بدا الوضع وكأن الأرض اهتزت من تحت أقدام نظام الجنرالات بعد أن قررت فرنسا الاعتراف بمغربية الصحراء وتقديم الدعم الصريح لمخطط الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، فخرج على الناس ببيان يكشف من جديد حالة التخبط التي يعاني منها أعداء الوحدة الترابية للمملكة، لاسيما بعد أن تعددت الضربات على رؤوس صانعي الوهم وعرابي دويلته والساعين لاستغلاله في تعطيل عقارب التاريخ ومنعها من التقدم نحو الكيان المغاربي الواحد والموحد القادر على تأمين مصالح شعوبه.
في يناير 2021 أكدت 40 دولة، من بينها فرنسا، دعمها لمقترح الحكم الذاتي لحل قضية إقليم الصحراء، من خلال البيان الختامي للمؤتمر الوزاري الذي نظمته الرباط وواشنطن لدعم مبادرة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، برئاسة كل من وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة ومساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر.
في ديسمبر من ذلك العام قالت وزارة الخارجية الألمانية في بيان إن برلين تعتبر أن خطة الحكم الذاتي تشكل “مساهمة مهمة” من المغرب لحل الخلاف حول الصحراء، وهو الموقف الذي أنهى قطيعة دبلوماسية بين البلدين كانت الرباط قد بادرت إليها في مايو 2021 من باب الدفاع عن حقوقها الشرعية؛ حيث قررت في مايو 2021 استدعاء سفيرتها ببرلين زهور العلوي للتشاور، بعد أن راكمت جمهورية ألمانيا الاتحادية “المواقف العدائية التي تنتهك المصالح العليا للمملكة” لاسيما أنها “سجلت موقفا سلبيا بشأن قضية الصحراء المغربية، إذ جاء هذا الموقف العدائي في أعقاب الإعلان الرئاسي الأميركي، الذي اعترف بسيادة المغرب على صحرائه”.
وبدا واضحا أن الجانب الألماني سعى بوضوح تام إلى تقدير مصالحه مع المملكة وعمل على الحفاظ على علاقاته المستقرة تقليديا مع الرباط. وفي أواخر أغسطس 2022 أكدت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك في بيان مشترك مع نظيرها المغربي أن مقترح الحكم الذاتي الذي تطرحه المملكة قاعدة جيدة لحل نزاع الصحراء، وتابعت أن “ألمانيا تعتبر مخطط الحكم الذاتي بمثابة مجهود جدي وذي مصداقية من جانب المغرب وقاعدة جيدة من أجل حل مقبول لطرفي النزاع”.
وفي 28 يونيو الماضي أكدت بيربوك من جديد أن بلادها تعتبر المخطط المغربي للحكم الذاتي “قاعدة جيدة وأساسا جيدا جدا من أجل التسوية النهائية” للنزاع حول الصحراء المغربية، وأبرزت خلال مؤتمر صحفي عقب أشغال الدورة الأولى للحوار الإستراتيجي الثنائي بين المغرب وألمانيا، التي ترأستها بشكل مشترك مع نظيرها المغربي، وجاهة مبادرة الرباط للحكم الذاتي. كما جددت التأكيد على دعمها للجهود الأممية الرامية للتوصل إلى حل سياسي لنزاع الصحراء.
وفي أكتوبر 2022 أوضح بوريطة أن عشر دول أوروبية على الأقل من أصل 27 مكونة للاتحاد الأوروبي أعربت بشكل واضح عن تقديرها الإيجابي لمبادرة الحكم الذاتي، وهي البرتغال وإسبانيا وفرنسا ولوكسمبورغ وهولندا وألمانيا وقبرص ورومانيا والمجر وصربيا. كما انضمت دولة أخرى إلى هذا الفريق، ويتعلق الأمر بالنمسا التي عبّرت في بيان مشترك، أعقب اجتماعا بين رئيس الحكومة عزيز أخنوش والمستشار الفيدرالي النمساوي كارل نيهامر، عن دعمها للمقترح المغربي باعتباره “مساهمة جادة وذات مصداقية” في العملية السياسية التي تقودها الأمم المتحدة.
وفي منتصف ديسمبر الماضي جدد وزير الشؤون الخارجية والاتحاد الأوروبي والتعاون لمملكة إسبانيا خوسيه مانويل ألباريس التأكيد على موقف بلاده من قضية الصحراء، وذكر من الرباط أن “موقف إسبانيا المتعلق بقضية الصحراء لم يتغير وهو الموقف الذي سبق التعبير عنه في الإعلان المشترك الذي تمت المصادقة عليه في 7 أبريل 2022 والإعلان الذي توج الدورة 12 للاجتماع رفيع المستوى المغرب – إسبانيا المنعقد في فبراير 2023”، في إشارة إلى ما ورد في الإعلان المشترك المصادق عليه في 7 أبريل 2022 خلال اللقاء بين العاهل المغربي الملك محمد السادس ورئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز، من أن “إسبانيا تعتبر المبادرة المغربية للحكم الذاتي التي تم تقديمها سنة 2007 الأساس الأكثر جدية وواقعية ومصداقية لتسوية هذا النزاع”.
ويمكن النظر إلى اعتراف إسبانيا بأنه الضربة القاصمة لمشروع التآمر على حقوق المملكة المغربية في أقاليمها الجنوبية، باعتبارها كانت المحتلة للصحراء والعارفة بشؤونها وبالأبعاد الجيوسياسية والخصوصيات الاجتماعية والتاريخية والثقافية للمنطقة، وبأنها الأكثر قدرة على سرد حيثيات الملف وقراءة معطياته بالشكل الواقعي المستند إلى حقائق الأرض وحسابات الإستراتيجيا.
تؤكد التطورات الأخيرة في ملف الصحراء المغربية على عدد من الاستنتاجات المهمة التي تتطلب الوقوف عندها لإدراك مدى نجاح الرباط في الدفاع عن حقوقها التاريخية في أقاليمها الجنوبية مقابل فشل المشروع الانفصالي الذي يديره ويشرف عليه النظام الجزائري.
أولا: ينظر العالم إلى الأقاليم الجنوبية على أنها جزء أصيل من التراب المغربي، وقد شدد الملك محمد السادس ضمن خطابه بمناسبة الذكرى 48 للمسيرة الخضراء في نوفمبر 2023 على أن المملكة تواصل مسيرات التنمية والتحديث والبناء من أجل تكريم المواطن المغربي وحسن استثمار المؤهلات التي تزخر بها البلاد، وخاصة بالصحراء المغربية، وأشار إلى أن استرجاع تلك الأقاليم مكن من تعزيز البعد الأطلسي للمملكة، كما مكنت تعبئة الدبلوماسية الوطنية من تقوية موقف المغرب، وتزايد الدعم الدولي لوحدته الترابية، والتصدي لمناورات الخصوم، المكشوفين والخفيين، وتابع قائلا “إذا كانت الواجهة المتوسطية تعد صلة وصل بين المغرب وأوروبا، فإن الواجهة الأطلسية هي بوابة المغرب نحو أفريقيا، ونافذة انفتاحه على الفضاء الأميركي”، وأكد الحرص على تأهيل المجال الساحلي وطنيا، بما فيه الواجهة الأطلسية للصحراء المغربية، وكذلك هيكلة هذا الفضاء الجيوسياسي على المستوى الأفريقي، مردفا “غايتنا أن نحول الواجهة الأطلسية إلى فضاء للتواصل الإنساني، والتكامل الاقتصادي، والإشعاع القاري والدولي”.
وتفعيل الوجهة الأطلسية ليس مجرد شعار، وإنما هو النتيجة العلمية لعملية حسابية بالغة الأهمية من مختلف نواحي التأثير الجيوسياسي والإستراتيجي في رسم خارطة العلاقة بين الشمال والجنوب والشرق والغرب، وخاصة بين دول جنوب الصحراء والفضاء الأوروبي ودول الشرق والجنوب مع الأميركتين، بحيث أن نجاح المملكة في بسط نفوذها على كامل امتدادها الأطلسي يعتبر ضمانا عمليا للأمن والاستقرار الدوليين وللمزيد من التعاون بين الدول والمجتمعات على مواجهة أية مخاطر راهنة أو مستقبلية قد تستهدفها، وقد أعرب الملك محمد السادس في هذا السياق عن “الحرص على توفير الخدمات والبنيات التحتية المرتبطة بالتنمية البشرية والاقتصادية، وتسهيل الربط بين مختلف مكونات الساحل الأطلسي، وتوفير وسائل النقل ومحطات اللوجستيك، بما في ذلك التفكير في تكوين أسطول بحري تجاري وطني، قوي وتنافسي”.
ثانيا: أثبت الهجوم السياسي والدبلوماسي الذي قاده الملك محمد السادس خلال ربع قرن من القيادة والإدارة المباشرة للملف، أن العالم لا يمكن التعامل مع مفرداته ومكوناته إلا من خلال المصالح وشجاعة الموقف والذكاء في التعامل مع التوازنات وإبداء الإصرار على الدفاع عن الحقوق الشرعية وعدم التفريط فيها مهما كان موقع أو حجم الطرف المعتدي أو الطرف الذي يساعده، ومن الطبيعي أن هذا الاستنتاج يحتاج إلى قوة حقيقية على الأرض وإلى تأثير جدي في الجغرافيا بأبعادها السياسية والإستراتيجية والاجتماعية والحضارية، وهو ما تحتكم عليه المملكة كدولة قوية ومحورية وفاعلة في محيطها ولديها جاذبية الموقف الثقافي والحضاري بجماله وثرائه وتنوعه وبغطائه الإنساني السامي والرفيع المتمثل في قيم المحبة والتسامح والقبول بالآخر وعدم التورط في التدخل في شؤون الغير.
ولعل نجاح المملكة في توطيد علاقاتها الأخوية النموذجية مع الدول العربية، وبخاصة الخليجية منها، وربط شبكة علاقات براغماتية واسعة في أفريقيا جنوب الصحراء وأميركا اللاتينية، وفي إظهار “العين الحمراء” عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن حقوقها التاريخية في مواجهة الدول الأوروبية كما حدث سابقًا مع إسبانيا وألمانيا وفرنسا وغيرها، ونجاحها في تشكيل علاقات متوازنة مع القوى الكبرى بما يقطع مع إرث زمن الحرب الباردة، يؤكد أن الرؤية التي وضعها الملك محمد السادس بعد فترة وجيزة من توليه الحكم في مثل هذه الأيام من العام 1999 كانت متكاملة التصورات والأهداف والأبعاد وردود الفعل المطروحة للاتخاذ عندما يتعلق الأمر بالحقوق التاريخية للمملكة في أقاليمها الجنوبية. أكد الملك أن بلاده لا تتفاوض بشأن حقوقها، وتعتبر أن ملف الصحراء هو النظارة التي تنظر بها إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط الذي تقيس به صدق الصداقات ونجاعة الشراكات. وكان واضحًا أن تلك الرسالة وصلت إلى من يهمه الأمر.
ثالثًا: إن نجاح المملكة يعني بالضرورة فشل الدويلة الوهمية المعزولة في خيام تندوف وعرابها الأول نظام الجنرالات في الجزائر الذي لم تعد مواقفه تحظى بأهمية إقليمية أو دولية، وهو ما جعله يستجدي محاولات التفهم من العواصم الغربية عبر منظمات متعددة مثل الناتو وأفريكوم، بما يشير إلى رغبة في التخلص من مرجعياته العقائدية السابقة، تقابلها نزعة الإبقاء عليها لضمان ديمومة النظام إلى أجل غير مسمى، ولو كان ذلك بالاعتماد على سياسات الوهم في عناوينها المختلفة، من بينها الدولة العظمى والأخت الكبرى المدافعة عن حق الشعوب في تقرير المصير ومنها شعب “الجمهورية الصحراوية” الذي تدافع أغلبيته الساحقة عن هويته المغربية وولائه للمملكة برمزيتها التاريخية والروحية والثقافية وبفاعليتها السياسية والاجتماعية وبأعلى هرم القرار فيها الملك محمد السادس.
والفشل الجزائري يمكن ملاحظته في المنطقة والإقليم، ومن ذلك دول الساحل الأفريقي الممتنة بقوة لمبادرة العاهل المغربي بتمكينها من الاستفادة من الواجهة الأطلسية، ومن تدهور علاقاتها مع حلفائها السابقين وفشلها في الحؤول دون انجذابهم إلى روحية الموقف المغربي والتعامل معه بالعقلانية التي يتميز بها. كما أن شعوب المنطقة، بما في ذلك الشعب الجزائري ذاته، لم تعد تخفي تململها نتيجة استمرار حالة تجميد المصالح المشتركة بين الدول المغاربية وحرمانها من أسباب النمو والتطور وتوحيد الأهداف والمصالح ومن بناء المغرب الكبير الموحد القادر على مواجهة التجمعات الإقليمية الأخرى، سواء في القارة الأفريقية أو في بقية القارات، وأبرزها الاتحاد الأوروبي. يعني ذلك أن نظام الجنرالات يبقى عنصر هدم لطموحات الأجيال وعرقلة لمصالح الشعوب وتعطيل لقطار التنمية.
ولعل رد الفعل الجزائري المتشنج على الموقف الفرنسي الأخير يفضح حقيقة الوضع الذي بات يعيشه نظام الجنرالات المحاصر في طبيعة دوره وموقعه، والذي يرى نفسه مستهدفًا من وراء كل رأي أو قرار أو موقف داعم لرؤية المملكة لحل القضية المتعلقة بأقاليمها الجنوبية، وبالتالي فإنه يجعل من نفسه المسؤول الأول عن تأبيد المشكلة وقائد طابور التآمر على مصالح المملكة وعلى حقوقها الشرعية في صحرائها، والمتورط الأبرز في تجميد تطلعات شعبه وشعوب المنطقة للانطلاق نحو فضاء أرحب من التعاون والتكامل والوحدة… وحتى لو خرج كل أبناء الصحراء في مسيرة واحدة يرفعون راية المملكة وصورة الملك ويعلنون هويتهم المغربية الصريحة، فإن النظام الجزائري سيبحث عن مبررات للتشكيك فيها ومن ثم لرفضها معلنًا الاستمرار في مواقفه المعادية للمملكة وقيادتها وشعبها.
الحبيب الأسود
كاتب تونسي