نزار بولحية
هل وحدهم أهل الدار من يرغبون بها؟ أم أن الأغراب هم أيضا من يدفعونهم نحوها؟ ليس واضحا بعد أي لعبة يلعب الأمريكيون والروس اليوم في الشمال الافريقي، لكن السؤال هو، هل ستؤدي في النهاية إلى هز الاستقرار الإقليمي الهش أم لا؟
ومع أن التقاطع يبدو جليا بين ما تفعله واشنطن وموسكو تحت الطاولة، وما يقوم به البلدان المغاربيان فوقها من تكثيف للجهوزية القتالية وسعي حثيث إلى إبرام العقود والصفقات العسكرية الضخمة، وتنظيم للمناورات المنفردة والمشتركة لقواتهما على مقربة من الحدود البرية المقفلة منذ عقود، إلا أنه يعني في الأخير شيئا واحدا لا غير وهو، أنهما يمضيان قدما في الابتعاد تدريجيا عن السلام والاستقرار المفقود إلى الآن في تلك المنطقة. لكن بعد أن عاشت الجزائر والمغرب ولأكثر من عام كامل في قطيعة دبلوماسية وسياسية حادة فهل ستجعلهما جراحات الحرب التي اكتويا بها قبل ما يقرب من ستين عاما من الآن، يستعيدان بعض الرشد ويترددان قبل المجازفة بتكرارها، بعد أن فهما واستوعبا درسها جيدا وعرفا حجم المأساة الإنسانية الرهيبة التي يمكن أن تلحقهما، إن هما سقطا فيها مرة أخرى؟
الرسائل المتناقضة التي تبعث بها واشنطن وموسكو، قد لا تعطي انطباعا قويا بأنهما ترغبان بالفعل في قلع جذور التوتر القائم بين البلدين المغاربيين وإزالتها بالكامل
وإن لم يكن لهما حقا أيُّ رغبة أو إرادة لحث الخطى والسير إلى ساحات المعارك، فمن يمكن أن يدفعهما اليوم ولو بشكل مستتر وغير مكشوف نحوها؟ ومن يهيئ الشروط والظروف لهما ليهجرا طاولات التفاوض ويبتعدا عنها، ويبقيا على لغة الحديد والنار أداة تواصل وحيدة بينهما؟ لقد حافظا حتى في أقوى وأشد حالات التوتر والتصعيد التي عرفتها علاقتيهما في السنوات الأخيرة على شعرة معاوية. وربما جعلتهما عدة اعتبارات داخلية وخارجية، يقتنعان بأنه لا مفر لهما في كل الأحوال من أن يتجنبا الإقدام على أي مغامرة عسكرية قد تبدو مجهولة العواقب وتهدد استقرار الشمال الافريقي كله، بل تضع حتى أمن جزء كبير من أوروبا على كف عفريت. ولأجل ذلك لم يكن غريبا أن يؤكد المسؤولون فيهما، وفي أكثر من مناسبة، سواء بشكل مباشر أو ضمني، على أن لا نية لهما على الإطلاق للدخول في مواجهة مباشرة جديدة بينهما. ولعل التعبير الأقوى من الجانب المغربي عن ذلك جاء في خطاب العاهل المغربي في يوليو/تموز 2021 أي قبل عام فقط من إعلان الجزائر قطع علاقاتها مع الرباط، حين قال في إحدى فقرات ذلك الخطاب: «أؤكد هنا لأشقائنا في الجزائر بأن الشر والمشاكل، لن تأتيكم أبداً من المغرب، كما لن يأتيكم منه أي خطر أو تهديد، لأن ما يمسكم يمسنا، وما يصيبكم يضرنا، لذلك نعتبر أن أمن الجزائر واستقرارها وطمأنينة شعبها من أمن المغرب واستقراره، والعكس صحيح فما يمس المغرب سيؤثر أيضا في الجزائر لانهما كالجسد الواحد…» قبل أن يضيف جملة بالغة الرمزية وهي أن «المغرب والجزائر أكثر من جارين، إنهما توأمان متكاملان».
لكن حتى إن بدا أن الرئيس الجزائري كان يتحدث حينها بشيء من العصبية والغضب بعد اتهام بلاده لجارتها الغربية في نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه بالتسبب في مقتل ثلاثة من رعاياها في الصحراء، ورأى كثيرون أن طبول الحرب بدأت تدق بقوة في الشمال الافريقي، فإن عبد المجيد تبون كان حريصا جدا على أن يزن كلماته جيدا حين قال لوسائل إعلامية محلية حاورته إن «من يبحث عنا سيجدنا. نحن شعب مقاوم ونعرف قيمة الحرب والبارود، مثلما نعرف قيمة السلم، ومن يعتدي علينا سيندم كثيرا على اليوم الذي ولد فيه» ومع أن كثيرين رأوا في تلك النبرة تصعيدا وتهديدا واضحين، إلا أنها كانت على الأقل ولو بوجه من الوجوه تأكيدا ضمنيا على أن الجزائريين لن يكونوا هم المبادرين إلى إطلاق الرصاصة الأولى نحو جيرانهم، رغم كل ما عرف عن دعمهم العسكري واللوجستي القوي لمليشيات البوليساريو، التي سبق أن أعلنت قبل عامين، أنها باتت في حل تام من اتفاق وقف إطلاق النار مع المغرب، وأنها دخلت بالتالي ومن جديد في حرب مفتوحة معه. ولا شك بأن بقاء الجبهة على خط العلاقة بين العاصمتين الجزائرية والمغربية، يزيد الأمور بينهما تعقيدا، ويجعل من وقوع مواجهة مباشرة بين قواتهما في أي وقت من الأوقات أمرا قائما. فحتى إن كانت الجزائر تتحكم وإلى حد كبير في عمليات البوليساريو فلا أحد باستطاعته التنبؤ بأي انفلات قد يحدث، وقد يكون بمثابة الشرارة الأولى لتوسع دائرة الحرب ودخول البلدين في مواجهة عسكرية مباشرة. ومن الواضح هنا أن أي رصاصة قد تطلق في هذا الاتجاه، أو ذاك ستضع مصير المنطقة بأسرها على المحك. وهذا ما يفترض أن جيران البلدين يدركونه جيدا، كما أنهم يعلمون أن مخاطره على بلدانهم حقيقية وجدية، وأن بعض شظايا الزجاج الذي قد يكسر بأي حجر جزائري أو مغربي ستصيب بيوتهم لا محالة. غير أن الصمت التونسي والموريتاني بوجه خاص يبدو غير مفهوم على الإطلاق. فهل يعتقد التونسيون أو الموريتانيون إنهم سيكونون بمأمن من تداعيات أي حرب قد تنشب لا قدر الله بين الجارتين المغاربيتين، خصوصا في ظل الأوضاع السياسية والاجتماعية الصعبة التي يمرون بها الآن؟ الثابت إنهم هم الحلقة الأضعف في أي صراع عسكري قد يحصل في المنطقة، ولأجل ذلك فإن من مصلحتهم الآن أن يعملوا على منع أي اشتباك أو اصطدام مباشر بين الجارتين، لكن هل تلك هي حقا رغبة وإرادة القوى الكبرى؟ إن الرسائل المشوشة وحتى المتناقضة التي تبعث بها واشنطن وموسكو على الأقل، قد لا تعطي انطباعا قويا على أنهما ترغبان بالفعل في قلع جذور التوتر القائم بين البلدين وإزالتها بالكامل، فكل ما تفعلانه هو أنهما تقومان بتمطيط المشكل بدلا من أن تسعيا إلى حله، وليس معروفا حتى الآن إن كانتا تفعلان ذلك لأنهما وقعتا في ما بينهما اتفاقا ما على استنزاف طاقة وموارد البلدين، من خلال سباقهما المحموم على شراء أسلحتهما ومعداتهما العسكرية؟ أم أنهما تريان أن حلول السلام في تلك المنطقة وعودة العلاقات بين أكبر بلدين مغاربيين إلى طبيعتها سيشكل تهديدا قويا لمصالحهما هناك ويقلص وبشكل ملحوظ من نفوذهما وحضورهما في الإقليم؟ غير أن الشيء الوحيد الذي يفعله التهاون والتراخي ربما حتى تواطؤ الحلفاء الغربيين والشرقيين لكلا البلدين مع التوتر والتصعيد المستمر بينهما، هو أنه لا يجعلهما متحمسين على أن يطرقا الآن باب السلام، بقدر ما أنه يشجعهما على أن يبحثا عن باب آخر سيكونان خاسرين، إن هما أقدما على فتحه. لكن إن كان من السهل إشعال الحريق، فهل سيكون من الصعب على الجزائريين والمغاربة اليوم أن يخمدوا ألسنة اللهب في وقت مبكر نسبيا، أي قبل أن تقوى وتشتد وتصبح السيطرة عليها غير ممكنة ومستحيلة؟ العقلاء في البلدين ما زالوا يعتقدون أن باستطاعهم فعل ذلك. لكن من يسمعهم؟ هذا بيت القصيد.
كاتب وصحافي من تونس