حسن أوريد
في الأسبوع
المنصرم حضرت فعاليات مهرجان حول الحمار، تنظمه جميعة مغربية في قرية صغيرة في
قصبة بني عمار، على بعد زهاء ساعتين من الرباط بالسيارة. كان موضوع الاحتفاء
بالحمار موضوع سخرية، ولم تُعره السلطات أهمية، وتندرت عليه، ولكن القيّمين على
المهرجان ألحوا على مهرجانهم وارتأوا أن ذلك من شأنه أن يخرج قرية فقيرة مهمشة من
العزلة ويسلط عليها الأضواء.
أغلب القيمين على المهرجان من قدماء اليسار، وممن عانقوا لفترة الاشتراكية
العربية، وكانوا قريبين من توجهات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ثم التحقت
بالنواة عناصر ذات توجهات أمازيغية، إذ المنطقة فسيفساء للعنصر العربي والأمازيغي.
التقى اليسار والأمازيغيون حول الاحتفاء بالحمار، وقلما يلتقي اليسار العربي
والتوجهات الأمازيغية، لكن الحمار وما حمّلوه جمعهم.. رأى اليساريون في الحمار رمز
البذل والصبر والوفاء والتضحية والخدمة، ووجدت الاتجاهات الأمازيغية في الحمار
مناسبة لترتبط بالجذور العميقة لتاريخ شمال افريقياوالتذكير بصاحب الحمار الذهبي
أفولاي، في أول رواية عالمية، ذات منزع فلسفي، ولتذكر كذلك بأن رمزية الحمار أو
الأتان (أنثى الحمار) اقترنت في شمال افريقيا بالتمرد، إذ كان يُنعت كل ثائر
ببوحمارة أو بوتْغْيلوت بالأمازيغية، ومنها قبائل عريضة في شمال افريقيا تنتسب إلى
حركات تمردية قادها أصحابها وهم على ظهر أتان، ولذلك يسمون ببني سنوس، وأسنوس هو
كذلك من أسماء الحمار بالأمازيغية، وهو ما أعطى اسم قبيلة السنوسيين، التي تحولت
إلى اتجاه صوفي، أي أن ثيمة الحمار بالنسبة للحركة الأمازيغية حمالة أوجه، ذات بعد
تاريخي وأنثروبولوجي فضلا عن بعدها الأدبي. والواقع أن الذي جمع الاتجاهين،
العروبي والأمازيغي من قصبة بني عمّار، من خلال ذريعة الحمار هو المسألة
الاجتماعية، للارتقاء بقريتهم الفقيرة بإمكانات أكثر من متواضعة.
حججت إلى المهرجان للمشاركة في فعالياته بدعوة من المنظمين. أخذت القطار من
الرباط. المحطة تضاهي أي محطة عصرية في أوروبا، تشعرك بأنك تعيش عصرك. بعد ساعة
وصلت مدينة سيدي قاسم. بدت المدينة مهجورة، ومحطتها توقفت عند ما بناه المستعمر
الفرنسي منذ أول خط دشن ما بين الدار البيضاء وفاس سنة 1921. في ساعة من الزمن،
تقوم بسفر يعود بك إلى زهاء قرن إلى الوراء… من سيدي قاسم إلى قصبة بني عمار،
مسافة نصف ساعة بالسيارة، ولكنها تسلمك إلى مغرب ما قبل الاستعمار، عدا الكهرباء
والطريق.. أي أنك في غضون أقل من ساعتين تكون انتقلت إلى حقب متعددة في البلد نفسه
وفي اليوم نفسه. من العولمة، إلى العصر الحديث إلى العصر الوسيط. تفاوتات مجالية
صارخة، ويمكن كذلك أن نقف عند التفاوتات الطبقية في الفضاء ذاته من المدن الكبرى.
لا أحد في المغرب يتستر على المسألة الاجتماعية، مثلما أن الموضوعية تقتضي
الاعتراف بإنجازات مهمة من حيث البنيات التحتية، لكن ماذا تعنيه تلك البنيات ممن
لا يستطيع أن يستفيد منها، إما لنأيه الجغرافي أو لوضعه الطبقي؟ وإذا كان
المغاربة، أو نخبهم على الأصح، يتفقون على أولوية المسألة الاجتماعية ويحيلون إلى
التفاوتات التي من شأنها أن تهدد المكتسبات، فإنهم يختلفون حول تشخيص الوضع،
يُرجعه المسؤولون إلى اختلالات، وسوء تدبير، وعدم حسن تقدير، أي أنهم ينظرون إلى
الأعراض. أما من هم خارج دواليب التسيير فيرون أن المسألة بنيوية، وهي من تداعيات
خيارات النيو ليبرالية وفِرية نظرية الانسياب، التي كان تقول بأن خلق الثروة من
شأنه أن يعمم تداعياتها، كما لو هو جدول يسقي، وإن لم يسق رش رذاذه كافة الشرائح،
ولم يعد أحد يقول بنظرية الانسياب.
المغاربة أو نخبهم على الأصح، يتفقون على أولوية المسألة الاجتماعية ولكنهم يختلفون حول تشخيص الوضع
ومن حيث
العلاج، ترى الاتجاهات التكنوقراطية أن تتصدى لأعراض التباينات، من خلال الدعم
والمساعدة للفئات الهشة، وحزمة من الإجراءات من شأنها أن تحد من التفاوتات، وترى
أن التركيز ينبغي أن ينصب على الاقتصاد لرفع التحديات الاجتماعية، في حين ترى
المقاربة اليسارية أنه ينبغي التصدي لا للأعراض، وإنما للأسباب، وأنه لا يمكن
التضحية بالتلاحم الاجتماعي على معبد الفعالية الاقتصادية.
وترى المقاربة التكنوقراطية أن دور الدولة أن تكون مسهلة، وترى المقاربة اليسارية
أن تضطلع الدور بدور الضبط، وتشير إلى أن الدولة المسهلة أسهمت في خلق أوليغارشيات
مالية واقتصادية وعقارية، وإلى أدواء منها تضارب المصالح، وأوضاع ريعية، وهو الأمر
الذي أشعل حملة مقاطعة السنة الماضية. ويختلفون في المداخيل. ترى المقاربة
التكنوقراطية من خلال حزمة من الإجراءات، أن تصب جهدها على الفئات الهشة، وترى
مقاربة أخرى، من خلال قراءة الواقع وجغرافية الاحتجاج، أن تختص بالشباب أولا، وتصب
في قطاعات منتجة، منها تدبير الماء، أي فلاحة لا تكون لفائدة الكبار وحدهم
والمناجم، بإدماج الساكنة المحلية للاستفادة من خيراتها، والصيد البحري. لا تنفي
هذه المقاربة الأخيرة أهمية العمل الإحساني، ولكنها لا ترى فيه بلسما ولا رافعة،
وتذكر بحادث مأساوي في جماعة بوعلام، في إقليم الصويرة، قبل سنتين، حين أدى عمل
خيري غير مرخص ، إلى ازدحام ما أدى إلى وفيات. مدار الاختلاف أن المقاربة
التكنوقراطية تفكر في الأوراق المتاحة، وتغيير سلم الأولويات، وترى المقاربة
الفكرية، إعادة النظر في البارديغمات القائمة.
طبعا النقاش الجاري في المغرب ليس حكرا على المغرب، المسألة الاجتماعية مسألة
عالمية، ولم تفرز إلى الآن منظرها، وإن ظل الاتجاه الغالب هو نفض الغبار عن نظرية
الإنكليزي ويليام بيفريدج، عقب الحرب العالمية الثانية، في ما سماه بالعمالقة
الخمسة للمسألة الاجتماعية: الفقر، السكن غير اللائق، المرض، الجهل والبطالة. كان
مما ورد في النقاش بقصبة بني عمار، في مهرجان الحمار، ضرورة الإدماج المغاربي،
وذكر متدخل بما أوردته أسبوعية «ذا إيكونوميست» من أن اقتصاديات شمال افريقيا لو
اندمجت لكانت أقوى اقتصاد في المنطقة. وهي دعوة للتفكير خارج القوالب المطروحة.
عدت من مهرجان الحمار بالحكمة المأثورة: يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر.
كاتب مغربي
عن “القدس العربي”