الإسلام السياسي .. متى تستقل السياسة عن الدعوة؟

admin
كتاب واراء
admin30 ديسمبر 2018آخر تحديث : منذ 6 سنوات
الإسلام السياسي .. متى تستقل السياسة عن الدعوة؟

الإسلام السياسي .. متى تستقل السياسة عن الدعوة؟

د خالد فتحي*

تعوّدت أغلبُ الأحزاب الإسلامية أن تتظاهر بعكس حقيقة هويتها، وتعلن من خلال تقية ممنهجة كلما يشتد عليها الحصار بأنها ليست بأحزاب دينية، وهي الأسطوانة المكرورة التي ترددها دائما على مسامعنا دون أن يصدقها أحد؛ بل وتذهب حد أن تتملص حتى من تسمية الإسلام السياسي نفسها، لأنها تنطوي على قدر من الوصم من الخصوم لا تحبه، ولأنها تعني لها أيضا درجة من العزل لا تطيقها عن باقي ألوان الطيف السياسي. ولذلك، نراها من حين إلى آخر تصر على أن تنفي أية علاقة تنظيمية أو تنسيقية لها بأذرعها الدعوية…. تلك الماكينات الدينية الفعالة جدا التي تحشد لها في الميدان السياسي من الأتباع والمؤيدين والمتعاطفين المتدينين وغير المتدينين؛ وهو ما يدفع بها غالبا نحو الفوز الساحق الماحق الذي يثير بدوره الحنق ضدها، وذريعتها في ذلك الإنكار…. التوسل بالمواد القانونية والأهداف المسطرة التي توجد في تشريعاتها الأساسية، والتي لا تقر طبعا وجود الحبل السري بين الدعوة والسياسة..

ولذلك وأمام هذا الإمعان في النفي الذي تكذبه الأحداث ومجريات الأمور، فإننا لن نلوذ بلغة الخشب هاته، وسنحاول أن نجري تحليلا إيجابيا ينطلق من قراءة واقع الحال ويوميات النضال عند هذه التنظيمات التي تؤكد أغلبها وجود تلك الصلة الوثيقة الوطيدة، فنحن نعرف جميعا، وهي أيضا تعلم علم اليقين أن الإسلام السياسي، وإن كانت قوانين تنظيماته تفصل نظريا بين الدعوي والسياسي، فإنه على أرض الواقع يعتمد اعتمادا شبه كلي على العمل الدعوي في الحشد والنفير والتجييش للاستحقاقات المختلفة. وهذه حالة وظاهرة تعرفها كل المجتمعات الإسلامية التي بها حراك سياسي للإسلاميين. إننا نريد في العمق أن نتساءل إلى أيّ حد يحد عدم الفصل بين الدعوي والسياسي من فاعلية الأحزاب الإسلامية بعد صعودها إلى الحكم؟ وإلى أي حد يكبح من إمكانات نجاحها واستمرارها في تقلد السلطة بكفاءة واقتدار وقبول من الآخر، بل ووقوعها بمجرد ما يستقر بها المقام في كرسي الحكم تحت عاصفة من الانتقادات والتشكيكات، والتي إن لم تنته بالانقلاب عليها كما وقع بمصر، فإنها تخلق حالة من التوتر والانقسام داخل المجتمع تؤدي إلى تعثر المسار السياسي للبلاد برمتها؟ أي إلى أي مدى يشكل هذا التماهي بين الدعوي والسياسي عند الأحزاب الإسلامية تناقضا مولدا للتوجسات الشعبية وللعقبات التي تضعها الدولة العميقة في طريق ترسيمها النهائي كلاعب طبيعي في المضمار السياسي؟

إننا نعتقد أن لعدم الفصل بين الدعوة والسياسة تأثيرا كبيرا في تكرر هذا السيناريو في عدد من الحالات التي انتصر فيها الإسلام السياسي انتخابيا، ثم ثارت حفيظة المنافسين أو الخصوم السياسيين بشأن هذا الانتصار ليصيروا قادرين على تأليب الناس ضدهم. لا بسبب ضعف الإنجاز فقط، بل بالخصوص لاعتبار ممارساتهم في الحكم نشازا عن ما ألفوه من سبل وأساليب في تدبير الشأن العام؛ فهؤلاء الناس الذين بعد أن يختاروهم للحكم، ينتابهم مع مرور الوقت شعور بأنهم لا يمثلونهم، وإنما قد شبه لهم، وقد وقعوا ضحية الخلط بين الدعوي والسياسي، حيث يكتشفون أن النضج الدعوي أكبر من النضج السياسي لدى هذه الحركات الإسلامية، وأنهم استثمروا واستغلوا دعويا بسبب شعورهم وحسهم الديني العارم لأجل الحسم السياسي وإعطاء الامتياز الانتخابي لتلك الأحزاب لا غير؛ ذلك أن الدعوة تنبني على مبدأ مغاير للمبدأ الذي يحكم العمل السياسي. فالأولى تتوخى الاستقطاب للدين والتمكين له في نفوس الناس جميعا بما في ذلك المعارضين، بينما يقوم الثاني على التدافع والتنافس مع هؤلاء الناس للوصول إلى الحكم. يقتضي ذلك من ضمن ما يقتضي الصراع مع المعارضين والتنابز أحيانا مع هذه التوجهات الأخرى. والأصعب يكون هو اتخاذ هذه الأحزاب قرارات لا محبوبة بعد تولي السلطة قد لا تتمكن بها من تألف قلوب الناس كما يكون الحال في المرحلة الدعوية. في هذه المرحلة الأولى التمهيدية يتم خطب ود المواطن بغض النظر عن ميوله الفكرية والسياسية، وفي الثانية الاختبارية قد يفقد الإسلام السياسي ود المواطن بسبب إكراهات الحكم وصعوباته. أي أننا أمام مبدأين متناقضين جدا، خصوصا أن الدعوة لدين كالإسلام يعد دينا خاتما للديانات ودينا جامعا أرسل للعالمين تتعارض مع السعي إلى تكوين قاعدة انتخابية هي بالضرورة في نظام ديمقراطي قوامه الأحزاب ويقوم على التناوب على السلطة مجرد تيار اجتماعي أيا كان حجمه وقوته… وبالتالي، لا يكون هذا الجري وراء الأصوات مؤسسا لحالة إجماع مجتمعي كما يريد الدين وكما يجب للإسلام الذي تقترح الدعوة أن توطن له. وإذا تماهت الدعوة والسياسة فيما بينهما وهذا واقع لا محالة، فذلك نذير بتكون طائفة دينية تتصرف في هذا الإسلام بوصفه قد أصبح حكرا على هذا التيار الاجتماعي فقط، أي على جزء من المجتمع لا بوصفه هوية ناظمة لهذا المجتمع برمته؛ وهو ما ينقص من رونق الدين ووظيفته كمكون أساسي للهوية في مجتمع مسلم، ويعطي إحساسا شعبيا بخوصصة الدين واقتصاره على طائفة بعينها، بل ودفعه دفعا وغصبا عنه نحو فئوية يمقتها الإسلام نفسه.

وحتى أغلب الأحزاب الإسلامية العريقة بالعالم العربي صار لديها وعي بضرورة إنجاز هذه الخطوة التاريخية في مسارها الذي يقترب من قرن من الزمن؛ لكن ينقصها إلى الآن الحزم والإقدام على ذلك، إذ إن السياسي الإسلامي يظل في حالة انتخابه بين المطرقة والسندان… مطرقة الولاء للدعوة التي يحلم أو “يزعم” تطبيق مشروعها الحضاري، وسندان التصرف حسب ما تمليه عليه تقاليد السياسة لتطبيق المشروع السياسي الذي تعاقد عليه مع الناخبين وفق القواعد الديمقراطية.

حزب النهضة التونسي، أحد قيدومي الحركة الإسلامية السياسية الذي جرب مفارقات الجمع بين الدعوي والسياسي وخبر الكثير من المحن بسبب ذلك، سبق له أن أعلن في مؤتمره العاشر أنه سيفصل بين المسارين الدعوي والسياسي، وأنه سيدخل عهد الديمقراطية المسلمة، وسيودع عهد الديمقراطية الإسلامية، أي أنه بصدد التحول إلى حزب مدني بمرجعية إسلامية دون حراك دعوي، حيث ارتأى تركه للمجتمع المدني.

إن هذا الفطام شبه المستحيل، وهذا الطلاق العسير مع الدعوة صعب احتماله على الإسلاميين؛ لأنهم يعني لهم بكل بساطة علمنة في عقر دارهم. والتي دونها الموت الزؤام للطوباويين منهم…. كيف يستقبلون هذه العلمانية في بيتهم الداخلي وهي التي إنما هبوا لأجل مقارعتها ونزالها بثبات وإقدام على امتداد العالم الإسلامي، وهو ما يعني لهم كذلك نسخا لكل التجربة وقتلا لحالة “التوثب الإيماني” التي تجتاحهم… وطفرة ولربما قفزة في الهواء تجعلهم على النقيض تماما على ما شبو ا عليه من تصورات لمفهوم العمل الإسلامي. وكأنهم سيصبحون غيرهم ببساطة.

ولذلك، وعلى الرغم من محاولات الفصل التي يحاولونها بالتأكيد، فإنها تبقى مجرد مسألة كلامية بلاغية سرعان ما تنسى مع تعاقب الأحداث، ووقوع انتكاسات، تجعل هذه التنظيمات الإسلامية المتحادثة أو المتعلمنة تعاود دائما سيرتها الأولى؛ فغالبا ما تعود إلى الواجهة الجينات التي زرعت أيام الحمل الأولى.

ومع ذلك نعتقد أن هذا المخاض الذي لا تعرفه تونس فقط، بل وتشهده عدة دول عربية أخرى كمصر والجزائر والمغرب والأردن… سيفرج عاجلا أم آجلا عن أساليب جديدة في عمل الإسلاميين. وأن جيلا منهم جديدا ومختلفا سيظهر للوجود.. جيل يؤمن بالالتقاء مع الدولة المدنية التي لا تصادر الدين . إن لم يكن بالتماهي معها، فعلى الأقل سيذهب إليها ليلتقيها في منتصف الطريق لتفادي مزيد من محن الآباء ومن الفرص الضائعة عليهم وانتزاع اعتراف وقبول الآخرين، والذي يبقى مشروطا في نظري بابتعاد الإسلاميين عن تعاطي المنشطات الدعوية وتقريرهم بكل روح رياضية التباري على أساس نجاعة البرامج أولا، ثم القدرة على تحقيق الإنجاز في المجال الاقتصادي والاجتماعي ثانيا؛ وهما المعياران اللذان يبقيان أساس المفاضلة والاختيار بين الفرقاء في دول القرن الـ21. أما المجال الأخلاقي والقيمي فمن الأفضل تأميمه ورده للمجتمع من دون أن نخشى عليه شيئا…. فسيكون له حتما دعاة ثقاة ينهضون به على نفس المسافة بين كل التنظيمات .

*بروفيسور بكلية الطب بالرباط دكتور في العلوم السياسية.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.