أحمد عصيد
في نقاشنا مع المغاربة من التيار المحافظ، لا يبدو أن لنا نفس نظام الأولويات، فهم يتحدثون دفاعا عن نصوص دينية، ومعتقدات وأفكار فقهية، في الوقت الذي يتعبأ فيه العالم لإنقاذ الإنسان وحمايته.
وهل نحن بحاجة إلى التذكير بأن هدفنا ليس مناقشة الغيبيات والمعتقدات، بل كيفية تدبير شؤون الدولة والمجتمع في أوقات الأزمات كالتي نجتازها ؟ كما أنّ المعتقدات ليست غاية في ذاتها، إذ العبادة حق من حقوق الأفراد، لكنها لا ينبغي توظيفها ضدّ مسؤوليات وطنية، كما لا يمكن تعويض قيم التضامن والعمل والانضباط والالتزام بمعتقدات أو طقوس قد تتعارض مع هذه القيم أو تضعفها، كما سنبين في هذا المقال:
ـ مواطن مغربي نشر مقالا يعتبر فيه أن ما قام به مدير منظمة الصحة العالمية من توضيح كيفية غسل اليدين وتعقيمهما هو نفسه الوضوء الذي يقوم به المسلمون والذي يحفظ الأطفال فرائضه في المدرسة، وسواء قصد هذا المواطن ذلك عمدا بغرض التشويش على الحملة الوطنية للتحسيس، أو قال ذلك بحسن نية، إلا أن ادعاءه ينطوي على مغالطة خطيرة وتلفيق كبير لأنه قد يوهم المواطنين في عزّ حملة التحسيس الحالية بأن الوضوء هو المقصود بغسل اليدين لمواجهة وباء خطير. والحقيقة أن ما قصده مدير المنظمة الدولية هو غسل اليدين بالصابون عدة مرات، وعلى رأس كل ساعة بغرض التعقيم الصحي، وهذا لا علاقة له بالوضوء، الذي لا يمكن أن يغني عن العملية المذكورة.
ـ مواطن آخر بدا مخبولا وهو يعتبر الدولة “دار حرب” ينبغي “الجهاد” فيها لأنها قررت إغلاق المساجد حفاظا على سلامة الناس، وها هو الجواب قد جاء من ماليزيا حيث أدى ازدحام الناس في المساجد إلى ارتفاع مهول في عدد المصابين تجاوز حاليا 1200 مصاب دفعة واحدة.
أما مصر فمن المنتظر أن تعيش ظروفا أسوأ بسبب الأعداد الكبيرة التي حضرت صلاة الجمعة الأخيرة، والتي اعتكفت بعد ذلك حول ضريح السيدة زينب تتضرع وتتلو الأذكار دون مراعاة الاحترازات الصحية ومنها المسافة بين الأفراد.
ـ مواطنون آخرون بدوا مهتمين بما عبر عنه الرئيس الأمريكي الذي دعا الناس إلى التضرع إلى الله، حيث اعتقدوا أنها نفس فكرة دعاة المسلمين الذين دعوا إلى ذلك أيضا، بينما الحقيقة أن الرئيس الأمريكي قبل أن يدعو الناس المؤمنين إلى الصلاة وعد بأن أمريكا ستكتشف اللقاح المناسب في بضعة أسابيع، كما أعلن عن جميع التدابير الحازمة لمواجهة الوضع الحالي، بما فيها الاحتياطات التي تتوقع الأسوأ. إن حديث الرئيس الأمريكي عن الدعاء إلى الله هي عادة معروفة لدى جميع الرؤساء الأمريكيين في حالات الشدة، لأن الكثير من أعضاء المجتمع الأمريكي محافظون نوعا ما (ليس بطريقة المسلمين طبعا)، وهذا معناه أن الروح الأمريكية البراكماتية لا تُفهم إلا عندما نجمع بين الأمرين، بين العمل الجاد والانتاج والبحث الدؤوب، مع الاستعانة عند الحاجة بالجانب الوجداني العاطفي لتخفيف العبء النفسي عن الناس المؤمنين وتهدئة الخواطر، ولكن لا أحد من الرؤساء الأمريكيين اعتبر بأن الكوارث “عقاب من الله” و”انتقام من البشر” بسبب أفعالهم أو اختياراتهم، لأن هذا الزعم يُغير كل شيء.
ـ مواطنون آخرون يروّجون ما نسبوه إلى رئيس إيطاليا بأنه قال “استنفذنا كل إمكانياتنا واقعيا ولم يعد لنا سوى التوجه إلى السماء بالدعاء”، لكن هؤلاء المواطنين لا ينتبهون إلى الحملات الكبيرة التي عرفتها إيطاليا ضدّ الحكومة المتهمة بعدم القيام بواجبها لإنقاذ مواطنيها، كما أن نقابة الصحة قامت بحملة ضد الحكومة بسبب تهميش المسنين وإعطاء الأولوية للشباب، معتبرين أن الحق في تلقي العلاج هو حق يتساوى فيه الجميع أمام الدولة والقانون. فكلام الرئيسي الإيطالي إن كان صحيحا، فهو مخالف لكلام الرئيس الأمريكي، إذ يبدو مجرد محاولة لتبرير عجز الدولة، عبر الاستعانة بالغيبيات للتغطية على تقصير المسؤولين. وقد شهد طبيب صيني بعثت به الصين لمساعدة إيطاليا في محنتها، شهد خلال ندوة صحفية بأن السلطات لم تكن حازمة في تطبيق الحجر الصحّي وجعل المواطنين يدخلون بيوتهم في الوقت المناسب، وأن هذا ما ساهم بشكل كبير في انتشار الفيروس.
وإذا شئنا تحليل ذهنية المسلمين من خلال هذه المواقف فسنجد أنها ضاربة بجذورها في الفقه الإسلامي القديم، حيث تعكس هذه المواقف والتأويلات سيكولوجية متوترة تبحث عن عزاء، إذ يعتبر المواطن المسلم بأن دعوة الرؤساء الغربيين إلى الصلاة أو الدعاء تعني “فشل العلم” و”محدودية العقل البشري” و”تهافت القوى العظمى” أمام كائن مجهري صغير، إنهم يعتبرون الفيروس قوة تنتصر على الغرب وتثأر لهم، وتقوم بتركيعه لكي يعود إلى مستواهم، مستوى التضرع إلى السماء والهزيمة أمام ظواهر الطبيعة. ما يعني أن كل الثورات العلمية المجيدة تظل محدودة أمام خصوصيتهم العقدية، وهنا يلتقي هؤلاء جميعا بشكل ما مع أصحاب خرافة “الإعجاز العلمي في القرآن”.
إن فكرة محدودية العقل البشري وقصور العلوم هي فكرة فقهية إسلامية قديمة، ترسخت مع فقهاء المسلمين ضدا على ما سمي بـ”العلوم العقلية”، التي كان يشتغل بها المفكرون والفلاسفة والباحثون في الظواهر الطبيعية، ومنها الرياضيات والطبّ والهندسة والطبيعيات والفلك، وكانت تعتبر عند الفقهاء علوما غير نافعة في الآخرة، ولهذا كتب ابن تيمية “العلم ما قام الدليل عليه والنافع منه ما جاء به الرسول”، كما كتب أيضا “والمقصود هنا أن هذا العلم هو الذي تقوم عليه براهين صادقة، لكن لا تكمل بذلك نفس، ولا تنجو به من عذاب، ولا تنال به سعادة”. واستحضر قول الغزالي:” هي بين علوم صادقة لا منفعة فيها، ونعوذ بالله من علم لا ينفع، وبين ظنون كاذبة لا ثقة بها وإن بعض الظن إثم”.
لهذا لم يفهم المسلمون حتى اليوم معنى أن العلوم الدقيقة والتجريبية علوم “نسبية”، وأنها تعيش بين الفينة والأخرى قطائع تتطور بها تطورا نوعيا يجعلها تقوم بطفرات هائلة، حيث ظلوا يعتبرون أن الطابع النسبي للعلوم يعني قصورها أمام المطلقات الثابتة.
ويفسر هذا لماذا اضطهد الفقهاء المفكرين والمختصين في تلك العلوم واتهموهم جميعا ـ بدون استثناء ـ بالزندقة والكفر، حيث اعتبروهم مشتغلين في منظومة فكرية أجنبية، ومنهم جابر بن حيان وابن الهيثم والخوارزمي وابن سينا والرازي وابن فرناس وابن رشد وابن النفيس وغيرهم.
خلاصة القول: إذا كانت الطقوس الدينية من أي نوع شأنا فرديا لكل واحد الحق في ممارستها حسب قناعاته، فإنها لا يمكن أن تؤطر حملة وطنية لمواجهة الخطر، الذي لا يعرف الطائفية ولا يميز بين المعتقدات والألوان والأنساب والفئات الاجتماعية.