لماذا تنتفض الشعوب؟ لماذا يخرج الناس على النظم المسيطرة ومن خارج الأطر المعهودة حتى لنكاد نرى القاع الاجتماعي يتحرك بكليته بدون أي أداة تنظيمية معروفة نقابية أو حزبية؟
قد تكون عبارة الراحل سلامة كيلة التي طالما رددها “عندما يتساوى الخوف من بطش السلطة مع الموت جوعا تصبح الانتفاضة أمرا حتميا”. هي الإجابة المقتضبة على السؤال الأول، لكن، هل بات سيف المجاعة مسلطا على المجتمعات البشرية كافة حتى بتنا نتوقعها في أي بلد من بلدان العالم؟
وإذا كانت أوضاع البلدان العربية متشابهة من حيث تخلف اقتصادياتها وتبعيتها المزمنة لمراكز النظام العالمي واختلال موازين التجارة فيها لمصلحة تلك المراكز من جهة وإذا كانت طبيعة القوى المسيطرة فيها متشابهة من حيث تراجع الديمقراطية وسيادة الاستبداد والتوريث السياسي والتحول المافيوي للفئات القابضة على مقادير بلداننا قد جعلت انتفاضة تونس لا تقتصر في امتدادها على تونس فقط بل تمتد إلى بلدان عربية عديدة، فما هي أوجه الشبه بين الفرنسيين والسودانيين كي ينتفضوا في الوقت ذاته؟
في الواقع إن سيطرة القوى الريعية على النظام الاقتصادي العالمي والتي ظهرت مفاعيلها في أزمة 2008 المالية التي ضربت العالم، حيث تتمركز الثروات بأيدي قلة متلهفة إلى الربح السريع ذي الأرقام الفلكية عبر أسواق المال والمضاربات المالية والعقارية، الذي لا يتأتى عن طريق الاقتصاد المنتج. هذه السيطرة تدفع بملايين البشر إلى البطالة والتهميش وفي نفس الوقت تفرض على السلطات السياسية سياسة اقتصادية تعفي الثروات الكبرى وحركة الأموال من الضرائب، كما حدث في فرنسا على يد الرئيس إيمانويل ماكرون، ما يؤدي إلى عجز كبير في موازنات الدول التي تلجأ إلى رفع الدعم عن الخدمات العمومية الأساسية، بل وترفع الضرائب المباشرة على ذوي الدخول المحدودة وتفرض المزيد من الضرائب على الحاجيات الأساسية كالوقود والغذاء لتعوض شيئا من عجز الموازنة.
إثر أزمة 2008 المالية بادرت الإدارة الأميركية إلى تعويم بعض المؤسسات المالية الكبرى من أموال الخزينة العامة، أي من أموال دافعي الضرائب. وقبل ذلك رفع الدعم عن قطاعات خدمية عديدة وفرض ضرائب جديدة على المواطنين. أي أن مؤسسات مالية خاصة حصلت على أموال المواطنين لتواصل عملها عبر قوانين سنّتها الإدارة السياسية.
هنا لا نستغرب أن ينعت الفرنسيون الرئيس إيمانويل ماكرون برئيس الأثرياء.
صحيح أن الأزمات المالية والاقتصادية العالمية تلقي بوطأة أشد على مجتمعات البلدان الطرفية نظرا لعلاقة التبعية الاقتصادية والمالية التي تربطها ببلدان المراكز، لكن مجتمعات البلدان المركزية التي اعتادت على خدمات دولة الرعاية والرفاه أصبحت أقل مناعة تجاه الضغوط الاقتصادية المستجدة والتي تأخذ بعدا تصاعديا.
كل هذا يجعل انتفاضاتها تتزامن مع انتفاضات المجتمعات الطرفية الأكثر احتمالا لتلك الضغوط والأكثر اعتيادا على حياة الشح والندرة، لكن الضغوط عليها تصبح يوما بعد يوم أكثر إيلاما إلى درجة عدم المقدرة على التحمل. وإذا كان تفاقم الأوضاع في الأحوال العادية يتدرج بهدوء، فإن ذلك سيشهد تصاعدا حادا ومؤلما في لحظات الأزمات والانهيارات المالية التي أصبحت متقاربة أكثر مما كانت دورات أزمات فائض الإنتاج التي اعتادها النظام الرأسمالي.
وفي ضوء التوقعات الكثيرة التي تشير إلى أن العالم يوشك أن يشهد أزمة مالية أشد عنفا من أزمة 2008، فإن ذلك سيدفع المجتمعات إلى انتفاضات وثورات لا ندري أين ستضرب وإلى أين سوف تمتد ولا يمكن أن نتكهن الآن عن مدى عمقها وجذريتها ولا عن مآلاتها.
الاحتجاجات التي نشهدها اليوم قد تكون “بروفة” أو تمرينا لما هو آت. فالانتفاضات قادمة بالفعل طالما أن شروطها قائمة وربما ستكون أشد حضورا في القريب العاجل.
أما عن سؤال لماذا تخرج الانتفاضات الشعبية من القاع المجتمعي قافزة فوق الأحزاب السياسية والمنظمات النقابية، فلأن هذه الأحزاب وتلك النقابات باتت أعجز من أن تؤطر الفئات الاجتماعية الأكثر تضررا من السياسات الاقتصادية والاجتماعية، هذه الفئات التي توسعت باضطراد بالتوازي مع السياسات الاقتصادية تلك لتشمل غالبية المواطنين، بل إنها تتجاهل وجودهم. وهذا ما أفقدها تماما ثقة هؤلاء فتجاوزوا عنها حين بلغت أوضاعهم دركا لا يمكن تحمله.