لا ريب في أن النفس أسدى خدمات جمة للبشرية، لفهم طبيعتها، وتقلباتها، وهاجسها، وسلوكلياتها، ومكنوناتها، ما ظهر منها وما بطن .. من خلال اجتهادات عدد من العملاء الذين برعوا في هذا العلم، خاصة سيجموند فرويد الذي وضع أسس التحليل النفسي ليكشف عن المناطق المعتمة في شخصية الإنسان وتفكيره، وقبله غوستاف لوبون، ثم تروتر، ومن جماعته انشق ألفريد أدلر الذي برع في التأسي علم نفس الفرد وتفسير الطبيعة البشرية. وهو مدمار طرقه الباحث جون ديوي في كتابه “الطبيعة البشرية والسلوك الإنساني” .. وسوف نعرض هنا لأهم كتب ألفريد أدلر الموسوم ب”فهم الطبيعة البشرية” كجزء من مشروعه الكبير لدراسة سلوك الفرد ضمن مقاربة نفسية تحليلة …
- الطفولة والإعاقة ..
أكيد أن الطفل المعاق، إعاقة جسدية، يختلف عمن حول من الأطفال الأصحاء، فهؤلاء يعيشون حياتهم بكل ما أوتوا من إمكانيات الفرح والسعادة، في الوقت الذي يجد الطفل المعاق نفسه يعاني الحرمان من كل ذلك، لهذا يخوض صراعا مريرا مع هذه الإعاقة، حيث يركز عليها كل تفكيره في محاولة للتعايش معها، والتكيف مع الآخرين وتقبل انطباعاتهم، وبالتالي فهو يفقد شعوره الاجتماعي. هذا يسميه المؤلف قانونا أساسا، وهو قانون يكون صحيحا لمختلف الإعاقات، جسدية وما يترتب عن الأعباء الاجتماعية والاقتصادية التي تعتري الفرد داخل المجتمع خلال حياته، فتجعله يتبنى مواقف عدائية ممن حوله.
هذا الوعي يتركب لدى الطفل منذ سن مبكرة، فهو يعي أنه لا يستطيع خوض صراع أو مشاركة ألعاب من هم أكبر منه، فيتولد عن ذلك شعوره بالإهمال من طرف الآخرين. فكل طفل يشعر بالدونية وانه تابع للآخرين، الكبر سنا، لخوض غمار بداية الحياة إلى ان يكبر، وهو شعور بالنقص. فالطفل يشعر بالأمان، وبقدرته على التعلم، كلما تمتع بجسد معافى، وإلا سيشعر بالدونية وعدم القدرة على السيطرة على البيئة المحيطة به، الشيء الذي سيتطلب صراعا بهدف الهيمنة على زملائه.
هذا النوع من الطفال يفسر ما يلم به من تجارب وخبرات كونها هزائم، لأنه يشعر دوما بالدونية وأنه مهمل من طرف من حوله، ولا تتم معاملته كبقية الأطفال الأسوياء، وهذا ما يعرف ب”الطفل المشكلة” Problem child. هذا يعني ان حياة هذا الطفل لن تكون طبيعية وسهلة، ويعني من عدم الاستقرار. كما ان الطفل يمكن أن يشعر بالدونية بسبب والديه، فيبأ بالشك والظنون في ما يقدمه له الكبار.
- كل طفل يحمل بداخله بالغا ..
كل ظاهرة نفسية تهم هدفا معينا. ومنها ظاهر الاستعداد لمستقبل التي ترافق نمو الطفل التي تتجلى من خلال اللعب. يرى المؤلف أن اللعب عند الأطفال ليس من خلق الوالدين أو المدرسين، بل هي وسائل للتعلم بفضل ما تحمله من تأثير على نفسية الطفل وخياله، وإكسابه العديد من المهارات التي لها علاقة بحياته المستقبلية، تبين علاقته ببيئته والآخرين. لهذا يمكن مراقبة الطفال أثناء اللعب للوقوف على جهده الكبير في إنجاز تلك الألعاب لتحقيق ذاته وإشباع دور القيادة، والتعبير عن ميوله، فينجلي ذلك الشعور الاجتماعي، والرغبة الحثيثة للتفوق، وبالتالي الاستعداد للحياة، بمعنى أن اللعب مرتبط بالنفس، بل هو مهنة النفس. فالطفل يحمل بداخله شخصا بالغا سيكون عليه في المستقبل.
يستعرض الكاتب ما جاء عن الذاكرة والنسيان وعدم القدرة على التركيز أنهما من خصائص النفس البشرية. أما القدرة على التركيز فهي ميزة كل شخص، يتطلب منه جهدا عضليا وشدات عصبية. فنجد عددا من الأشخاص يعانون من القدرة على عدم التركيز لأسباب متعددة، منها التعب والمرض .. ثم يأتي الإهمال والنسيان بسبب عدم الانتباه، وهو أمر يعود في الأصل إلى نقص في اهتمام الفرد بالآخرين من حوله، الشيء الذي يتيح لنا التعرف على نمط تفكير الطفل، هل يفكر في نفسه فقط، أم يأخذ يعين الاعتبار من حوله.
الإهمال هو أقصى درجات عدم الانتباه، وهو شعور اجتماعي معيب. الطفل الذي ينسى كتبه المدرسية دليل على انه لم يعتد بعد على بيئته الجديدة التي هي المدرسة. هذا الوضع يقودنا للحديث عن عجز الكثير من الفراد عن فهم الطريقة التي يشتغل بها العقل. فالكثير من العمليات الذهنية تخرج عن نطاق الوعي، أي تدخل في نطاق اللاوعي، رغم قدرتنا على الانتباه لأن الأمر لا يكمن في الوعي وإنما في الاهتمام، إذ يرى المؤلف أنها موجودة في اللاوعي. أما في الحياة الواعية، يضيف المؤلف، ما هو إلا انعكاسات، مثل نيجاتيف الصور الفوتوغرافية، وعلينا التعامل مع هذه الانعكاسات. فالمغرور يحاول تقديم صورة ساحرة عنه للآخرين، في غفلة من هذا المغرور، لأنه ليس من المجدي أن يعرف أنه مغرور، فلو وعى ذلك لأضحى عاجزا عن الاستمرار في غروره. فالمغرور لا يمكن محادثته عن غروره، فيتجنب الخوض في ذلك.
- الحب، والعمل، والعلاقات الاجتماعية .. نزعة الإشباع ..
كل فرد يميل للقوة وفرض سيطرته داخل المجتمع، فيجد نفسه في مواجهة تحديات الحب، والعمل، والعلاقات الاجتماعية، ينتج عن ذلك سؤال قدرة الفرد على فهم الحياة الجماعية المشتركة، وبالتالي قدرته على القيام بحصته من العمل، لأن المبدأ هو تقسم المعل بين البشر من أجل ضمان استمرار المجتمع البشري، وكل من يرى عكس ذلك فهو معادي للمجتمع، وهو مغرور وأناني، وحقود خبيث، يفتعل المشكلات، غريب الأطوار لدرجة الجنون، عنيف ميال للإجرام. هذه الشخصية تكون غير قادرة على مواجهة متطلبات الحياة. فيتحدد الوازع الأخلاقي لدى كل فرد من خلال تعامله مع الاخرين ومشاركتهم العمل، فيصبح مقبولا وسط الجماعة من زملائه. لكن الطموحات الأنانية للأفراد هي التي تفسد عملية توزيع العمل بينهم، فيطمحون للقوة والهيمنة عبر سبل غسر عادلة لإرضاء مصالحهم الشخصية والاقتصادية، وهم بذلك يهيمنون على الوظائف الهامة ذات النفوذ ويقصون الآخرين، ويخلقون ما يسمى الامتياز لبث التفرقة بين أفراد المجتمع. من جهة أخرى يتم استبعاد المرأة عن عدد من الأنشطة لأسباب عضلية، وهذا منطق غير سليم، لأنه يحرم المرأة من المشاركة في العمل بدعوى أنوثتها، الشيء الذي أتاح، عبر العصور، تحكم الرجل وسيطرته لتأكيد أهمية الذكور، وبالتالي هيمنتهم على الإناث وتوجيه نشاط المرأة نحو وظائف بعينها، منها الأشغال المنزلية والإنجاب. هكذا ظل الرجل عبر التاريخ يهيمن ويحقق الأمجاد دون اعتبار لدرو المرأة. هذا التسلط له انعكاسات على تربية الأطفال، فنجد الطفل الذكر مثلا، يرفض ارتداء أي لباس به رمز للأنثى، بمعنى أنه، رغم حداثة سنه، يشعر أنه ذكر ومميز عن الأنثى، فيسعى للتفوق. فالأب هو رمز القوة داخل الأسرة، فهو يقضي وقتا طويلا خارج البيت دون رقيب حول دخوله وخروج المتكرر، الشيء الذي يثير انتباه الطفال لهذا الامتياز الذي يتمتع به الأب دون الأم التي تقضي جل وقتها داخل البيت تهتم بشؤون الأسرة، من طبخ ورعاية. ويبقى الأب قدوة لأفراد الأسرة، وكلامه لا جدال فيه.
هذه الهيمنة للرجل على الأسرة ليست وليدة لحظة، بل لها جذور تاريخية وحضارية، حيث تمت سن عدد من القوانين والمعتقدات، والأعراف، والعادات والتقاليد تضمن هيمنة الرجل، بعد خوض معركة ضد النظام الأمومي حين كانت المرأة هي المسيطرة بفضل وضعها الأمومي، أي النظام الذي كان يرجع في النسب والوراثة للأم، باعتبار، حسب الدراسات الأنثروبولوجية، أن الزواج كان جماعيا، فلا يمكن تحديد والد الطفل، فكان ينسب لأمه التي، بفضل هذا الوضع، كانت تتمتع بامتيازات اجتماعية واقتصادية، حيث كانت المرأة تقوم بأدوار اقتصادية بارزة لإعالة الأسرة على مستوى الزراعة وتربية البناء والطبخ وتوفير حاجيات الأبناء، في الوقت الذي كان الرجل يقوم بنشاط الصيد الذي لا يلبي حاجيات الأسرة. لكن مع ظهور تربية الماشية انقلبت الأحوال، وبدأ دور الرجل يتصاعد، فأصبح يمتلك وسائل الإنتاج والعبيد. وقد اتخذت المرأة إلهة في المجتمعات القديمة، كما أن العديد من الباحثين، منهم مرجريت ميد، وهيلين داينر، وإليزابيث جولد ديفيز، وايفيلين ريد، القول بأن المرأة هي المؤسس الأول للأسرة البشرية … فهل الأطفال في حاجة للاطلاع على هذا التاريخ؟ وكيف التخلص من خرافة دونية المرأة؟ لماذا الإصرار على كون المرأة مصدر قلق وتوتر وارتباك بالنسبة للرجل؟ لقد ذهبت المجادلات العقائدية القديمة للتساؤل هل للمرأة روح، وهل يمكن اعتبارها من البشر؟؟
يستطرد الكاتب، أنه كان ينظر للمرأة أنها مصدر للشر، “خطيئة حواء” في الكتاب المقدس، وقصة هيلين في الإلياذة عند هوميروس، التي تسببت في مصائب كثيرة، ثم الكثير من الأساطير التي تتحدث عن دونية المرأة وخداعها، حتى في مرافعات المحامين داخل قاعات المحكمة كان يستعمل تعبير “حماقات المرأة”، والحط من ذكائها، وانتشار النكت والمثال والحكم في الدب العالمي التي تظهر سلبية المرأة، وبالتالي ضرورة خضوعها للرجل الذي هو رمز للتفوق. طهرت المرأة في أعمل بعض الفنانين بهذا المستوى، عند شوبنهاور، وسترينبورغ … لكن بعض الدراسات أظهرت تفوق المرأة في العديد من المجالات، مثل الرياضيات وتعلم اللغات، والعكس حيث يتفوق الرجال في لإقبالهم على الوظائف التي تهم الذكور .. هذه وجهة نظر الكاتب، لكن ربما لا نتفق معه في هذا الطرح، باعتبار أن معيار التفوق بين الطرفين غير وارد، لأن الفرق بين الجنسين بيولوجي فقط، ثم الهيمنة والتأثير المتراكم حول ترسيخ دونية المرأة هو الذي جعلها تعيش هذا الوضع. فالمر لا يتعلق بمنطق التفوق، وإنما بالتكامل … وعليه، فمثل هذه المفاهيم والمعتقدات ضد المرأة تجعلها تفقد الثقة في النفس، وتدمير آمالها وأحلامها، وإجبارها على تحمل الأدوار الثانوية، وعدم مواجهة مشاكل الحياة، الشيء الذي يزرع في نفسها اليأس وعدم الثقة بالنفس، علما أن لها قوة ذكاء هائلة، وهو ما نشهده في عالمنا اليوم حيث تحتل المرأة مواقع كبيرة على مستوى المسؤولية. هكذا يستمر التوتر بين المرأة والرجل بسبب كل هذه الحمولة التاريخية والحضارية من المعتقدات الخاطئة التي أريد بها إلغاء دور المرأة، الشيء الذي من شأنه تدمير الثقة المفروض أن تقوم بين الرجل والمرأة.
- الشخصية مفهوم اجتماعي .. الشخصية موقف نفسي ..
لا يمكن الحديث عن مميزات شخصية ما، حسب الكاتب، لأن الشخصية لها مفهوم اجتماعي، حيث الحديث عن هذه المميزات مرتبط بعلاقة الفرد ببيئته. فالشخصية موقف نفسي يعكس سعي الفرد للتفوق على الآخرين. ثم إن خصائص الشخصية ليست وراثية. فلا يوجد شخص فاشل بالوراثة. ويختلف الأمر بالنسبة للفتاة التي تكون معاناتها مضاعفة، فحربها دائمة مع محيطها من أجل إثبات وجودها وقوتها وأهدافها مستعملة جميع الوسائل التي في حوزتها او ابتدعتها. لهذا فإن هذه الخصائص الشخصية هي جزء من شخصيتها ولم ترثها.
أما على مستوى الشعور الاجتماعي، فالطفل يتأثر بمشاعر الدونية، لهذا نجده يسعى دائما للتعويض عن ذلك النقص. فمن السهل أن يشعر الإنسان بالنقص. فلا بأس من تسهيل حياة الطفل وجعلها أقل مرارة، وجعله يقبل على مباهجها، والاستمتاع بملذاتها رغم الإكراهات الاقتصادية التي تحول في كثير من الحالات دون تحقيق ذلك، حين ينمو الطفل وسط الفقر والإعاقة، وبالتالي فسوف ينقم على الحياة التي لم تنصفه.
إن إصدار الأحكام على البشر يكون من خلال معيار الروح الاجتماعية، لأن كل فرد مفروض عليه مشاركة الآخرين حياتهم اليومية المشتركة، طبعا إن كان هذا الشعور الاجتماعي قائما في وعي الفرد، لأن الأمر يتطلب جهدا لإقرار هذا الشعور … هكذا نقف على أنماط من الشخصيات، منها الهجومية وغير الهجومية، ولكل منهاما سماتها التي تميزها. لهذا نجد العديد من الفراد محبوبين، وآخرين غير مرغوب فيهم، يتسمون بسلوكيات سيئة، أو غير حضارية، تخضع لمعايير المجتمع. بمعنى أنه عند دراسة شخصية ما لابد من التركيز على مشاعر وعواطف هذه الشخصية، حيث تحدث العواطف تحت ضغط ضرورة من الضرورات الواعية أو غير الواعية، باعتبارها من الخصائص الشخصية التي يمكن وصفها ب”النمو والتطور النفسي”. أما المشاعر فتحدث كلما “توفر لها المكان المناسب لأسلوب الحياة”، وتكون اختيارية، مثل الغضب والحزن، والاشمئزاز، والخوف … أو مترابطة، مثل السعادة، والتعاطف، والتواضع، …
- خاتمة
إن النفس لا تتحدد من خلال عوامل الوراثة، بل من خلال التأثيرات الاجتماعية. هذه التأثيرات إن كانت مزعجة، فإنها تتسبب في تجمد الشعور الاجتماعي، أو استحالته، فلا يرتقي بسبب ذلك، فيتخذ الفرد طريقه نحو الدمار. لهذا فالقانون الخاص بالنمو والتطور النفسي لا يقبل الجدل، إذ يوجه الإنسان نحو الطريق السليم الذي يتوجب عليه اتباعه ليحدد مصيره بكامل وعيه. لهذا يرى المؤلف علم ‘الطبيعة البشرية” ضرورة لفهم كل فرد من البشر.
د. محمد حماس
(باحث في التاريخ والتراث. المملكة المغربية)