الحج سفر استثنائي إلى جهة استثنائية، في زمن ومكان خاصين. هو في اللغة القصد مطلقا، وقيل هو: القصد المُعظم. ما يجعله لا كسائر أنواع السفر وجهات القصد التي تكون لغاية الرزق أو المتعة أو السلطة، أي سفر وقصد دنيوي يتعلق بضرورات البقاء وتحصيل القوة أو المتعة أو المجد. أما الحج فهو سفر التخلي عن الرغائب، ورحلة اليقظة من الغفلة، وسيرة تصويب الوجهة بعد اضطرابها أو ضياعها، لتبدأ معها وبها رحلة المقصد الأعظم إلى أصل الأصول، وبداية البدايات، وأقصى المعاني ونهاية الغايات.
لهذا عدّ الحج في الحديث عن النبي جهادا، بل أفضل الجهاد، لما فيه من تعب جسد ومكابدة نفس وتوق روح. واعتبر محطّة يتوقف فيها الزمن الخارجي، ليبدأ زمن آخر، زمن الاتصال والعروج والتوق والعشق الإلهي، أي زمن الوجود الإنساني في سعيه لاستعادة حقيقته الأصيلة، وتنقية معناها من سموم الزيف والوهم والسقوط. ما يجعل الحج ولادة جديدة وبعثا جديدا لحياة إنسانية متدفقة ومتجددة. ولهذا ورد في الحديث الشريف أن الحج يهدم ما قبله، وأن من حج بلا رفث ولا فسوق عاد كما ولدته أمه.
بهذا فإن الحج فعل تجدد، فيض حياة، عودة الذات إلى ذاتها بقدر ما هي عودة إلى الله، لتستعيد نقاءها وشفافيتها بعد أن خالطها دنس التكبر والاستعلاء، ولوثة الظلم، وخبث الخطايا. فالحج رحلة إلى الآخرة في الدنيا لكن لأغراض الدنيا وإصلاحها وتأكيد استقامتها وإخراج أفضل ما فيها. ما يجعل الحج يتجاوز غرض الفرد المؤمن في الاستغفار والأجر ونيل الثواب ودخول الجنة، بل هو مشروع حياة فائضة وتواصل إنساني على قاعدة خلقية وعقلية معا.
ولهذا لم يخاطب القرآن في تكليف الحج أفرادا منفصلين، بل خاطبهم بصيغ الجمع، مثل قوله تعالى: “وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالا”، “وأتموا الحج والعمرة”، “ولله على الناس حج البيت..”. وخطاب الجمع لأداء فعل في زمان ومكان محددين، يستولد القناعة بأن مقصد الحج ليس تكليفا خاصا أو جزئيا، أو مجرد شعيرة يمارسها الفرد لوحده، بل يؤكد أن الغرض إيجاد مشهد إنساني كوني، وبث صور خلقية وتضامنية تلامس الأسرة البشرية كلها. فتجد القرآن الكريم مثلا، يربط الحج بشهادة المنافع المتأتية منه: “وأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ”. فكأن منافع الناس ثمار مباشرة يجنيها الإنسان من فعل الحج. وهي منافع لا تقتصر على المنافع المادية الجزئية أو الخاصة، بل تتعداها لما يطال منافع البشرية جمعاء في جميع صور وجودها وتفاعلاتها ومتحداتها ونشاطها.
من هنا يعطيك الحج مشهدا إنسانيا آخّاذا: في وقوف الناس سواسية أمام الله في ألوانهم وأعراقهم وطبقاتهم المتعددة. في التلبية المتكررة لتكون العلاقة مع الله علاقة ميثاق وعهد لا علاقة اصطفاء وتفضيل وحصر، أي علاقة مسؤولية لا علاقة انتفاع خاص. فالمسؤولية أمام الله هي عين المسؤولية تجاه خلق الله، والوفاء الأمين للميثاق مع الله هو عين الوفاء لكل أفراد البشر في حفظ حياتهم وكرامتهم وإنسانيتهم وحريتهم.
وقد ربط القرآن الحج بالأمان، بقوله تعالى: “من دخله (مقام إبراهيم) كان آمنا”، وهو الصفة، أي الأمان، التي يطمح إليها كل فرد وكل مجتمع. فهو الشرط الأول للعبادة الصادقة والخالية من الإكراهات لكون الدوافع الذاتية والرغبة الجامحة هي البواعث العميقة والحرة للوصول إلى الله. وهو، أي الأمان، شرط استمرارية البشرية وحفظها من الفناء، وهو أساس التواصل الإنساني الذي يقي البشرية سوء الخيانة ووساوس الخوف، ويمثل حماية ووقاية من أي تعسف أو سلطة ظالمة.
بل إن الأمان مقدّمة ضرورية للحرية الإنسانية، لكي يُعبِّر الإنسان عن قناعاته وآرائه من دون عواقب وتبعات. وفي ذلك دليل على أن الحج مؤتمر بشري على أرضية الأمن والسلم، قُصد منه التفاعل الحيوي بين الحجاج، وأن يكون محطة سنوية يتداول الناس فيها أمورهم بحرية ويناقشون قضاياهم، ويولدون رؤى وأفكارا واستراتيجيات متجددة، بعيدا عن أي تعسف أو تحكم أو حتى تسطيح لوظيفة الحج ومقصده العميق وغايته البعيدة. هذا يجعل الحج الآمن مدخلا للسلم، والأرضية التي تتحرك فوقها جميع صور التواصل الإنساني، وبداية أولى لإزالة موجبات القطيعة وأسباب سوء الفهم وتبديد ادعاءات التطرف وإسقاط كل تهم الإسلام زورا بالإرهاب.
من هنا تتبين أهمية اعتماد الشورى في الحج. فالشورى سمة جوهرية للأمة الإسلامية، وخلفية تواصل بين المسلمين يتداولون فيها قضاياهم بشكل مفتوح وحر. ما يجعل الحج محطة لا لأداء الشعائر فحسب، بل محطة سنوية لتوليد قناعات مشتركة وبلورة تفاهمات وبناء سياسات حول قضايا مصيرية تطال الواقع العالمي ومصالح المسلمين وحقوقهم، وفضاء مفعما بالإيمان والتسامح لحل خلافات المسلمين وصراعاتهم وتناقضاتهم.
الحج مشهد كثرة بعين الوحدة، ووحدة بعين الكثرة. بمعنى أن الحج حدث يحمل إمكانات أبعد من أن يكون أداء تكليف فرديا، وهو قابل أن يستثمر لتتخذ الأمة الإسلامية شخصيتها وموقعها ومكانتها، لا بالمعنى الوجداني أو العاطفي فحسب، بل تتخذ حالة تكامل بين مكوناتها، وشكل انتظام وتعاضد بين مؤسساتها ونظمها، وحالة حضور فاعل يخرجها من حالة اللاوزن والخفة ولا مبالاة المجتمع الدولي تجاه مصالح شعوبها وقدسية رموزها.
هذا يجعلنا، وبألم شديد، نستحضر قضية القدس، التي لم نعتبرها يوما ملكا للمسلمين، بقدر ما هي واحة لقاء إنساني، ملتقى القداسات وتعايشها، محطة تعددية لا مكان فيها للحصرية والاستبعاد. بيد أن القدس باتت ضحية سياسات الجنون ولامبالاة العالم من جهة، وغياب الموقف والسياسة الفعلية والفاعلة من المؤمنين بقضية القدس، من جهة أخرى. حيث غلبت حسابات المصالح على مقتضيات المسؤولية، وتبدد المشهد الكلي لصالح التقديرات الجزئية، وبتنا نتعامل مع القدس بصفتها قضية سياسية صرفة، في حين أنها تمثل في عالمنا المعاصر قضية أخلاقية تختبر صدقية إنصاف العالم للحقوق المغتصبة، وترمز إلى قدسية شديدة التكثيف، تم تحويلها إلى اصطفائية عدائية وإقصائية.
لعل النداء الأقوى في الحج هو براءة الله ورسوله من المشركين. وهي براءة لا تنحصر بالبراءة من الشرك بالله، بل بالسلوك الأخلاقي الذي اتسم به سلوك مشركي قريش. ولهذا كانت البراءة في الآية من المشركين أنفسهم لا من شركهم فقط، لما ينطوي عليه سلوك المشركين في زمانهم من خسة وضعة أخلاقية. ما يجعل البراءة في الحج، براءة أخلاقية من كل من يحط من القيمة الإنسانية وقدرها.
فمعركة الرسالة الإسلامية مع قريش لم تكن عقائدية بقدر ما كانت تتعلق بالمستوى الخلقي الذي وصلت إليه وضعية مكة قبل النبوة وفي زمن الدعوة النبوية. وهو مستوى وصفه جعفر ابن أبي طالب أمام ملك الحبشة بقوله: “كنّا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القويّ منا الضعيف.. فكنّا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه دعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنّا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام”.
مشروع الإسلام هو مشروع توحيد لله، لكن لا عبر الأمكنة المنعزلة والزوايا المعتمة، بل في الفضاء الواسع والأماكن الرحبة التي يملؤها ويخلقها الوجود الآدمي الذي خلقه الله على صورته. ما يجعل كمال توحيد الله موازيا للكمال الإنساني، وشمولَ عبادته وطاعته ارتقاءً بالإنسانية إلى أرقى مدارك وجودها وأخصب صور حياتها. التوحيد مشروع حياة للبشرية جمعاء، وفق قوله تعالى: “استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم”. فالإحياء بعث لكامل طاقة الحياة وطرد لكل عوامل فنائها وانحطاطها وخستها.
بهذا فإن كل حفظ للحياة وحرص على مقتضيات العيش الإنساني الكريم، هو من مقاصد التوحيد وغاياته. ما يعني أن العمل للإسلام هو عمل لصالح الإنسان نفسه، وكل تكليف أو تشريع ديني يحتاج إلى أن يتخذ صفة شمولية وكونية، لا بالمعنى الذي يقصده المتطرفون، بل بمعنى أنسنة تشريعاتنا وعباداتنا، بحيث تترسخ فضائلها في كل المعمورة، وتتوزع منافعها على جميع أفراد البشرية، وتكون قواعد الحب والإخاء بين البشر مظاهر تحققها وفعليتها.
وفي هذا السياق، أجدد الدعوة التي أطلقتها منذ ثلاثين سنة ونيّف، ولم أتوقف عن الدعوة إليها حتى يومنا هذا، إلى إنشاء المؤسسة العالمية للزكاة والتكافل، لتحقيق الأهداف الكونية لأخلاقيات الزكاة والتكافل، إيمانًا منا بأنّ الدورَ الذي تقومُ به الزكاةُ سيسهم بشكل فعال في القضاء على صُوَرِ الحاجةِ والفقر، ويرفع البشرية إلى وضعية تضامن أرقى ونظام علاقات مستقرة، ليس في العالمِ الإسلامي فحسب، بل في العالم أجمَع.
الحج صورة تفاعل إنساني عابرة للحدود ومخترقة للحواجز الطبيعية والمصطنعة، حذار من تسييسها أو تضييق فضائلها أو تحويلها إلى شكلانية فارغة. هو محطة سنوية للتبصر والخروج من غفلة النسيان أو إغواءات الأنانية وفتنتها، وفرصة غوص عميق للذات داخل ذاتها، وملتقى آمن وحر للناس الساعين من كل فج عميق، وعلامة ميثاق قديم بين الله وخلقه، لتجديد العهد مع الله وتحمل أمانة المسؤولية تجاه الإنسان.
الأمير الحسن بن طلال
رئيس منتدى الفكر العربي