نزار بولحية
ليس هذا عصر النوايا الحسنة قد يعلق البعض، وهل تحتاج العلاقة بين البلدين أصلا لذلك؟ قد يعقب آخرون باستغراب، لكن ما الذي يمنع الإسبان إن هم أرادوا أن يفتحوا صفحة جديدة مع المغرب، من أن يقوموا ببعض الخطوات العملية التي تؤكد عزمهم على القطع نهائيا مع سوءات وجرائم الحقبة الاستعمارية؟ ألن يكون من المفيد أن يقدموا بعض التطمينات الفعلية لجيرانهم بدلا من أن يستمروا في تغذية الشكوك حول حقيقة نواياهم؟
من الواضح أنهم قلقون الآن من تداعيات الحرب الروسية، وحتى من تأثيرات التغييرات المناخية وارتفاع الأسعار، لكن مركز توجسهم الأصلي يظل على الضفة المقابلة لشواطئهم، فهم ينظرون بريبة شديدة إلى التحولات التي تعرفها الرباط على أكثر من صعيد، ويخشون من أن لا يكون اليوم الذي تبدأ فيه كفة الميزان العسكري والاستراتيجي بالميلان لصالحها، بالبعيد. وليس غريبا أن يكشفوا عن بعض تلك الهواجس. فقد دأبت مراكز دراساتهم، بل حتى وسائل إعلامهم على التعبير بين الحين والآخر عن جزء من تلك المخاوف. ففي واحد من تقاريرها منتصف الشهر الجاري مثلا قالت صحيفة «الكونفيدونسيال» إن «التسلح المستمر الذي يقوم به المغرب لصالح ترسانته العسكرية، باقتناء أسلحة لا تملكها إسبانيا وهي في حاجة إليها يثير قلق الأوساط العسكرية في مدريد، خاصة أنه يساهم في تقليص الفارق أو الفجوة العسكرية التي ما زالت إلى حدود الآن لصالح إسبانيا». مضيفة أن «توجه المغرب مؤخرا لاقتناء أسلحة مدفعية من الولايات المتحدة كقاذفة الصواريخ «هيمارس» وعتاد عسكري متمثل في صواريخ تكتيكية طويلة المدى، وقنابل أثبتت قدرتها في الحرب في أوكرانيا، يؤدي بلا شك إلى تقليص ميزان القوى بين الرباط ومدريد، وهذا مثير للقلق في إسبانيا».
ينظر الإسبان بريبة للتحولات التي تعرفها الرباط على أكثر من صعيد، ويخشون من ألا يكون اليوم الذي تميل فيه كفة الميزان العسكري والاستراتيجي لصالحها، بالبعيد
والسؤال الذي قد يطرح نفسه تبعا لذلك هو لماذا لا يحاول الإيبيريون النظر إلى الجذور العميقة لقلقهم؟ وبمعنى آخر إن كانوا يخشون من احتمال وقوع هجوم عسكري مغربي عليهم في المستقبل، فهل يتصورون أنه سيتركز في تلك الحالة على أراضيهم، أم على الأراضي التي يحتلونها؟ حتى إن كان الأمر مستبعدا تماما على المدى القصير والمتوسط على الأقل، إلا أنه سيكون من المنطقي أن لا تخطط الرباط لعملية لاجتياح مدريد مثلا، بل أن تحصر هدفها فقط في استعادة بلدات وتخوم بعيدة عن البر الإسباني ومتصلة بها جغرافيا وحضاريا وتاريخيا. وهنا فإن على الإسبان أن يقلقوا بالفعل، لكن ليس من فرضية اختلال التوازن العسكري في يوم من الأيام بينهم وبين المغرب، بل من عواقب وتداعيات استمرار احتلالهم أراضي وجزرا وحتى صخورا بعيدة عنهم، تشكل امتداد طبيعيا له. فما حاجتهم اليوم للتمسك ببعض الأحجار والصخور على الشواطئ المغربية، وما المبرر لأن لا يتركوها لأصحابها بعد أن فقدت أي أهمية عسكرية أو استراتيجية بالنسبة إليهم؟ لقد أقروا في وقت سابق بمغربية الصحراء، وتحدثوا عن مرحلة جديدة وعن علاقات أقوى مع جارتهم الجنوبية، إلا أنهم لم يظهروا حتى الآن حماسا كافيا للمضي أبعد من إطلاق بعض التصريحات الودية نحوها. ومن المؤكد أن من ينظر لما يجري على السطح يشعر ببعض الارتياح، لكن ما الذي يحدث يا ترى وراء الكواليس، أي داخل القاعات المغلقة التي تدور فيها منذ أسابيع مفاوضات شاقة ودقيقة على ما يبدو بين العاصمتين حول عدة ملفات شائكة ومعقدة؟ الثابت أن لا شيء يعطي الانطباع على أن ثمرة تلك النقاشات قد نضجت، وأن نتائجها العملية ستبدأ بالظهور في غضون الأيام القليلة المقبلة. وما يزيد من حالة الغموض هو أن الطرفين أسدلا ستارا حديديا من التكتم الشديد على سير وتطور مباحثاتهما، ولم يرغبا في الكشف عن أي تفاصيل متعلقة بها. ولأجل ذلك فليس معروفا إن كانت تشهد تقدما ملحوظا وتسير في الاتجاه الصحيح؟ أم أنها تمر وعلى العكس بصعوبات جمة وتواجه عوائق ومطبات تحول دون أن تتوج في القريب بإمضاء اتفاقيات نهائية حول القضايا الجوهرية العالقة بين الطرفين. كما أنه ليس واضحا أيضا ما الذي أخر التوقيع على اتفاق نهائي على ترسيم الحدود البحرية بين الجانبين وليس هناك أي تفسير بالمثل للسبب الذي جعل مسألة السيطرة على أجواء الصحراء تتعطل، رغم الاعتراف الإسباني بمغربية تلك الأراضي. وربما لن ينهي لا صمت ولا حتى تهوين المسؤولين في الجانبين مما قد لا يعتبرونه تأخرا وتعطلا، بل تعمقا في دراسة ملفات إجرائية وفنية بحاجة لمزيد من الوقت، سيل الاستفسارات حول تلك النقاط التي لا تزال غامضة، لكن إن كان الإسبان قد وافقوا على القواعد والمبادئ الأساسية، فما الذي يجعلهم يتراخون ويماطلون حين يطلب منهم تطبيقها على الأرض متعللين بالحاجة إلى دراسة التفاصيل؟ إن الجلسة الصاخبة التي شهدها البرلمان الإيبيري الأربعاء الماضي كانت شاهدا حيا على مدى تذبذبهم وتخبطهم في التعامل مع المغرب، الذي أصر رئيس الحكومة الإسبانية على وصفه بالحليف والصديق، فيما شددت أحزاب المعارضة وحتى اليسار الراديكالي المشارك في الحكومة على اعتباره الدولة التي تمارس ضغوطا شتى على نظيرتها الإسبانية. ولعل جانبا كبيرا من تلك الانقسامات التي بدت في بعض الاحيان شبيهة وإلى حد ما بفصل مسرحي ركيك يتبادل فيه النواب الأدوار، محاولين إعطاء انطباع كاذب بأن بيدرو سانشيز، قدم كل ما في جعبته من تنازلات للمغرب، وأنه لن يستطيع بعد ذلك أن يعطيها المزيد، عكس لا قراءة مجتزأة ومبتورة للمشهد الإقليمي المتسم باستمرار الصراع بين الجارتين المغاربيتين، اي المغرب والجزائر، بل بتغلغل روح استعمارية دفينة داخل أوساط واسعة من النخب السياسية، وحتى الفكرية والإعلامية في مدريد. ولا شك بأن المغرب الذي يعي جيدا أن التخلص من تلك الروح ليس بيد شانشيز وحده، ولن يحصل أيضا دفعة واحدة، وبجرة قلم، بات يعول على عامل الوقت وعلى أن يكون توثق وتشابك المصالح مع إسبانيا طريقا إلى إضعاف تلك الروح. ولأجل ذلك لم يكن من قبيل الصدفة أن يقول رئيس مجلس المستشارين المغربي، في ندوة عقدت أوائل الشهر الجاري، وبشكل فاجأ الكثيرين إن «المغرب سيسترجع مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين من دون اللجوء إلى لغة السلاح، بل عن طريق المفاوضات الجادة بين الرباط ومدريد، لأن هذا الطريق هو الكفيل بتحقيق ذلك».
لقد كان المسؤول المغربي مدركا تمام الإدراك، أن كلامه كان سيحدث ضجة كبرى في إسبانيا، غير انه أراد أن يقول للإسبان بأن القضية ليست قضية تنازلات أو منح أو هدايا إسبانية تعطى للمغرب، بل هي قضية حقوق مشروعة وتصفية إرث استعماري ثقيل لا يزال يلقي ثقله على أي طموح لإحداث نقلة نوعية في العلاقة بين البلدين، لكن هل سيفهم الإيبيريون ذلك وهل سيثبتون حسن نواياهم قبل فوات الأوان؟ حتما سيرتبط الأمر وبدرجة كبرى بضعف أو قوة تلك الروح الشريرة.
كاتب وصحافي من تونس