضمنته من مقاربات وما امتدت عليه من زمن، أن المنطقة كمجال وامتداد طبيعي وزمن وتاريخ وانسان وثقافة وعيش وحضارة هي بحديث ذو شجون، لِما هناك من قضايا متشعبة وجوانب مغمورة لا تزال بحاجة لأبحاث ودراسات شافية، ولِما هناك أيضا من قضايا بطبيعة انسانية معبرة برمزية خاصة تهم مدينة دبدو ضمن مدن المغرب العتيقة، ناهيك عما يمكن أن يكون لكل هذا وذاك من أثر ليس فقط في التعريف بها بل الاسهام فيما ينبغي من تنمية محلية، تأخذ بعين العناية ما هناك من مؤهلات ثقافية وموارد تراث مادي ولا مادي ومن غنى بيئي مجالي، كذا من طبيعة موقع وجبل وممرات ومشاهد وفجاج وغيرها.

من خلال مداخلات ندوة “دبدو” التي أشرف عليها المركز العالمي للدراسات العربية والبحوث التاريخية بباريس، تبين أن المنطقة بقدر واسع من امتداد في الزمن كذا ذاكرة ضاربة في تاريخ المغرب، على الأقل منذ العصر الوسيط بالنظر لِما ورد حولها في مصادر تاريخية مغربية وعربية وفي نصوص بحثية اكاديمية عدة، ما يؤكد أن المكان كان موقعاً وموطناً وتفاعلاً وأعلام وسياسة ومجتمع بصدى كبير منذ القدم، ومن هنا فمدينة “دبدو” ليست مدينة نكرة بل عنوان حياة ووجود وحضارة وثقافة وانسان ومجال وتميز وأعلام وعلماء وعيش وتعايش. وعليه، فهي بذاكرة غنية واسهامات عدة منذ الماضي حتى زمن البلاد المعاصر، والى غاية الآن من خلال أبناءها من المثقفين وما هي عليه من نخب وأهل ثقافة وعلم وخبرة، والذين عليهم ما ينبغي من تعريف بها ونهوض بنمائها وتسويق لمجالها واستثمار لترابها وما يميزها من مدخرات.

ضمن ما ورد في ندوة المركز العالمي للدراسات العربية والبحوث التاريخية بباريس حول دبدو، ما أثير من نقاش هَمَّ جوانب ببعدٍ رمزي وطني في زمن المدينة مطلع القرن الماضي وسنوات اطماع استعمارية في البلاد. فترة رسمت خلالها مدينة دبدو صور مجد وحس وطني وغيرة وتضحيات، من خلال ما كانت عليه المنطقة من ردود فعل معبرة ومقاومة بطولية، ما أحوج ناشئة البلاد الجديدة للاطلاع عليها من أجل ما ينبغي من صلة وتلاقح بين سلف وخلف. وعندما نقول ذاكرة دبدو الوطنية في زمن مغرب معاصر، معناه ما هَمَّ البلاد وما تعلق وارتبط بها خلال فترة دقيقة حرجة، إثر توغل استعماري صوبها من مستعمرة الجزائر حيث وجدة وعين بني مطهر وفجيج ودبدو وغيرها من مواقع المنطقة. ولعل ما حصل من تطورات جعل دبدو بملاحم وطنية خالدة حقيقية وبطولات وتضحيات، فضلاً عن هوية وأمجاد وشواهد يذكرها ويحفظها الأرشيف. وكانت جوانب هامة من ذاكرة دبدو الوطنية قد حضرت ضمن  أنشطة علمية عدة ومواعيد أطرها فعل المجتمع المدني بالمدينة، من قبيل جمعية ابن خلدون للأبحاث والدراسات و حماية المأثر التاريخية، والتي كانت خلال السنوات الأخيرة بإسهامات على قدر كبير من الأهمية والقيمة المضافة، وهو ما يستحق التثمين ليس فقط لِما فتح على اثرها من نقاش بل ما توفر وتحقق وأغنى خزانة دبدو التاريخية بنصوص.

إن دبدو التي قال عنها “ليون الافريقي” أنها بنيت خلال العصر الوسيط، لتكون معقلاً لدولة بني مرين في منحدر جبل شاهق منيع بأودية عدة، هي دبدو التي شكلت معقلاً لمقاومة وحس وطني مطلع القرن الماضي ضد أطماع استعمارية في البلاد. فكانت جبالها سنداً وكانت أوديتها مسرحاً لتضحيات وصور وطنية شاهدة، على ما كانت عليه قبائل المنطقة من استماتة دفاعا عن البلاد قبل فرض الحماية عليها سنة 1912. ولعل ما هناك من ارشيف فرنسي خاصة، يؤكد ما كانت عليه دبدو من أدوار طلائعية في أولى اشكال مقاومة المغاربة المسلحة للاستعمار سنوات ما قبل الحماية. كيف لا وقد خاضت المنطقة من خلال قبائلها معارك طاحنة ضد التوغل الاستعماري، نذكر منها معركة “علوانة” التي جعلت دبدو بشهرة وتداول واسع داخل البلاد وخارجها، لِما تناقل حولها من خبر وما تناولته صحافة فرنسا وشغل مراسليها من اهتمام لفترة، إثر خسائر فادحة ترتبت عن هذه الواقعة في صفوف القوات الفرنسية يوم 15 ماي 1911، تلك التي كانت بأثر سياسي بليغ بدليل تداول مجلس الوزراء الفرنسي لها وتقديم وزير الحرب الفرنسي لمعطيات دقيقة حول ما حدث.

كل هذا وذاك، ذاكرة رمزية تستحق ما ينبغي من التفات وانصات وعناية وحماية، بل واثارة من حين لآخر من باب الذكرى خدمة للأجيال والناشئة، مثلما حصل مع اطلالة للمركز العالمي للدراسات العربية والبحوث التاريخية بباريس، من خلال لقاء حول دبدو “الذاكرة بين الماضي والحاضر” ضمن حلقة من حلقات ذاكرة المدن العربية في دورة سابعة. بادرة نبيلة بقدر ما هي توثيق لقضايا وخصوصيات واهتمامات محلية، بقدر ما هي عملية أرشفة من شأنها اغناء خزانة دبدو التاريخية والثقافية، ومن ثمة تواصل وتلاقح بين أجيال من جهة وباحثين ومهتمين من جهة ثانية، فضلاً عما هناك طبعاً من اشعاع وتعريف بما تزخر به عدد من مناطق المغرب ومدنه من موارد زمن وطبيعة وذاكرة.

thumbnail ندوة حاضرة دبدو والمركز العالمي للدراسات العربية والبحوث التاريخية بباريس - رسبريس - Respress

عضو مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث              

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.