نزار بولحية
هل توجد ولو دولة مغاربية واحدة تعارض وقف الاعتداءات الوحشية التي يرتكبها الإسرائيليون يوميا في حق الفلسطينيين، أو ترفض وفي المطلق أي رد كان على تلك الجرائم؟ قطعا لا. فلماذا اختارت الرباط ونواكشوط إذن عدم التعليق مباشرة على الضربة الإيرانية الأخيرة، على النقيض تماما من الجزائر وتونس اللتين فعلتا العكس وأعلنتا، إما بواسطة بيان رسمي للخارجية، أو عبر خطاب في مجلس الأمن عن وجهة نظر البلدين وموقفهما منها؟
هل لأن الدول المغاربية لا تنظر إلى التطورات التي حدثت في الشرق من زاوية واحدة وبالمنظار نفسه؟ أم لأن إيران تبقى في قلب ملف من الملفات الشائكة التي ما زالت تعمق حالة الانقسام التي تعيشها بلدان المغرب العربي؟ ربما تداخل السببان وتقاطعا مع بعضهما بعضا. لكن كيف نظر الليبيون والتونسيون والجزائريون والمغاربة والموريتانيون إلى العملية التي قامت بها طهران في الليلة الفاصلة بين السبت والأحد الماضيين، وأطلقت عليها اسم «الوعد الصادق»؟
إن الاستنتاج الفوري الذي قد يخرج به كل من تابع وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي في الدول الخمس، أن ردود الأفعال الشعبية فيها لم تختلف كثيرا عن تلك التي ظهرت في دول المشرق، وانحصرت إجمالا في وجهتي نظر متعارضتين تماما، تمثلت الأولى في النظر بإعجاب، وفي الإشادة المطلقة والتامة بالهجوم الذي شن للمرة الأولى من داخل الأراضي الإيرانية، بواسطة طائرات مسيرة وصواريخ، واستمر لقرابة الخمس ساعات، مستهدفا مواقع إسرائيلية، بغض النظر عن نتائجه، أو حصيلته النهائية، واعتباره ليس فقط «ردا على الجرائم العديدة للكيان الصهيوني، بما فيها مهاجمة القسم القنصلي للسفارة الإيرانية في دمشق، واستشهاد عدد من القادة والمستشارين العسكريين الإيرانيين في سوريا»، مثلما جاء في بيان الحرس الثوري الإيراني، بل عملا بطوليا باهرا جديرا بالفخر والاعتزاز، ودليلا حيا يؤكد وقوف إيران مع المقاومة الفلسطينية بالأفعال، لا بالأقوال، فيما كانت الثانية وعلى النقيض من ذلك تماما حاملة لقدر من الاستخفاف والاستهانة، وحتى السخرية مما جرى ووصف ما حدث في تلك الساعات المعدودة على أنه مجرد مسرحية ركيكة الأداء وسيئة الإخراج، تمت بالشراكة التامة بين الإيرانيين والإسرائيليين، وأن الخاسر الأكبر منها سيكون، بلا شك، هو القضية الفلسطينية. لكن هل كان الحال مختلفا بالنسبة إلى الردود والمواقف الرسمية المغاربية؟ وما الذي يمكن أن تمثله تلك العملية من وجهة نظر حكومات تلك الدول؟ وهل إنها تشعر بأنها معنية بشكل جدي وفعلي بتداعيات التغير الذي حدث على بعد آلاف الكيلومترات منها، على ما تعرف بقواعد الاشتباك بين الإيرانيين والإسرائيليين؟ إن الملاحظة التي تلفت الانتباه هنا هي أنه وعلى عكس عدد من الدول العربية المشرقية مثل السعودية ومصر والإمارات، التي سارعت في وقت مبكر من صباح الأحد الماضي إلى إصدار بيانات رسمية تعبر فيها عن «بالغ القلق جراء تطورات التصعيد العسكري في المنطقة، وخطورة انعكاساته» وتدعو الأطراف كافة «للتحلي بأقصى درجات ضبط النفس»، مثلما جاء في البيان الرسمي السعودي، وتؤكد فيه أنها «على تواصل مستمر مع جميع الأطراف المعنية لمحاولة احتواء الموقف ووقف التصعيد، وتجنيب المنطقة مخاطر الانزلاق إلى منعطف خطير من عدم الاستقرار والتهديد لمصالح شعوبها «مثلما ورد في البيان الرسمي المصري، فإن الحكومات المغاربية فضلت وبشكل عام أن تتريث ولو لبعض الساعات قبل أن تصدر أي موقف، ترقبا ربما لانجلاء الأمور واتضاح الصورة وتبين المواقف العربية والدولية مما جرى. لقد اختار الجزائريون، على اعتبار أنهم باتوا أعضاء غير دائمين في مجلس الأمن، وبمناسبة الجلسة الطارئة التي عقدها الأحد الماضي للنظر في الهجوم الإيراني، أن يعبروا ومن ذلك المنبر الأممي عن موقفهم، وأكد الممثل الدائم المساعد لهم لدى الأمم المتحدة في كلمته على أن بلاده «تتابع التطورات باهتمام وقلق بالغين وتحذر من عواقب وخيمة حال توسع النزاع في المنطقة»، وأنها «تدعو جميع الأطراف إلى ضبط النفس وتجنب التصعيد»، محذرا من أن تغطي التطورات الأخيرة على القضية المركزية وهي، الاعتداء على الشعب الفلسطيني، أو تتخذ ذريعة أو غطاء لشن هجوم بري على رفح، على حد تعبيره.
غير أن التونسيين مضوا أبعد من ذلك، فقد أصدروا ظهر الأحد الماضي بيانا يكاد يكون فريدا من نوعه في المنطقة، من حيث صياغته ومضمونه، إذ حمل ما يشبه الإشارة الضمنية إلى انه من حق طهران أن تقوم برد عسكري على ما اقترفه الإسرائيليون في حقها وفي حق شعوب المنطقة من جرائم، وذلك من خلال تنصيصه على أن تونس تتابع «بانشغال شديد تطورات الأوضاع في الشرق الأوسط، وتذكر بتحذيراتها السابقة من أن إطلاق يد الكيان الصهيوني والصمت عن تماديه في إنهاك القانون الدولي سيؤدي إلى نتائج وخيمة تهدد أمن واستقرار المنطقة والعالم بأسره»، قبل أن يخلص إلى تجديد التأكيد على ضرورة أن يتحمل المجتمع الدولي مسؤولياته، لفرض وقف فوري ودائم للعدوان على فلسطين، والحيلولة دون توسيع دائرة الحرب وفق ما جاء في نصه. والسؤال الذي يطرحه ذلك هو، ما دلالة البيان التونسي والتصريح الجزائري واختيار المغرب وموريتانيا وليبيا بالمقابل عدم التفاعل، ولو على المستوى الشكلي، أو اللفظي بشكل مماثل مع التطور الذي حدث في الليلة التي فصلت بين السبت والأحد الماضيين؟
بالنسبة للبعض فإن ذلك قد يعيد إلى الأذهان حالة الاصطفاف الإقليمي التي حاول البعض تكريسها قبل سنوات في أعقاب القرار الذي أخذته الرباط بإعادة علاقاتها مع تل أبيب، ضمن اتفاق رعته الولايات المتحدة، بين دول تدعم المقاومة وأخرى تناصر ما يعرف بالتطبيع مع الكيان المحتل، ولكن هل يبدو الأمر حقا على ذلك النحو؟ ليس مؤكدا تماما. فالموريتانيون ورغم كل ما راج من أخبار لم يعيدوا علاقاتهم مع الإسرائيليين، كما أنهم يقيمون علاقات جيدة نسبيا مع الإيرانيين، وهذا لم يحل دون تأخرهم في التفاعل مع ما جرى. كما أن المغاربة، ورغم أنهم لم يصدروا بيانا رسميا حول الرد الإيراني، فقد اغتنموا فرصة اجتماع اللجنة العليا المشتركة المغربية البلجيكية الاثنين الماضي، ليعبروا في بيان مشترك، صدر في أعقاب الاجتماع عن « قلقهما العميق ازاء الوضع في غزة»، ومناشدتهما بوقف فوري وشامل لإطلاق النار فيهما، وإدانتهما للهجمات على المدنيين. وهذا يعني أنهم حاولوا الفصل بين أمرين مهمين هما موقفهم المبدئي الداعم للحق الفلسطيني من جهة، ونظرتهم السلبية إلى الدور الذي تلعبه إيران في المنطقة المغاربية، خصوصا مع اتهامهم لها قبل ست سنوات بدعم ميليشيات البوليساريو عبر حزب الله، ما أدى لقطع العلاقات الدبلوماسية معها. يبقى هل ستحاول إيران الاستثمار في تلك الضربة المحدودة لأهداف إسرائيلية من أجل توسيع نفوذها في المنطقة المغاربية؟ هذا ما قد لا يهتم به الآن كثير من المغاربيين، في خضم حماسهم الزائد، أو استخفافهم الشديد بما فعلته.
كاتب وصحافي من تونس