أحمد عصيد
قام معسكر الإسلام السياسي كعادته بترويج خبر مفاده أن أصواتا غريبة صدرت من قبر الراحلة نوال السعداوي، وهو خبر لا ننفيه ولا نكذبه، لأنه يمكن أن يكون صحيحا، ولكم التحليل العلمي لذلك:
في علم النفس الإكلينيكي يتحدث الأطباء عن “الوسواس القهري” الذي ينتج عن الخوف الشديد والقلق المفرط والتركيز البالغ على شيء ما حتى يتحول إلى حالة عُصابية، وهو ما يحدث عادة للمتشددين في الدين، فهم من فرط انشغالهم بهذيان الدعاة حول “عذاب القبر” وبالمشاهد المرعبة التي يتخيلونها صباح مساء ويعيشون عليها، ومن فرط اعتقادهم بأنهم يملكون الحقيقة وأن غيرهم في ضلال، يستطيعون سماع أصوات صادرة من المقابر عندما يتعلق الأمر بشخص يكرهونه بسبب معارضته لهم واختلافه عنهم. لأنّ من شأن ذلك طمأنتهم وتهدئة أتباعهم الذين يعانون من هياج نفسي متواصل.
إليكم ما حدث في نفسية أولائك الذين يصطنعون مثل هذه الأخبار:
تمثل نوال السعداوي بالنسبة لهم نموذج المرأة المتمردة على عبودية الذكورة التي يقوم عليها الفقه والمجتمع الإسلاميين منذ قرون، المرأة التي كسرت جدار الصمت ومزقت حجاب السواد الذي يخفي ألوانا من الظلم والقهر، وما داموا لم يستطيعوا مواجهة منطقها الصريح ، العلمي والواقعي، بقناعاتهم الضعيفة والهشة، فقد عبروا دائما عن غاية الاحتقان النفسي تجاهها دون أن يستطيعوا أبدا إسكاتها، ولهذا يمثل الموت بالنسبة لهم المُخلّص الأخير من سيدة من هذا العيار، (سيدة طبيبة تقلدت مناصب كبرى ونالت جوائز عالمية عظمى وألفت أزيد من خمسين كتابا ترجم معظمها إلى اللغات العالمية وملأت الدنيا وشغلت الناس لعقود طويلة من القرن العشرين والواحد والعشرين).
طبعا مع وفاتها أخيرا ـ بعد عمر طويل ـ كان لابد أن يقوموا بغوغائيتهم المعهودة عبر التعبير عن رغبتهم الدفينة في أن يروا المرأة التي كرهوها تعذب في النار، ولأنهم في أعماق أعماقهم يشكون في ذلك، فإنهم لم يستطيعوا أن ينتظروا الحساب والعقاب في الآخرة بعد يوم البعث، ولهذا سارعوا إلى استصدار أصوات من قبرها إرضاء لخواطرهم المُهيجة، ودليلا على أنها تتلقى العذاب الذي تمنوه لها في الدنيا، وتحت التراب قبل يوم الحشر.
إن الانتقام من الفقيدة وتقديمها عبرة لأتباعهم هو بيت القصيد، وبما أنه لم يتم في الدنيا، لأنهم لم يستطيعوا النيل منها حتى بعد تجربتها السجنية، فإنهم يجدون في الموت ضالتهم ، أن يجلدوها في قبرها على غرار ما كان يفعله الحنابلة بخصومهم من فقهاء المذاهب الأخرى.
ولهذا نفهم لماذا لا يسمع هؤلاء نفس الأصوات تصدر عن قبور المجرمين والقتلة وسراق المال العام ومشعلي الحروب وتجار المخدرات والحكام الظالمين، إنهم لا يسمعون تلك الأصوات إلى من قبور خصومهم الإيديولوجيين، الذين يدعون الناس إلى التفكير واستعمال عقولهم، لأن مشكلتهم ليست مع الجريمة ولا مع الاستبداد ولا الرشوة ولا الفساد، بل فقط مع من يعارضهم، ويوقظ الناس من سُبات التخلف.
إن ما يخشاه المتطرفون هو انصراف الناس عنهم، وتعد لعبة الموت أهم وسيلة للهيمنة على عقول البسطاء والأميين وكذا الجهلة من المتعلمين، وهذا كان شأن الكنيسة على مدى قرون طويلة أيضا، فمادام الجميع يعلمون بأن الموت نهاية محتومة لجميع الأحياء (دون أن يعرف أحد منهم على وجه اليقين المطلق ما يقع بعد الموت) فإن تلك الحقيقة هي الوسيلة السهلة لاستمالة الناس عبر ترهيبهم وتخويفهم، ولا يمكن ترهيبهم دون العزف على وتر الضعف فيهم، واللعب على مشاعرهم وهشاشتهم الداخلية.
وبما أنهم بحاجة إلى نماذج وضحايا يقدمونهم عبرة تثبت ادعاءاتهم، فإنهم يستغلون وفاة خصومهم كما يستغلون وفاة أتباعهم الذين يرون نورا يخرج من مقابرهم، وهي لعبة قديمة اعتمدت طوال تاريخ الإسلام من طرف المذاهب الفقهية المختلفة التي كانت في اقتتال وتطاحن دائم لم يتوقف إلى اليوم. فصدور أصوات مزعجة من قبور الخصوم يقابله دائما خروج نور ساطع من قبور الأتباع ، وهو تعبير عن مقدار التوتر الداخلي الذي يعتمل في نفوس هؤلاء، وعجزهم عن حلّ مشكلة الوصاية والهيمنة التي تؤرقهم، ولهذا ليسوا مستعدين أبدا لإبعاد الدين عن الصراعات السياسية والطائفية، لأن في ذلك نهايتهم.