الوكالة الجزائرية للتعاون الدولي، بالعاصمة الجزائرية، تُشرف من يوم الاثنين الماضي، على “تكوين” لفائدة 14 صحافيا ومراسلا من عدّة دول أفريقية، وقد جعلت له موضوع “تعزيز” الكفاءات في ميدان الصحافة والإعلام في أفريقيا. “التكوين” افتتحه وزير الاتصال الجزائري محمد لعقاب. وقد نوّهت الصحافة الجزائرية بأن هذه الدورة “تستهدف دراسة مواضيع تتعلق بالنشاط الصحفي في ظل الظروف الراهنة، والتعريف بالجزائر إعلاميا واقتصاديا. وكذلك توَجُّهات الدولة الجزائرية السياسية والدبلوماسية وعلاقاتها المتميزة مع البلدان الأفريقية”.
السيد الوزير، أمام المستفيدين من “التكوين”، تحدّث عن “التحوّلات الجيوستراتيجية التي تعرفها المنطقة”، والتي يلحّ على قراءتها جيِّدا، وهي التي أثرت على العديد من البلدان الأفريقية، ومنها توقف الوزير عند حمَلات التشويش ومُحاولة التضليل التي تُمارَس في ظل تلك التحولات، وهو قول بالغ الأهمية، من حيث أنَّنا أمام وزير جزائري، وللإعلام خاصة، “يتابع” التحولات الجيوستراتيجية.. لا بل ويُحذِّر من عواقبها ويقول عنها إنها “لا ترحم”.
الوزير لم يشرح لمن يُخاطبهم نوعية تلك التحولات ولا ما الذي قرأه فيها، ربّما لأن موضوع “التكوين” هو “الاطلاع” على المنجزات التي “تحققت” في الجزائر، وأيضا إعلام التشويش، وليس التعرف على التحولات الجيوستراتيجية. ورُبّما لأنه هو نفسُه غير مُطّلع بالقدر الكافي على “تفاصيل” تلك التحولات.. يعرف فقط أنها جارية وأنها لا ترحم وأن المطلوب هو قراءتها جيدا. ولعل هذه “الرُّبَّما” هي الأصوب، وإن كنت آمل أن يكون الوزير مُدركًا، حقيقة، للتحوُّلات الجيوستراتيجية الجارية في المنطقة، لأن ذلك سيؤشر على أن عُضوا، على الأقل، في الحكومة الجزائرية على بينة من تحولات جيوستراتيجية تعتري مُحيط الجزائر، بما يستدعي من القيادة الجزائرية مُمارسات سياسية مُغايرة لما اعتادت عليه لعقود، قبل التحولات الجارية. وقد يقنع الوزير زملاءه، إذا لم يكن هو من اقتنع ببعضهم وتأثّر بهم.
المهم، أن الحديث عن التحوّلات الإستراتيجية رائج بقدر ما في أروقة الحكومة، بما يشجع على التفاؤل بتوقع أن نتلمس رواجها “آجلا”، في سياسات تعاطي الحكومة الجزائرية مع دوَل جوارها ومع قضايا المنطقة. لأن ما هو واضح “عاجلا”، هو “نُكران” تام في سياسة النظام الجزائري لوجود تحولات ما في الجغرافيا السياسية، لا داخل البلاد ولا حواليْها.. داخل الجزائر يهم الشعب الجزائري وقِوَاه الديمقراطية المؤتمنة على مصالحه والساعية إلى تقدمه. خارج الجزائر، واضح أن إصرار حكام الجزائر على عدائهم للمغرب هو موَجِّههم الأساس في إدارتهم لعلاقاتهم الخارجية، وليس مصلحة الجزائر ولا مُراعاة إملاءات التحولات الجيوستراتيجية، ولو في أهم مظاهرها، وهو خروج العالم من سياق الحرب الباردة ودخوله في طور “الحروب النّاعمة” المخترقة لحرب عالمية ثالثة بالتقسيط وبتعدّد وتنوع مواقد النار.
الحكومة الجزائرية ترى المغرب فقط… تراه في علاقاتهم مع فرنسا، مع إسبانيا، مع دول الخليج العربي، مع دول الساحل والصحراء، مع العديد من الدول الأفريقية وتراه في تحركاتهم المغاربية.. تراه “عدوا متسلِّلا” إلى علاقاتهم، مع أنهم هم من يستفزون فرقاء علاقاتهم بإقحام حاجتهم للإضرار بالمغرب في علاقاتهم البيْنية، فيُفسدونها ويجدون أنفسهم في وضع اللُّهاث من أجل ترميم ما خرَّبه مسعاهم مع “أصدقائهم”. ولنا في علاقاتهم مع إسبانيا ومع الإمارات العربية مثالان واضحان على الخسائر الدبلوماسية الجزائرية، بسبب الممارسة بحساسية العداء للمغرب معهما.
اللُّغم الانفصالي الذي اعتقدت حكومة الجزائر أنها تزرعه للمغرب، وتتوهم رعاية اتِّساعه وتأجيجه، شظاياه تطايرت، فقط، في دبلوماسيتها، وضِدَّا. وبقية الأمثلة على تهوُّر الدبلوماسية الجزائرية وانفعالاتها لا تقل وُضوحا، بدأً من دول منطقة الساحل والصحراء، والتي تتطور ريبَتُها من قيادة الجزائر إلى الحذر منها، وهي تمضي نحو التشكُّل عداوة معها.. والمغرب غير منشغل بكل ذلك ولا يعنيه، ولكن “السادة” في الجزائر يُصرون على إقحامه فيه.
وحتى فلسطين لم تسلم من إسقاط عداوة نُخبة الحكم في الجزائر للمغرب عليها.. قائد حزبي، من الأذرع الحزبية للنظام الجزائري، سيُصرِّح بأن “باب المغاربة” في القدس هو جزائري وبالتالي فهو في ملكية الجزائر وينبغي تسجيله بتلك الصفة لدى اليونسكو. لا التوقيت ولا الموضوع يسمحان بمناقشة الشيخ الإمام الحزبي في حقائق التاريخ. خاصّة وحَرب التهويد والإبادة الإسرائيلية على فلسطين على أشُدّها. وأول تلك الحقائق أن الباب فلسطيني، ليس مُعرَّضا للبيع ولا للمزايدات، وأساسا ليس موْضوعًا لهوس القيادة الجزائرية، وتابعيها، بمطاردة اسم المغرب في التاريخ، في الفنون، في الطبخ وفي اللباس..
رُبّما أن القضايا الإستراتيجية ليست من اختصاص الوزير محمد لعقاب، هي عنده مُجرد هواية. ولأنه يحترف مُمارسة الإعلام، بكل ما يعتريه من حالات وما يستدعيه اليوم من مُوَاجهة لممارسة التضليل والتشويش، لن يجد مثالا على إعلام التحريض بالأخبار والحوارات والشائعات الزائفة، أقوى وأكثر نشاطا في تلك الممارسة من صنف الإعلام، المتصل بالقيادة في الجزائر، والذي يشرف عليه الوزير نفسه. ولن يجد أفضل مثال على ذلك من “الاعترافات”، التي نقلها الإعلام، المكتوب والسمعي البصري، يوم 16 فبراير الجاري، لمغربي (33 سنة)، قيل عنه بأنه مهرِّب مخدرات، اعتقلته كتيبة من الجيش الجزائري (وليس أجهزة الأمن، لغاية إثبات فعالية الجيش) معه 207 كيلوغرامات من مخدر الكيف. تلك الاعترافات تُسوَّق على أنها “دليل” على “توَرُّط” المخابرات المغربية في تهريب المخدرات إلى الجزائر.
هذا والعالم يشهد، كيف أن تلك المخابرات المغربية تشن حملة متواصلة ضد تجار المخدرات المغاربة أولا، ولا حصانة لهم، لا مهنية ولا اجتماعية، من المتابعة القضائية. وأن كفاءاتها المهنية ومصداقيتها مشهود لها بهما في التعاون الأمني الدولي، في مواجهة الإرهاب، تبييض الأموال، مُحاربة الجريمة المنظمة وطبعا محاربة التهريب الدولي للمخدرات. تلك “الاعترافات”، محاولة فاشلة للتشويش على المصداقية الدولية لكل المخابرات المغربية، بكل أجهزتها. وهي أيضا محاولة ضعيفة المبْنى، بضعف مضمونها، الذي كتبته المخابرات الجزائرية، ليس بما تعرفه عن المغرب، بل بما تتمناه وبما تتوَهمه. “المُعترف” تحدَّث بخطاب سياسي معارض لسياسات الدولة المغربية، وليس بما يكون مُهرب مخدرات قد تعوَّد عليه من إقرار بما اقترفه. الرجل برَّر امتهانه لتهريب المخدرات، وإلى الجزائر خاصة! بصعوبة الحياة الاجتماعية وضيقها وبغلاء المعيشة وبانعدام فرص الشغل.. ويا للعجب، برّرها أيضا، بنفاد قنينة الغاز في الأسواق وغلاء سعرها!
وسيُضيف “المعترف”، الضحية، أنه ضد “القمع” الذي يمارسه النظام المغربي، خاصة ضد من يُعبِّر عن رفضه للتطبيع مع إسرائيل، ويقول إنه كان ضحية ذلك القمع. وهنا أيضا العالم تابع كيف أن الوقفات والمسيرات السياسية المتضامنة مع الشعب الفلسطيني لم تتوقف، في كل مدن المغرب، منذ بدأ العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، ولم تتعرض للمنع ولا للتشتيت ولا للقمع. في حين لم يَسمح النظام الجزائري لشعبه بالتعبير عن التضامن مع الشعب الفلسطيني، وهو النظام الذي يزعم أن لا أحد يضاهيه “في فلسطينيته”. “المعترف” المسكين قُوِّل ما لا يعرف وما لا يفهم وما لا يتناسب و”ثقافة” مُهرب مخدرات، شاب، يُفترض أن يكون هو أول المخدَّرين بها، واللاَّهين عن كل شيء عدا عن البحث عن المال. فإذا به تحول، على يد المخابرات الجزائرية وإعلامها مناضلا سياسيا ومعارضا شديدا ومناضلا قوميا ولا أشد.
إنه مثال على التضليل وعلى التشويش والأخبار الزائفة، يجدُر بالسيد محمد لعقاب عرضه على المستفيدين من “الدورة التكوينية”، التي أشرف على افتتاحها. وهو لن يفعل ذلك، لأنه تعوَّد على إعلامه وعلى مضمونه وعلى ممارساته. وهو لن يجد في ذلك الاعتراف خُروجا عن واقع الحال، في إعلامه.. ومن قال إنّ ذلك التكوين كان فعلا للتكوين فقط. وأيضا أليس الحديث عن التحولات الجيوستراتيجية مجرد كلام لملء فراغات دورة تكوين رُبّما في الكلام الفارغ.
طالع السعود الأطلسي
كاتب مغربي