نزار بولحية
ستفتح زيارة ماكرون للمغرب فصلا جديدا بين البلدين، هذا ما يأمله الجانبان على الأقل، لكن ما طبيعة ذلك الفصل؟ وما الذي يحمله «الطموح الجديد للسنوات الثلاثين المقبلة»، الذي يجب أن تمثله تلك الزيارة كما أكد ذلك بيان الإليزيه؟
أكثر عواصم الشمال الافريقي انشغالا بذلك قد تكون الجزائر، لقد رفض رئيسها الذهاب إلى «كانوسا» مثلما قال في حوار بث على التلفزيون الرسمي، في إشارة إلى عدم رغبته القيام بزيارة مهينة، كما فهم من تصريحه، كانت مبرمجة إلى فرنسا، لكن هل حضر «كانوسا» آخر إلى المغرب، عندما وصل ماكرون إلى الرباط بعد شهور طويلة من الفتور والبرود بين العاصمتين المغربية والفرنسية؟ بالنسبة إلى الجزائريين فإنهم لا يفضلون التعبير بشكل واضح ودقيق عن أي توجس من مسألة عودة الحرارة إلى العلاقات بين باريس والرباط، وبالتالي فإنهم لم يعلنوا أي موقف رسمي من الزيارة التي يؤديها الرئيس الفرنسي إلى جارتهم الشرقية. وربما إن طلب من أحد منهم أن يقوم بذلك، فإن أول ما سيفعله هو أنه سيقلل من أهميتها ولن يتوانى عن وصفها باللاحدث، لكن هل يعني ذلك أن الجزائريين لا ينظرون بارتياب، وربما حتى بقلق إلى ما ستتمخض عنه تلك الزيارة من نتائج، خصوصا في ما يتعلق بأهم ملفين بالنسبة لهم وهما، الحد الذي قد ستذهب فيه باريس في دعمها المعلن للمغرب في ملف الصحراء، والأثر الذي قد تتركه العقود والاتفاقات الدفاعية التي وقعها الجانبان المغربي والفرنسي بتلك المناسبة، على ميزان القوى العسكري بينهم وبين المغاربة؟
إن ذلك يبدو مؤكدا ومحسوما، وليس معروفا إن كانت الصدفة وحدها هي التي جعلت الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون يطير إلى مصر، ساعات قليلة قبل أن تحط طائرة الرئيس الفرنسي ماكرون في العاصمة المغربية، ويكون ساعة وصولها في زيارة دولة إلى سلطنة عمان؟ أم أن ذلك كان عملا مخططا له ومقصودا في حد ذاته، ومع أنه لن يكون من السهل على أحد أن يصدق أن الأمر قد حدث فعلا بشكل تلقائي، حتى إن كانت مثل تلك الزيارات تخضع لتفاهمات واتفاقات مسبقة بين الطرفين المعنيين بها، فإن المغزى من وراء ذلك التزامن المقصود على الأرجح، يبدو واضحا وجليا وهو، أن الجزائر أدارت ظهرها لفرنسا، وباتت تتطلع وهي تحتفي بالذكرى السبعين لانطلاق ثورتها ضد الاستعمار الفرنسي، إلى أن تصوب أنظارها مجددا نحو المشرق العربي. وهذا ما لم يغفل الرئيس تبون في المؤتمر الصحافي المشترك، الذي عقده في القاهرة مع نظيره المصري، عن الإشارة إليه، ربما بشكل غير مباشر حين قال لمضيفه: «لا نستطيع أن نذكر الثورة الجزائرية، دون أن نذكر المساندة التي وجدناها آنذاك من الشقيقة مصر، أيام كانت مصر حاملة لشعلة القومية العربية ومساعدة للشعوب التي كانت تسعى للانعتاق».
غير أنه وقبل أسبوع واحد من زيارة الرئيس الفرنسي إلى المغرب، التي اعتبرت تاريخية واستراتيجية من جانب قسم واسع من وسائل الإعلام الفرنسية والمغربية، خرجت صحيفة «الخبر» الجزائرية بالتعليق التالي: «تبدو الزيارة التي سيؤديها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون إلى المغرب بين الثامن والعشرين والثلاثين من أكتوبر الجاري تلبية لدعوة من العاهل المغربي، حسبما أعلن عنه اليوم الاثنين القصر الملكي بالرباط كما لو أن باريس اختارت موقعها، بعد أن بلغت العلاقات مع الجزائر حدود القطيعة، بسبب انحيازها لمخطط الحكم الذاتي الخاص بالصحراء الغربية والاستفزازات المتعمدة في قضية الهجرة». وكان المعنى الوحيد لحديث تلك الصحيفة عن اختيار فرنسا لموقعها، هو أن الفرنسيين باتوا الان يقفون في الصف المعادي للجزائر، وأنهم ثبتوا أنفسهم بنظر الجزائريين كعدو تاريخي أو أبدي لهم. لكن ما الذي جعل من فرضية ارتفاع حدة التوتر في المستقبل بينهم وبين فرنسا تبدو عالية بنظر البعض على الأقل؟ وما الذي قد يبرر أصلا وجود تلك الحالة؟ لنترك جانبا القضية القديمة والشائكة بين البلدين أي ما تعرف بقضية الذاكرة والتعامل مع الإرث الاستعماري، فهل قامت باريس في الشهور الاخيرة مثلا بأي أعمال أو تصرفات من شأنها أن تشكل خطرا حقيقيا، أو تمثل تهديدا جديا وقويا على أمن واستقرار وسلامة التراب الجزائري، أو تمس وبأي بشكل من الأشكال باستقلال وسيادة بلد المليون ونصف المليون شهيد؟ وهل صدرت عن سلطاتها تصريحات أو مواقف عدائية، أو غير ودية نحو الدولة الجزائرية؟ قطعا لا. إن مثل تلك الاتهامات تقتصر فقط على الجارة الشرقية. غير أن المثير حقا هو أن السبب الوحيد الذي يدفع الجزائريين لأن يضعوا المستعمر السابق مجددا في خانة العدو، يبدو كامنا في مكان آخر خارج حدودهم. لقد كانت الشرارة الاولى له عبارة عن رسالة بعثها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في يوليو الماضي إلى العاهل المغربي وقال له فيها إنه «بالنسبة لفرنسا فإن الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية يعد الإطار الذي يجب من خلاله حل هذه القضية – أي قضية الصحراء ـ وإن دعمنا لمخطط الحكم الذاتي الذي تقدم به المغرب في سنة الفين وسبعة واضح وثابت»، قبل أن يضيف أن «ذلك المخطط يشكل من الآن فصاعدا الأساس الوحيد للتوصل إلى حل سياسي عادل ومستدام ومتفاوض بشأنه طبقا لقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة». وكان ذلك كافيا لجعل الجزائر ترد بقوة من خلال بيان شديد اللهجة، وصف القرار بغير المنتظر وغير الموفق وغير المجدي، وأنه جاء «نتيجة حسابات سياسية مشبوهة وافتراضات غير أخلاقية وقراءات قانونية، لا تستند إلى أي مرتكزات سليمة تدعمها أو تبررها «قبل أن يشدد على أن «الحكومة الجزائرية ستستخلص النتائج والعواقب كافة التي تنجر عن هذا القرار الفرنسي، وتحمل الحكومة الفرنسية وحدها المسؤولية الكاملة والتامة عن ذلك»، لتقرر بعدها سحب السفير الجزائري من باريس ودعوته للتشاور.
لكن هل كان الأمر يستدعي ردة الفعل تلك؟ ولماذا لم يتعامل الجزائريون بشكل مماثل مع الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء، الذي سبق ذلك بعدة شهور؟ لقد قال وزير الخارجية الجزائري في مؤتمر صحافي عقده في يوليو الماضي، إن «اصطفاف فرنسا بصفة كلية إلى جانب المغرب يقصيها من أي دور للمساهمة في الجهود الدبلوماسية الرامية لحل هذه القضية، سواء داخل مجلس الأمن كدولة دائمة العضوية، أو خارج هذه الهيئة الأممية المركزية». ولأن الموقف الفرنسي من الصحراء كان مفتاح التقارب المغربي الفرنسي الأخير فإن باريس تبدو أمام تحد صعب ليس فقط بلعب دور في النزاع الصحراوي، بل بالمساهمة وبشكل فاعل وسريع في إنهائه في إطار السيادة المغربية. وعزف الفرقة الموسيقية المغربية عند وصول ماكرون إلى مطار الرباط ومباشرة بعد النشيدين الرسميين لفرنسا والمغرب لنشيد «صوت الحسن ينادي بلسانك يا صحراء» لم يحدث عبثا. لقد كان الملخص المبكر للفصل الجديد بين البلدين.
كاتب وصحافي من تونس