عندما تضيع، في الصحراء، ماذا تفعل؟ العودة إلى الخلف، قد تعني ضياعا أطول، والمضي إلى الأمام، قد يعني المزيد من التيه.
هذا هو بالضبط حال الجزائر مع جنرالاتها. إذ ما زالت الـ”دونكيشوتية” السياسية هي السلاح الأثير، سواء مع قضايا الداخل أو مع جبهة البوليساريو. إذ أنها لا تستطيع أن تستنهض ما مات في تلك الحركة وكرس عجزها عن أن تكون قوة انفصالية قادرة على تحقيق أهدافها. كما أنها لا تستطيع أن تمضي معها إلى الأمام أكثر، بالنظر إلى حقيقة أنه لم يبق من مبررات المشروع الانفصالي أي قيمة أصلا. أما أزمات البلاد الأخرى، فقد ظلت تتفاقم.
السيادة المغربية على الصحراء تكرست، من قبل أن تتحول إلى اعتراف من جانب الولايات المتحدة. فهذا على أهميته في نطاق العلاقات الدولية، ليس بأكثر أهمية مما نجح المغرب في تكريسه من جهد تنموي عزز الاندماج السياسي والاجتماعي، ومن ثم السيادي على أرض تم حسم النزاع فيها منذ المسيرة الخضراء التي قادها الملك الراحل الحسن الثاني في العام 1975.
العجز عن العودة إلى الوراء، أو المضي قدما في التيه، لا يعني بالنسبة إلى المؤسسة العسكرية الجزائرية، ومخابراتها خاصة، الامتناع عن سبيل يجانب اليمين أو الشمال. فابتدعت دعما وهميا يقول إن المغرب يدعم تحركا انفصاليا قبائليا في الجزائر. إنما لتبرير ما بقي من إرث الجهد الانفصالي لجبهة البوليساريو بعد أن ثبت أنه بات في النزع الأخير.
ترويج الأكاذيب عند دعم مغربي لزعيم “حركة الماك” فرحات مهني، يفضح نفسه بنفسه. من ناحية، لأن المغرب الذي كافح الانفصالية، يعرف أنها مشروع لا يستحق التعويل عليه. ومن ناحية أخرى، لأنه إذا كان من تاريخ في هذا المسعى، فهو تاريخ مضاد لكل انفصالية، جهوية كانت أو عرقية. الطبقة السياسية في المغرب، ظلت على مر العقود، تنتج فكرا يدافع عن وحدة الدول، واستقلالها، وازدهارها. وبمقدار ما يتعلق الأمر بالجزائر نفسها، فإن المغرب دعم حركة التحرر الوطني الجزائري، لتكون الجزائر وطنا واحدا لجميع أبنائه.
مناوشات البوليساريو حول معبر الكركرات، كانت كمن يحاول أن يحيي العظام وهي رميم. إذ كانت من دون قيمة عسكرية، كما بدت وكأنها محاولة لمواجهة سيل الحقيقة الجارف، فانتهت إلى فشل مفهوم.
لا تزال هناك، طبعا، بعض بقايا لمن يجدون في نجاح المغرب بتعزيز وحدته السيادية، مبررا للهجوم عليه، أملا في إحياء الأوهام التي بددها الواقع، بأن تعود البوليساريو لتكون شيئا أكثر من مجرد مخيمات سلاح تمارس حرب عصابات عبر الحدود. إلا أن المغرب الذي صنع من الاستقرار السياسي استقرارا للبناء والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، ظل يجني ثمار عمل دؤوب. يواجه المشكلات بدلا من أن يهرب منها. وينشد الإصلاح، بدلا من أن ينشد الركود.
وبحكم أن التيه يمكنه أن يزيد تيها، فإن مزاعم جنرالات المخابرات الجزائرية عن دعم مغربي للمشروع الانفصالي القبائلي، لم تلحظ شيئين على الأقل. الأول، أن المغرب نفسه لا مصلحة له في توجه يؤذي تماسكه الاجتماعي. والثاني، أن المؤسسة العسكرية الجزائرية، بدت كمن يطلق النار على قدميه. ذلك أن بث الأوهام الانفصالية القبائلية، يمكن أن يزيد مصاعب البلاد، بينما هي تغرق بما يكفي من المشكلات.
ألا يوجد في هذه البلاد شيء آخر يجدر الالتفات إليه؟ هناك الكثير.
التطرف لا يزال قوة مؤثرة، ويشكل تهديدا متواصلا لاستقرار البلاد. فعلى الرغم من أن سلطة الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة اختارت الميل إلى التواطؤ مع بعض أطراف مشروع الإسلام السياسي، لإنتاج طيف معتدل، فإن الأزمات السياسية والاقتصادية، كما يعرف العاقل، غالبا ما تعيد إنتاج التطرف من ذلك الطيف نفسه.
الذين صنعوا “العشرية السوداء”، ربما يريدون بعودة الجنرال خالد نزار أن يزرعوا عشرية أخرى. وهم يريدون استغلال ورقة “الانفصالية القبائلية” ليس كتبرير للفشل السياسي فحسب، وإنما لكي تجد المؤسسة العسكرية شغلا تشتغل به أيضا، هي التي لو نزعت عنها دعم المشروع الانفصالي للبوليساريو لبدت قوة عاطلة عن العمل، رغم أنها تستهلك الكثير من موارد البلاد.
المسألة الأساس هي الهيمنة على النظام في البلاد. ذلك هو شغل تلك المؤسسة الأهم، وهي إذ تواجه حراكا شعبيا لم يتوقف، فإنها تأمل في أن تشغله بشيء جديد، يوفر لها مبررا لعدم التوقف عن التدخل في السياسة.
الجزائريون يريدون سلطة مدنية، ونظاما ديمقراطيا يقوم على مبدأ الفصل بين السلطات. فإذا كانت هذه الوجهة هي “العدو” الأول، فلأن هذه المؤسسة تاهت عن شعبها ومطالبه وتطلعاته، إلى درجة أنه صار هو “العدو”.
الحديث عن انفصالية قبائلية “يدعمها المغرب”، هو في الواقع أحد أبرز التعبيرات عن عداوة جنرالات الجزائر مع الشعب الجزائري. لأنه يريد نظاما جديدا، يعمل فيه كل فرع من فروع النظام ومؤسساته، بما يجدر أن يعمل عليه، ليكون القضاء قضاء، والعسكر عسكرا، والحكومة حكومة، والبرلمان برلمانا، بدلا من أن يختلط الحابل بالنابل.
ما الفائدة، حيال ما تواجهه الجزائر من مشكلات داخلية، أن يجري حرف الأنظار نحو عداء مزيف مع المغرب؟
لم يدع المغرب فرصة إلا وانتهزها من أجل الوقوف في صف علاقات التعاون والتنمية وفتح الحدود وتنشيط التبادلات التجارية وإقامة المشروعات المشتركة والتنسيق في القضايا الإستراتيجية الأخرى.
الجزائريون يعرفون هذه التوجهات المغربية جيدا. ولكنهم يعرفون أيضا أن سلطاتهم العاجزة، تنشغل بما لا نفع فيه، لأنها لا تملك ما تفعله لحل مشكلات البلاد. ومؤسستهم العسكرية تحار الآن، كيف تعود لتصبح اللاعب الأوحد في مسار التغيير، لكي تضعه على مقاسها.
أول الخياطة لذلك المقاس، كانت المشروع الانفصالي للبوليساريو. وهذه انتهت إلى فتق لم ترتقه رقعة التحرشات الساذجة في الكركرات.
الآن هناك خياطة أخرى، لمشروع انفصالي آخر، داخلي هذه المرة.
أحمد قايد صالح لعب ورقة القبائل، وأورثها لسعيد شنقريحة ومحمد مدين (توفيق)، بحثا عن دور داخلي يسعدان به، ومحاولة صرف الأنظار نحو المغرب، لا أكثر من مجرد غطاء مهلهل لذلك الدور.
لقد مولت الجزائر المشروع الانفصالي لجبهة البوليساريو وسلحتها، لـ45 عاما، وانتهت إلى بؤس، داخلي أولا، ومع البوليساريو نفسها ثانيا.
كان الأمر نوعا من تيه لا مثيل له، أضاع من عمر البلاد ومواردها نصف قرن.
المغرب لا يتيه. حكومته تعمل كحكومة، وجيشه يعمل كجيش، وشعبه واحد. حتى أن تطلعاته الوحدوية لا تزال ممدودة اليد للجزائر. وهو لا يحتاج مبررات، يعرف هو نفسه مراراتها، لكي يستخدمها ضد أحد.
الذين لا شغل لهم، يمكنهم أن يبتدعوا مبررات وأوهامًا ومزاعم مخابراتية ساذجة، لكي يطحنوا بلادهم أكثر مما فعلوا منذ استقلالها حتى اليوم.
هناك اقتراح لسلطة الجنرالات في الجزائر، يمكن للعاقل أن يحسبه جديرا بالاهتمام. هناك أزمة كورونا. إنها أزمة حقيقية. هناك أيضا أزمة أمن غذائي. هناك فقر. والبنية التحتية متخلفة. وهناك نقص في المساكن. وهناك بطالة واسعة بين الشباب خاصة. والبلاد على مشارف الإفلاس.
بدلا من اختلاق الأوهام، بحثا عن عدو داخلي، وبدلا من استعداء المغرب، أليس من المفيد أكثر أن يحارب الجنرالات على جبهة الأزمات الحقيقية، بما يملكون من موارد؟ أم أن دون كيشوت لا يجد لائقا به إلا أن يحارب الطواحين؟
على المتابعين للوضع الخطير الذي تجتازه الجزائر أن ينتبهوا إلى أن هذا الاتهام المضلل المروج له ضد المغرب يندرج في سياق دخلت فيه الجزائر مرحلة النفط والغاز مقابل الغذاء، وهي علامة بداية المرحلة القصوى من الأزمة لكون الحقوق المعيشية للجزائريين باتت مهددة. فسياسة الدولة العسكرية أدخلت الجزائر باكرا إلى مرحلة انهيار الأمن الغذائي التي توقعها الخبراء لتصبح دولا مفلسة في مرحلة الجائحة. الاتهام المضلل والمروج له ضد المغرب يأتي في وقت حصل فيه المغرب على اللقاح للمغاربة، وافتتح العاهل المغربي الملك محمد السادس الخميس الماضي حملة انطلاق التلقيح ضد فايروس كورونا بتلقيه أول جرعة.
في مقابل ذلك، لا يزال الجزائريون ينتظرون مصيرهم، بينما السلطات الجزائرية تروج لاتهامات مضللة ضد المغرب، تريد صرف أنظارهم نحو أكاذيب جديدة لأنها تعرف جيدا أن الجزائريين يشاهدون القنوات التلفزيونية ويتابعون وسائل التواصل الاجتماعي التي نقلت صورا وفيديوهات الملك محمد السادس وهو يعطي انطلاقة حملة التلقيح ضد وباء كورونا. بينما لم تجد السلطات الجزائرية أي وسيلة لإلهاء الجزائريين سوى التشويش على المغرب بادعاءات كاذبة حول دعم مزعوم للانفصال.
السؤال المطروح اليوم على قادة الدولة العسكرية: أين لقاح الجزائريين؟ الجواب الواضح، لا لقاح في الجزائر لأن الدولة مفلسة ولا تريد لقاحا للجزائريين كي لا يعود الحراك إلى الشارع.
كورونا قد ينتهي من كل دول العالم باستثناء الجزائر لأنها تخدم مصلحة استمرار الدولة العسكرية المفلسة.
علي الصراف
كاتب عراقي