مصطفى نشاط
“….الصحراء هي التي أنتجت المغرب الأقصى ، وليس العكس. فهي التي صاغت المغرب الأقصى ككيان متكامل ، قبل أن تدمجه في القارة الإفريقية ، ثم في غرب الأبيض المتوسط .وعليه ،فإن أي جدل حول مغربية الصحراء أو إفريقية المغرب، إنما هو جدل خارج عن السياق….”
من كلمة الأستاذ محمد القبلي في لقاء تكريمه بأصيلة بتاريخ 19 يوليوز 2018
تعرّضت الأقاليم الصحراوية المغربية للتسرب الإسباني منذ سنة 1884 م ، وغالبا ما دأبت الدراسات إلى العودة إلى هذا الحدث للتأصيل لارتباط تلك الأقاليم بالمغرب. والواقع أن القرائن التاريخية تكشف عن وجود ه في فترة سابقة يسمها المهتمون بالعصر الوسيط المغربي ، والتي يمكن تحديدها ما بين دخول الإسلام إلى المنطقة في القرن 1 ه / 7 م، وحدث سقوط سبتة بيد البرتغاليين سنة 818 ه /1415م.
ولفهم سياقات ذلك الارتباط ، يقتضي الأمر استحضار التاريخ المغربي الوسيط ، كما قدمه ابن خلدون الذي خبره عن قرب، وكان أحد أكبر العارفين بخصوصياته من خلال إعمال مفتاح العصبية في تفسير مساره. ودون أن نقف مطولا عند هذا التفسير، نكتفي بالقول بأن الحكم لديه بالمغرب الوسيط، تأسس على عصبية قبلية تمكنت من فرض غلبتها على باقي العصبيات . ومن هذا المنطلق، فمجال المغرب الوسيط من السواحل الشمالية المتوسطية إلى الأقاليم الصحراوية الجنوبية ، خضع للعصبيات المغربية التي وصلت إلى الحكم من المرابطين الذين قامت دولتهم على عصبية صنهاجية، والموحدين على عصبية مصمودية، والمرينيين على عصبية زناتية.
وتتجلى وحدة المجال بالمغرب الوسيط فيما تقوله مصادر الجغرافية التاريخية ، وفي ما تقوله الجغرافية البشرية التاريخية، وفي تفاعلات السلطة بالتجارة القافلية في العصر الوسيط.
1- ما تقوله مصادر الجغرافية التاريخية : كانت الأقاليم الصحراوية المغربية مجالا لقبائل صنهاجة التي اعتبرها ابن خلدون “أوفر قبائل البربر”[1] ، وهم من أهل الوبر الذين يعيشون على الترحال والانتجاع. وقد انتهت بطونها إلى السبعين ، من بينها لمثونة وكدالة وجزولة ومسوفة ولمطة وتارڴة….وحدّد صاحب القرطاس مجالها ” في القبلة مسيرة سبعة أشهر طولا ومسيرة أربعة أشهر عرضا ، من نول لمطة…..وهي ما بين بلاد البربر وبلاد السودان”[2].
وقد دأبت المصادر على اعتبار الأقاليم الصحراوية جزءا من مجال اصطلحت عليه ب”السوس الأقصى” . كتب ابن جزي المتوفى سنة 741 ه ” في سوس من الساقية الحمراء …”[3]. وجاب ابن عابد الفاسي المتوفى سنة 1048 ه المغرب في رحلة قادته إلى حضرموت ، تحدث فيها عن ” مغرب مراكش إلى حدّ الساقية الحمراء وما وراءها إلى بلاد السودان ، وقالوا صومعة وراء الساقية الحمراء فيها يتعبدون العباد، فأردت الوصول إليها، وأنا في أيام إقامتي عند الشيخ أحمد العروسي…”- يقصد هنا جدّ العروسيين المدفون بالصحراء المغربية – . وكتب في موضع آخر:” وصلت فيه إلى دون الساقية الحمراء التي هي أقصى بلاد سوس في المغرب”[4] . وميّز أبو عبد الله السوسي المزغيتي الذي برع في علم الفلك ما بين السوس الأدنى والسوس الأقصى :” الأدنى من وادي العبيد إلى سجلماسة إلى درعة إلى مراكش مع الجانب الذي يليه من جبل درنة إلى حاحة إلى دكالة إلى أم الربيع، وسوس الأقصى هو ما بعد ذلك إلى الساقية الحمراء من ناحية الصحراء وإلى البحر من ناحية ماسة وجبل تنسيفت ومدينة رُدانة الذي يليها…” [5].
لم يكن اسم الساقية الحمراء باعتباره جزءا من السوس الأقصى غائبا عن المصادر التاريخية الوسيطية . وقد أشارت إليه في مواضع أخرى باسم “ترجة” أو”ترغة ” أو ” تارجا” أو ” تارڴا”. اعتبر ابن حوقل النصيبي المتوفى سنة 380 ه “ترجة” من قبائل صنهاجة الخُلّص[6]، وبعده بحوالي القرن ، كتب البكري المتوفى سنة 487 ه في فقرة تحت عنوان:” الطريق من وادي درعة في الصحراء إلى بلاد السودان” ما يلي : ” من وادي درعة خمس مراحل إلى واد تارجا وهو أول الصحراء”[7] .ونقل ابن عبد ربّه الحفيد المتوفى سنة 587 ه تقريبا معطيات البكري عن هذا الواد الذي يوجد بمنطقة الساقية الحمراء :” ومن بلاد السوس مدينة نول لمطة …ومن أراد الدخول من وادي درعة إلى بلاد السودان ، غانة وغيرها ، فليمشي من وادي درعة نحو خمس مراحل إلى وادي ترجا ، وهو أول الصحراء. …”[8].
ويرد اسم آخر بالمصادر التاريخية الوسيطية يدل على مجال الساقية الحمراء وواد الذهب، وهو أنبية. ورد الاسم لدى ابن عبد الحكم المتوفى سنة 257 ه الذي يعتبر كتابه ” كتابه “فتوح إفريقية والأندلس” أقدم ما وصلنا عن دخول المسلمين إلى المغرب. فقد كتب :” أهل السوس بطن من البربر يقال لهم أنبية”[9]. ويمكن تحديد هذه المنطقة جنوبا بنهر السنغال ، أي أنه يغطي الجزء الغربي من الصحراء الكبرى، الذي يعتبر موطن الملثمين من صنهاجة[10].
وخلال القرن الثالث الهجري نفسه ، ساق اليعقوبي المتوفى بعد سنة 292 ه النص التالي : ” ومن سجلماسة لمن سلك متوجها إلى القبلة يريد أرض السودان ، يسير في مفاوز وصحراء مقدار خمسين رحلة ، ثم يلقاه قوم يقال لهم أنبية من صنهاجة” [11]. وحدّد ابن الفقيه الهمذاني المتوفى سنة 344 ه بلاد أنبية ضمن ما يلي : ” وبلد أنبية من السوس الأقصى على مسيرة سبعين ليلة في براري ومفاوز ” [12].
إن مختلف المسافات التي قدمتها المصادر التاريخية ما بين بلاد السوس الأقصى وبلاد أنبية ، تجعل هذه الأخيرة متطابقة مع المجال الذي يشغله إقليما الساقية الحمراء وواد الذهب المغربيين. ومن الحري بالإشارة إلى أن الميورقي ” أبرهام كريسك” وضع خريطة سنة 1375 م عرفت بالأطلس الكطلاني ، وهي محفوظة بالمكتبة الوطنية بباريز ، وقد ثبّت عليها موقع سجلماسة وطرق تجارة الذهب إلى بلد السودان[13]، ومن ضمنها تلك المارّة على واد الذهب “.Rio de Oro ” .
2- ما تقوله الجغرافية البشرية التاريخية: ترڴة أو أبنية أو الساقية الحمراء هي تسميات لنفس المجال التاريخي. كما أنها امتداد لذات المعطيات الجغرافية والبشرية لعدد من مناطق المغرب الشمالية. وقد خضع هذا المجال لهجرات وحركات قبلية ذهابا وإيابا طيلة العصر الوسيط، ما أفضى إلى بنيات بشرية وقبلية متشابهة في كثير من الأحايين . وتكفي نظرة إلى هذه البنية بإقليمي الساقية الحمراء وواد الذهب لرصد أهمية التفاعل البشري والقبلي بينهما وباقي الأقاليم المغربية. ويمكن أن نتمثل عن هذا التفاعل من خلال بعض النماذج التي تشكّلت خميرتها في فترة تاريخ المغرب الوسيط، علما بأن تلك التجمعات البشرية والقبلية توزعت بين بلدان أخرى ، غير أن المغرب الأقصى كان مستقرا لأكثر عناصرها ، وظلت أواصر العلاقات الوجدانية والتاريخية بينها أمتن به ، أكثر ممّا هي عليه خارجه :
*أولاد الدليم: هم من قبيلة بني حسان إحدى فروع معقل التي كتب عنها ابن خلدون في عصره بأنهم “من أوفر قبائل العرب ومواطنهم بقفار المغرب الأقصى وينتهون إلى البحر المحيط”[14]. قدموا إلى المغرب على عهد الدولة الفاطمية ، وانتشروا بعدة مناطق منه . ينقسمون إلى قسمين كبيرين، هما أولاد سنان وأولاد معرف . واستقروا بإقليم واد الذهب حيث اتخذوا من مدينة الداخلة مركزا لمقاومة التسرب الإسباني إلى هذا الإقليم المغربي في أواخر القرن 19 م . بينما توزعت أسر من أولاد الدليم بمناطق مغربية شمالية ، مثل أحواز مراكش وسيدي قاسم[15] .
*العروسيون: يعودون بأصولهم إلى سيدي أحمد العروسي الذي تشير المصادر إلى مغادرته مراكش سنة 958 ه متوجها إلى الساقية الحمراء التي له بها زاوية على الطريقة الشاذلية بمنطقة تسمى الطبيلة على بعد حوالي 30 كلم من مدينة السمارة، وتوفي بها سنة 1002 ه / 1593 م . وتشهد كثرة شيوخه وتلامذته بالمناطق الشمالية للمغرب على ذلك الارتباط القوي بينها وبين الأقاليم المغربية الجنوبية . من تلامذته ابن عابد الفاسي صاحب الرحلة المشار إليه آنفا ، و محمد بن علي بن ريسون دفين تازروت قريبا من ضريح سيدي عبد السلام بن مشيش. يروي ابن عابد الفاسي قصة لقائه بشيخه أحمد العروسي ، إذ ألحّ عليه أحد مريدي الشيخ بجبل العلم بضرورة أخذ التصوف عن أحمد العروسي “لا بد لك تصل إليه تلقاه وتصافحه …هو… صاحب الوقت”، وهكذا “توجهت من مراكش مع قوافل تخرج إلى وادي دراء ، وسرت معهم نحو عشر مراحل ، ووصلت الوادي المذكور…”[16]. وقد أقام عنده نحو خمسة عشر يوما ، وأنهى ابن عابد الفاسي حديثه عن رحلته إلى الساقية الحمراء للقاء بشيخه أحمد العروسي بأنها ” منتهى سفري في بلاد سوس الأقصى”[17]، وهذه قرينة لا غبار عليها بأن الساقية الحمراء في تحديد مصادر العصر الوسيط ، كانت مندرجة ضمن مجال السوس الأقصى . وتكفي الإشارة إلى أن من أصحابه عبد الرحمان بن عابد الصنهاجي المعروف بالمجذوب المتوفى سنة 976 ه ، ومن أساتذته سيدي رحال الكوش المتوفى سنة 950 ه، المعروف بالبودالي، وتمّت تحليته بأنه كان “صاحب حال وشهرة في الناس ، وله كلام من وزن كلام سيدي عبد الرحمان المجذوب”[18]. وقد أصبحت زاوية سيدي أحمد العروسي قلعة للعلم والتربية والجهاد، يزورها الزائرون من مختلف مناطق المغرب ، بل وذاع صيتها خارج المغرب .
*الرڴيبات، أو الرقيبات: تنتشر بمعظم المجال الذي انطلق منه المرابطون من صنهاجة اللثام ، و تنتسب إلى سيدي أحمد الرقيبي الجدّ الذي عاش بدرعة وتوفي بها أواخر دولة بني مرين ، وانتقل من شمال المغرب إلى سجلماسة ، ثم إلى درعة حيث توفي بنواحي زاڴورة[19] . ونقل أحد أحفاد سيدي أحمد الرڴيبي عن “نسخة وجدت في زاوية آل سيدي صالح بدرعة في رأس القرن الثاني عشر” التي تصادف سنة 1785-1756 م، أنه من ذرية مولاي عبد السلام بن مشيش [20]. وخلّف ابنا له (الابن) حمل الاسم ذاته ، وقد توفي بدوره بنواحي درعة ودفن بمنطقة تعرف بالرڴبة[21]. و هذا ولد له ابن (الحفيد) سنة 999ه / 1590م حمل بدوره الاسم نفسه .غادر درعة في سياحة تصوفية انتهت به إلى أرض الخراويع وهن الاخنيڴات ، وظل يتعبد الله مدة عشر سنين بخلوة له إزاء جبل زيني ، وهي المعروفة حاليا بخلوة سيدي أحمد الرڴيبي ، وقد توفي بواد يسمى الحبشي، وله من الأبناء الذكور ثلاثة ، هم أجداد الرڴيبات بالصحراء المغربية، وهم القاسم – الذي يعرف أحفاده بالڴواسم- واعلي و اعمر [22].
*السباعيون: تتفق المصادر التاريخية على أنهم ينحدرون من عامر الهامل المكنى بأبي السباع. وقد خرج من فاس بعد حصار محمد الشيخ الوطاسي لها سنة 870 ه ، وانتهى في سياحته إلى موضع اتخذه خلوة له قرب بعقيلة بالسوس على جبل شاهق يسمى ” أضاد مدن” أي “أصبع الإنسان” باللسان البربري. وتوفي سنة 924 ه ودفن بخلوته بعد أن ذاع صيته متصوفا بالسوس وبالمناطق الصحراوية المغربية الجنوبية .وقد ترجمت له بعض المصادر المهتمة بالشرف ، مثل ابن عبد العظيم الأزموري في مؤلفه المخطوط ” تأليف في أهل النسب النبوي رضي الله عنهم”[23]، وابن جزي المشار إليه سابقا في كتابه المخطوط بدوره ” مختصر البيان في نسب آل عدنان”[24]. وينقسم السباعيون إلى قسمين كبيرين ، هما أولاد عمران وأولاد عمرو، ودفن عمران وعمرو بواد نون حيث يخصص لهما موسم سنوي كل صيف ، وأغلبية الأفخاذ المنحدرة من أولاد عمرو استوطنت الساقية الحمراء ، وأغلبية الأفخاذ المنحدرة من أولاد عمران تستوطن حوز مراكش وشيشاوة ، وتجمع السباعيين بالساقية الحمراء وبني عمومتهم بحوز مراكش وسوس علاقات وطيدة وتضامنا لافتا [25]. وثمة من يجعل سيدي محمد بن عيسى دفين مكناس من نسل الهامل المكنى بأبي السباع جد السباعيين[26].
3-ما تقوله تفاعلات التجارة والسلطةوتكاملهما: لا حاجة إلى التذكير بأن الأقاليم الصحراوية الجنوبية المغربية ظلت في العصر الوسيط حلقة تواصل بين شمال إفريقيا وجنوبها ، واحتضنت مهد إحدى أكبر الإمبراطوريات المغربية آنذاك، التي هي الإمبراطورية المرابطية. لقد امتدت عبر مجالها أهم الطرق التجارية الرابطة بين المغرب والسودان الغربي . وفضلا عن محور سجلماسة-أودغست –غانة ومحور سجلماسة –تغازى –تمبكتو ، احتضنت الإمبراطورية المرابطية محورا تجاريا مهما ، تمثّل في المحور الساحلي الرابط بين درعة ونول لمطة وممالح أوليل [27]. ولا ريب في أن أهمية هذا المحور ازدادت من كون خطّه يمر عبر مملحة أوليل قرب نهر السنغال، وغير خاف ما كان يُمثّله الملح من أهمية حيوية لدى أهل السودان ،خاصة باعتباره عملة يتداول بها ، وقد لخّص ابن بطوطة الذي قام برحلة إلى السودان سنة 726 ه ذلك بقوله :” …بالملح يتصارفون كما يُتصارف بالذهب والفضة يقطعونه قطعا ويتبايعون به “[28]. كما أن هذا الطريق كان من أهم محاور جلب الذهب والرقيق والعنبر[29]. وعلى الرغم من ملوحة المنطقة وشدة العواصف الرملية ، فقد تعودت القوافل التجارية على تلمّس الطريق عبر نقط ماء اتخذها التجار محطات للاستراحة وللتزود بالماء .
لقد نجح المرابطون بسيطرتهم على ذلك المجال الواسع في تحقيق وحدتين ، هما الوحدة المذهبية بنشر المذهب المالكي ، والوحدة السياسية بتأسيس إمبراطورية شاسعة ذات حكم مركزي تنطلق قراراته من العاصمة مراكش. علاوة على أنهم حققوا وحدة القبائل البربرية المنتشرة على الطرق التجارية الرابطة بين المغرب والسودان ، مثل لمطة وجدالة ومسوفة. وقد عبّر صاحب القرطاس عمّا أفضت إليه تلك الوضعية زمن المرابطين باعتبارها “أيّام دعة ورفاهية ورخاء متصل وعافية وأمن”[30]. و أشاد الإدريسي بالحركية الاجتماعية التي تمخضت عن تحكم المرابطين والموحدين في تجارة القوافل الصحراوية بنشوء فئة من “تجار مياسير يدخلون إلى بلاد السودان بأعداد الجمال الحاملة لقناطير الأموال من النحاس الأحمر والملون…” .[31]
ويبدو حرص السلطة الموحدية على ضمان مراقبة الطرق التجارية المؤدية إلى السودان في عملها الحثيث من أجل فرض الأمن عليها . فقد أقدم أبو الربيع سليمان عامل الموحدين على سجلماسة على إعدام مجموعة من قطاع الطرق ما بين سجلماسة وغانة ، كما أنه حمّل ملك غانة مسؤولية عرقلة التجار المغاربة ببلاده ، بينما كان التجار الغانيون ينعمون بالأمن بسجلماسة وجهاتها . جاء في رسالة نقلها صاحب نفح الطيب عن ابن حمويه السرخسي الذي سافر إلى المغرب واستقر به ما بين سنتي 593 و 600 ه : ” … وقد بلغنا احتباس مساكين التجار ومنعهم من التصرف فيما هم بصدده ، وتردّد الجلّابة إلى البلد مفيد لسكانها ، ومعين على التمكن من استيطانها ، ولو شئنا لاحتبسنا من في جهاتنا من أهل تلك الناحية”[32] .ولم تغب قبضة الموحدين عن الطرق التجارية المؤدية إلى السودان . فقد استقبل الواثق بالله-علما بأنه من خلفاء مرحلة ضعف الإمبراطورية الموحدية- أشياخ الساقية الحمراء وغيرهم “وودعهم لينصرفوا بحفاظهم إلى بلادهم” [33]، والحفاظ – كما هو معلوم- هم صغار الطلبة ، وهم نخبة من جهاز الدولة الموحدية .
وحافظت الأقاليم الصحراوية الجنوبية على ارتباطها بالمغرب في العصر المريني. ذلك بأن السلطان أبا يوسف يعقوب عاد من أحد جوازاته بالأندلس ، وحلّ بمراكش في محرّم سنة 683 ه “وبعث ولده الأمير يوسف إلى بلاد السوس برسم غزو العرب ومن بها من القبائل الخارجة ، ففرّت العرب أمامه في الصحراء ، فتبعهم حتى بلغ الساقية الحمراء” [34].
لقد أفضت سيطرة السلطة المغربية في العصر الوسيط على مجال الطرق التجارية المؤدية إلى السودان الغربي إلى تنظيم المبادلات التجارية بشكل جسّد وحدة المجال . ولعل أهم من مثّل ذلك التنظيم شركة الإخوة المقري في القرن 8 ه /14 م . يتعلق الأمر بخمسة إخوة من أسرة المقري ، وهم أبو بكر ومحمد وعبد الرحمان وعبد الواحد وعلي الذين ” مهّدوا طريق الصحراء بحفر الآبار وتأمين التجار” ، وكان عبد الرحمان أكبرهم يقيم بسجلماسة، ويقوم بدور وصفه لسان الدين بن الخطيب ب”لسان الميزان” ، إذ كان يجمع الأخبار عن وضعية الأسواق وحاجياتها ، ويكاتب أخويه المستقرين بولّاتة ، وبفعل ذلك التنظيم ، “اتسعت أموالهم وارتفعت في الفخامة أحوالهم”[35] .
ولعلّ أحسن ما نتمثل به عن الارتباط الوثيق بين المغرب وصحرائه ثلاث شهادات :
الأولى حبرها أحد أبناء الصحراء المغربية بقوله: ” إذا أردت التحدث عن أي عالم أو مجاهد أو صالح أو قبيلة برمّتها بها ، إلّا ورأيت قلمك مرهونا بأن يتطرّق إلى تاريخ ….مدن وجهات المغرب، لترابط السكان الصحراويين نسبا وصهرا بأصولهم ومنابعهم وذويهم المنتشرين في جميع رقعة هذا الوطن العزيز من البوغاز إلى الصحراء”[36].
الثانية لأحد الأوربيين المهتمين بالصحراء المغربية حيث كتب:” إن اسبانيا لمّا تسربت إلى الأقاليم الصحراوية المغربية ، كانت واعية بألّا اختلاف بين جنوب المغرب وطرفاية والساقية الحمراء ووادي الذهب ، إن بشريا أو طبيعيا أو تاريخيا أو دينيا أو على مستوى العادات”[37].
والأخيرة للأديب الموريطاني أحمد بن الأمين الشنقيطي (1872-1913 م ) الذي كتب عن تراجم أدباء شنقيط، قبل مرحلة التشويش التي افتعلها خصوم الوحدة الوطنية المغربية بأكثر من ستة عقود. ورد لديه عن الساقية الحمراء: “هي أرض مشهورة ، وهي آخر شنقيط من جهة واد نون…” ، وبعد أن شهدت تعميرا ملحوظا مع الشيخ ماء العينين ” سهلت المواصلة بين شنقيط وغيرها من المواضع المغربية، أعني التابعة للمخزن”[38]. وعن أصل شنقيط والمناطق الصحراوية ، كتب: ” في الأصل قبائل من البربر التي كانت تقطن صحراء المغرب”[39]. وقسّم أولاد أبي السباع الى ثلاث فرق تتوزع بين حوز مراكش وأخرى بسوس وثالثة في تيرس بالصحراء المغربية …سلاحهم يأتيهم من سوس [40].
[1]– ابن خلدون عبد الرحمان، كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر… ، تحقيق خليل شحادة و سهيل زكار، دار الفكر، 2000،ج 6، ص 201.
[2]– ابن أبي زرع علي الفاسي ، الأنيس المطرب بروض القرطاس ، المطبعة الملكية ، 1972، ص 120 .
[3] -ابن جزي الكلبي، الأنوار السنية في الألفاظ السنية ، تحقيق مهدي الرجائي ، مركز الدراسات الإسلامية للأنساب ، 2010، ص 72.
[4] -رحلة ابن عابد الفاسي من المغرب إلى حضرموت ،تحقيق إبراهيم السامرائي وعبد الله محمد الحبشي، دار الغرب الإسلامي، ط 1 ، 1993، ص 74 و 84 .
[5] – الممتع في شرح المقنع، المكتبة العصرية ، بيروت، د . ت، صص 6 و7.
[6] – كتاب صورة الأرض، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، 1992، ص 101.
[7] – المسالك والممالك ، تحقيق جمال طلبة، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 2003، ص 351.
[8] – الاستبصار في عجائب الأمصار، تحقيق سعد وغلول عبد الحميد، الطبعة الأولى، دون تاريخ، ص 213.
[9] – تحقيق عبد الله أنيس الطباع، مكتبة المدرسة ودار الكتاب اللبناني للطباعة والنشر ، بيروت، 1964، ص 58.
[10] – الناني ولد الحسين، صحراء الملثمين ، وعلاقاتها بشمال وغرب إفريقيا من منتصف القرن 2ه/8 م إلى نهاية القرن 5 ه / 11 م ، دار المدار الإسلامي، بيروت، 2007.
[11] – كتاب البلدان، طبعة 1917، ص 117.
[12] – كتاب مختصر البلدان ،دار صادر ، 1303ه ، ص 64.
[13] -J.A. C Buchon et J. Tastu, Notice d’ un Atlas en Langue Catalane, Imprimerie Royale, Paris, 1839.
[14]– ابن خلدون ، كتاب العبر، ج 6 ، ص 77.
[15] – للمزيد عن أولاد الدليم ، يرجع إلى :حمدايتي شبيهنا ماء العينين، قبائل الصحراء المغربية ، أصولها ،جهادها ، ثقافتها، المطبعة الملكية، 1998، صص 116-124.
[16] – ملتقط الرحلة، م س ، ص64.
[17] – نفسه، ص 69.
[18] – العباس بن إبراهيم السملالي، الإعلام بمن حلّ بمراكش وأغمات من الأعلام، المطبعة الملكية ، الطبعة الثانية، 1993،ج 3 ، ص 225.
[19] – محمد الظريف، مادة الرڴيبات، معلمة المغرب، صص 4426-4427.
[20] – محمد سالم بن لحبيب، جوامع المهمات في أمور الرقيبات، تحقيق مصطفى النعيمي، منشورات المعهد الجامعي للبحث العلمي، 1992،ص 71.
[21] – محمد الظريف، م س .
[22] – جوامع المهمات ، م س ، صص 72-73.
[23] -مخطوط الخزانة العامة بالرباط، رقم د 1512.
[24] – مخطوط بمؤسسة علال الفاسي، رقم 193 م .
[25]– حسن كفناني، مادة “بو السباع” –أولاد أبي السباع-معلمة المغرب، ج 6 ، صص 1712-1714.
[26] – مولاي أحمد ابن مولاي المامون السباعي، الإبداع والإتباع في تزكية شرف أبي السباع، مطبعة الجنوب ، البيضاء، 1994، ص 117.
[27] -عن أهمية هذا المحور ، يرجع إلى :
Mauny ,R , Tableau géographique de l’ouest africain ,Dakar, 1960 ,p 427.
[28]– رحلة ابن بطوطة ، دار إحياء العلوم، بيروت، 1987، ص 687.
[29]-Mauny, op, cit, p 428.
[30] – روض القرطاس، ص 167.
[31] – الشريف الإدريسي، نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، طبعة الجزائر، 1957، ص 42.
[32] – .المقري التلمساني، نفح الطيب….تحقيق إحسان عباس ، دار صادر، د ت ، ج 3، ص 105.
[33]ا – ابن عذاري المراكشي، البيان المغرب، قسم الموحدين ، ص 459 .
[34] – روض القرطاس، ص 340.
[35] – لسان الدين بن الخطيب، الإحاطة في أخبار غرناطة، تحقيق محمد عبد الله عنان، مكتبة الخانجي بالقاهرة، ط 1، 1974، ج 2 ، ص 192.
[36] – الشيخ ماء العينين لارباس، بعض مظاهر حياة الصحراء المغربية فكرا وحضارة، مجلة المناهل، عدد خاص بالصحراء المغربية، 1995، ص 121.
[37] -Attilio Gaudio,Les populations du Sahara occidental ,Histoire, vie et culture, édition Karthala, Paris, 1992,p 33.
[38] – الوسيط في تراجم أدباء شنقيط، تحقيق فؤاد السيد، مطبعة المدني ، 1409 ه / 1989، ص 439.
[39] – نفسه ، ص 476.
[40]– نفسه ، ص 509.