نزار بولحية
ما الذي يدعو الجزائر أصلا لأن تفعل ذلك؟ أليس الموضوع في حكم المنتهي بالنسبة لها، بعد أن سدت الباب أمام كل المساعي والجهود التي بذلت لإذابة الجليد بينها وبين جارتها؟ فأي جديد قد يدفعها للتفكير في خطوة مثل تلك؟
ربما حاجج البعض، لكن هل سيكون من الممكن للجزائر أن تغمض عينيها طويلا، وتتجاهل التحولات الجيوسياسية المهمة، التي بدأت تطفو بقوة على سطح محيطها الإقليمي؟ أليست الواقعية هي التي ستجعلها بالنهاية تعيد التفكير في كثير من خياراتها؟ فلئن دأب المغرب على مد يده لها باستمرار، وظل خلال السنوات الأخيرة يقدم مبادرات للصلح معها، فإن السؤال هنا هو، هل آن الأوان اليوم للجزائر لأن تتقدم بدورها بعرض ما لجارتها الغربية، يطوي صفحة الخلافات معها، ويفتح بدلا منها صفحة أخرى للحوارات والتفاهمات؟
إن ما حصل أواخر العام الجاري قد يكون مؤشرا مهما على أن ذلك ربما يبدو ممكنا في السنة المقبلة. ولعلها كانت بالفعل واحدة من أكبر مفاجآت 2023 حين صرّح وزير الخارجية الجزائري، في مقابلة بثتها قبل أيام قناة «الجزيرة» على منصة أثير بأن بلاده هي «الأكثر ميلا للإسراع بإيجاد حل مع المغرب»، قبل أن يجيب المذيعة حين سألته وبنوع من التعجب والاستغراب: «أنت شخصيا هل ما زلت تؤمن بمغرب عربي؟»، بالقول: «طبعا وننتظر بفارغ الصبر اليوم الذي نستطيع فيه تحقيق ذلك». ولعل هناك من سيعلق، وما الغريب في الأمر؟ فهل سبق للجزائر أن عبرت في أي وقت من الأوقات عن رفضها، أو عدم رغبتها في قيام الاتحاد المغاربي؟ لكن هل من الممكن التفكير في ذلك الاتحاد بعيدا عن المغرب ومن دون تطبيع العلاقات معه؟ ثم هل سبق لأي مسؤول جزائري أن فتح الباب أمام فرضية عودة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة بين الجارتين منذ أكثر من عامين مثلما فعل أحمد عطاف، ولو ضمنيا من خلال تصريحه الأخير؟ ألم يطفئ سلفه رمطان لعمامرة قبل أكثر من عام، أي بصيص من الأمل في أن يحصل ذلك ويتم تقريب وجهات النظر بين البلدين حين قال، إن قطع تلك العلاقات «لا يحتمل وساطات لا بالأمس ولا اليوم ولا غدا»؟ ثم ألم يصرح الرئيس الجزائري بدوره في مارس الماضي وفي مقابلة مع قناة «الجزيرة» بأن الأمور بين البلدين «وصلت إلى نقطة اللاعودة؟». فكيف لا يعد إذن ما قاله عطاف بداية واعدة ومبشرة بتحول قد يكون جذريا وراديكاليا في الموقف الجزائري من المغرب؟ لا شك في أن اللهجة الجديدة التي تحدث بها الوزير الجزائري لم تكن وليدة الصدفة. ولعل هناك من سيتساءل وما الذي جعل الجزائريين يتذكرون الآن بالذات، أن هناك حلما جماعيا هو اتحاد المغرب الكبير؟ وأين كان ذلك الاتحاد حين أعلنوا ومن جانب واحد عن قطع علاقاتهم الدبلوماسية مع دولة من دوله، بل حتى منع طيرانها المدني من عبور الأجواء الجزائرية، في سابقة غريبة وغير معهودة بين الدول المغاربية؟
الواقع الجيوسياسي الجديد قد يكون فرصة استراتيجية لإعادة ترتيب البيت المغاربي، وقد يطرح على الجزائريين ضرورة القيام بتقييم موضوعي لسياساتهم في المنطقة
الثابت، وعلى الجانب الآخر، أن المغاربة سينظرون إلى مثل ذلك التحول في حال حدوثه بالطبع على أنه ثمرة من ثمار تحركاتهم الدبلوماسية الأخيرة في المنطقة. فقد قاموا في السنوات والشهور الماضية بخلخلة كثير من المعادلات والثوابت القديمة، حين وجهوا بوصلتهم نحو منطقة الساحل، وأيضا نحو الدول الافريقية المطلة على المحيط الأطلسي، وجعلوا من ذلك المجال الجغرافي الواسع مدارا لتحقيق أكثر من هدف من أهدافهم، وفي مقدمتها بالطبع ترسيخ مغربية الصحراء. ولعل هناك من لم ينتبه إلى ما قاله العاهل المغربي في خطابه في نوفمبر الماضي في ذكرى المسيرة الخضراء، التي أطلقها والده العاهل الراحل الحسن الثاني، حين ذكر أن «الواجهة الأطلسية هي بوابة المغرب نحو افريقيا، ونافذة انفتاحه على الفضاء الأمريكي. ومن هنا يأتي حرصنا على تأهيل المجال الساحلي وطنيا، بما فيه الواجهة الأطلسية للصحراء المغربية، وكذا هيكلة هذا الفضاء الجيوسياسي على المستوى الافريقي». قبل أن يقترح وفي الخطاب نفسه «إطلاق مبادرة على المستوى الدولي تهدف إلى تمكين دول الساحل من الولوج إلى المحيط الأطلسي». غير أن الترجمة الفعلية لذلك جاءت باحتضان مدينة مراكش، السبت الماضي، لاجتماع ضم إلى جانب المغرب كلا من بوركينا فاسو ومالي والنيجر وتشاد، ووقعت فيه تلك الدول على اتفاق يؤكد التزامها بالمبادرة التي أطلقها العاهل المغربي في ذلك الخطاب، لتسهيل ولوج دول الساحل إلى المحيط الأطلسي. ولا شك في أن تزامن الاجتماع مع تصاعد التوتر بين الجزائر ومالي بعد استدعاء البلدين لسفيرهما في أعقاب ما اعتبرته السلطات المالية «أفعالا غير ودية» و»تدخلا في الشؤون الداخلية»، من جانب الجزائر جعل كثيرين يتساءلون الآن إن كانت الرباط قد نجحت في سحب البساط من تحت أقدام جارتها الشرقية واستطاعت أن تكتسح مواقع استراتيجية مهمة قد تعجل بقلب خريطة التوازنات الإقليمية رأسا على عقب؟ المؤكد أن التحركات المغربية في المنطقة باتت تشكل هاجسا كبيرا بالنسبة للجزائر، ودفعت جانبا من إعلامها للتعبير عن ذلك القلق من خلال الحديث عن مؤامرة ثلاثية الأضلاع تجمع الرباط وأبوظبي وتل أبيب وتهدف لمحاصرة الجزائر، وضرب علاقاتها بدول الساحل بشكل خاص، لكن وبغض النظر عن مثل تلك التبريرات، فإن الواقع الجيوسياسي الجديد قد يكون فرصة استراتيجية ثمينة لإعادة ترتيب البيت المغاربي من جديد، وقد يطرح على الجزائريين أيضا ضرورة القيام بتقييم موضوعي وهادئ لسياساتهم في المنطقة قد يفضي بهم إلى إقرار مراجعات باتت اليوم وقبل أي وقت ملحة ومطلوبة.
إن التفاتهم في هذا الظرف بالذات إلى المغرب الكبير قد يكون بالنسبة لهم أشبه بما وصفه العاهل المغربي في 2017، لما تخلت الرباط عن سياسة المقعد الشاغر في الاتحاد الافريقي بالعودة إلى البيت، لكن العملية لا تبدو سهلة أو بسيطة على الإطلاق فهي تحتاج إلى مبادرة سياسية تسمح بكسر الجليد مع الجارة المغربية. والسؤال هنا هو، هل تستطيع الجزائر التي سعت لتحقيق مصالحات في أكثر من مكان، أن تقدم الآن عرضا ما للمصالحة مع أقرب جيرانها سيكون بمثابة المفتاح الحقيقي لتحقيق أي تقدم في إرساء اتحاد مغاربي؟ لا شك في أن المجال لا يزال مفتوحا أمامها، فليس هناك ما يدل على أن الرباط التي ظلت تنتظر تفاعلا ما من الجانب الجزائري مع سياسة مد اليد، ستتجاهل الآن أي إشارة أو بادرة ودية قد تصدر من العاصمة الجزائرية، لكن كيف سيكون مضمون تلك المبادرة؟ وهل سيضع الجزائريون شروطا ما للحوار وتطبيع العلاقات بين البلدين؟ وفي تلك الحالة هل ستكون تلك الشروط صعبة التحقيق، وربما تعجيزية تفضي إلى رفض الجانب الآخر وبقاء الحال على ما هو عليه؟ ربما سيكون من الأفضل أن ننتظر الأسابيع وربما الشهور الأولى من السنة المقبلة لنرى أولا، إن كانت هناك مبادرة جزائرية أم لا؟
كاتب وصحافي من تونس