أحمد عصيد
ما زال الارتباك والتخبط سِمَة السياسة اللغوية للدولة المغربية، التي تطبعها على العموم خاصيتان: عدم وضوح الأهداف والمرامي الحقيقية لذوي القرار، والتي يتم التعبير عن خلافها في الشعارات المرفوعة، ثم التحكم من فوق والرغبة في إنهاء النقاش المجتمعي بدون تحقيق مكتسبات فعلية للغات البلد. وهكذا فبعد اللفّ والدوران الذي عرفه المجلس الأعلى للتربية والتكوين، جاء النقاش المفتعل حول لغة تدريس العلوم مع القانون الإطار، ثم إصدار القانون التنظيمي للأمازيغية بدون التعديلات الجوهرية المطلوبة، وبدون حتى أخذ ملاحظات المحكمة الدستورية بعين الاعتبار، يحدث هذا في القوت الذي لا توجد فيه أية إشارة تعبر عن نية الدولة في إنشاء أكاديمة اللغة العربية التي ما زالت منذ 22 سنة حبرا على ورق، في الوقت الذي يعرف فيه معهد الأبحاث للتعريب احتضارا منذ مدة، الشيء الذي لم يمنع الحكومة من استثنائه من “الضمّ” داخل المجلس الوطني للغات كما فعلت للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية وأكاديمية محمد السادس للغة العربية، مع العلم أنه لا معنى لوجود هذا المعهد بوجود أكاديمية اللغة العربية، والقول إن معهد التعريب له مهام أخرى غير مهام الأكاديمية تحذلق في العبارات إما ينمّ عن جهل كبير أو عن رغبة في التحايل على الموضوع.
وإذا كان معهد “إركام” وحده الموجود فعليا بإنتاجاته الغزيرة منذ ما يقرب من 19 سنة، فإن باقي مكونات المجلس الوطني المزعوم لا أثر لها حتى الآن، حيث لم تتخذ الدولة المغربية أية إجراءات حقيقية وملموسة من أجل إنشاء المؤسسات التي يقول الدستور إن مجلس اللغات سـ”يضمها”. ومن جانب آخر فمن تناقضات مشروع قانون المجلس الوطني للغات أنه يمنح أكاديمية اللغة العربية التي لا وجود لها حتى الآن صلاحيات مهمة، بينما يقوم باستنساخ نص الظهير في ما يخص مهام “إركام” التي هي مهام تجاوزها المعهد عمليا في العشر سنوات الأولى من عمله، أي ما بين 2001 و2011، السنة التي تمّ فيها ترسيم اللغة الأمازيغية. هذا التمييز الواضح بين مهام مؤسستين تعنيان بلغتين رسميتين للدولة يمثل خرقا واضحا للدستور، كما أنه لا يأخذ بعين الاعتبار الواقع الفعلي.
يحدث هذا في الوقت الذي يبدو فيه واضحا من السياسات المعتمدة للدولة ومن تدابيرها السارية المفعول أن الاتجاه العام يسير نحو التمكين للغة الفرنسية والانفتاح التدريجي على اللغة الإنجليزية، ما يدلّ بوضوح على أنّ الكثير من الثرثرة الرسمية المصحوبة بوعود جوفاء فيما يخص لغات البلد ليست سوى تقنيعا رسميا للسياسات الحقيقية التي ينوي تفعيلها ذوو القرار، والتي تنفذها الأحزاب والبرلمان دون تخليها عن المسرحية المعتادة التي يتم فيها التظاهر بـ”مناقشة” الموضوع و”البت” فيه و”المصادقة” عليه.
التأجيل المتوالي لقانون المجلس الوطني للغات من مظاهر هذا الاضطراب بين الرغبة في تمرير سياسة معينة دون القدرة على التصريح بها بالكامل، والحقيقة أن السلطة لا ترغب في استمرار النقاش العمومي حول اللغات بالمغرب، وفي نفس الوقت لا تنوي إقرار ما يمنح فرص النهوض والنماء والتطور للغتين الرسميتين، ما يعني أن الوصفة السحرية للمجلس الوطني للغات ليست سوى استمرارا لسياسة التحكم من فوق، عبر سنّ سياسات يتم فرضها على المؤسسات العاملة في الميدان، ورسم الحدود المسموح بها، وجعل الخبراء وذوي الاختصاص مجرد منفذين تقنيين.