لماذا جاءت وزيرة الخارجية الفرنسية الأسبوع الماضي إلى المغرب؟ حتى تضع قطار العلاقات الفرنسية المغربية من جديد على السكة، قد يجزم البعض، لكن هل كان قدومها إلى الرباط إقرارا ضمنيا من جانب فرنسا بخطأ أو بأخطاء ارتكبها صناع القرار في الإيليزيه في حق تلك العلاقات؟ أم أن اليد الفرنسية مدت من باب الضرورة؟ لقد أرسلت كاترين كولونا في الحالتين تطمينا آخر للرباط.
لكن كم مرة حاول الفرنسيون طمأنة المغاربة ثم دلت الأفعال على العكس؟ في سجل العلاقات الفرنسية المغربية أكثر من شاهد، لكن الإعلان رسميا الاثنين قبل الماضي عن انتهاء أزمة التأشيرات التي دامت أكثر من عام بين العاصمتين، مثلما أكدت ذلك وزيرة الخارجية الفرنسية في المؤتمر الصحافي الذي عقدته الجمعة الماضية مع نظيرها المغربي، حمل تطمينا فرنسيا جديدا للمغرب.
كان واضحا أن المغاربة لم ينسوا بسهولة فصول الأزمة الصامتة التي حصلت بينهم وبين فرنسا، واختاروا أن يتمهلوا قليلا، وأن يختبروا جدية النوايا الفرنسية المعلنة نحوهم
والسؤال هنا هو ليس فقط كيف تحقق ذلك، بل إن كانت نهاية تلك الأزمة تعني ذوبان جبل الجليد بين البلدين بالكامل أم لا؟ لقد تتالت المؤشرات والعلامات في الآونة الأخيرة على عودة وشيكة للدفء بينهما، وكان أكثرها وضوحا هو الكشف الشهر الماضي عن مكالمة هاتفية أجراها الرئيس الفرنسي مع العاهل المغربي واستغرقت، حسب موقع «افريكا إنتليجنس» نصف ساعة تطرق خلالها الجانبان إلى «سوء التفاهم الحاصل خلال الأسابيع الماضية» ومسألة عودة السفراء إلى العاصمتين، وكذلك رغبة الرئيس ماكرون في أن يقوم بزيارة رسمية للمغرب التي رحب بها الملك محمد السادس، حسب الموقع نفسه، لكن غياب أي تفاصيل أو معلومات عن فحوى النقاشات والمفاوضات والاتفاقات، التي حصلت في ما بعد وجعلت كاترين كولونا تقول في أول زيارة لها إلى المغرب كوزيرة خارجية لفرنسا «لقد اتخذنا إجراءات مع شركائنا المغاربة من أجل العودة إلى تعاون كامل في مجال الهجرة»، ثم الطريقة التي استقبل بها المغاربة القرار الفرنسي كانت تدل على أن خيوط العقدة بين الطرفين قد لا تكون حلت كلها الآن. إذ كان واضحا أنهم لم ينسوا بسهولة فصول الأزمة الصامتة التي حصلت بين العاصمتين، واختاروا أن يكونوا أكثر واقعية وباتوا يفضلون حتى مع الوعود والآمال التي فتحتها زيارة كولونا أن يتمهلوا قليلا، وأن لا يقطعوا أشواطا إضافية نحو باريس، قبل أن يختبروا جدية المواقف والنوايا الفرنسية المعلنة نحوهم. ولعل تعليق وزير الخارجية الناصر بوريطة أمام نظيرته الفرنسية كاترين كولونا على الإعلان عن انتهاء أزمة التأشيرات، كان المثال الأوضح على ذلك. لقد اكتفى بوريطة في تلك المناسبة بالقول «إن الرباط تحترم إعادة الأمور إلى سابق عهدها مع فرنسا بخصوص منح التأشيرات إلى المغاربة»، وإنه «لم تكن هناك أزمة مع باريس»، قبل أن يضيف «أن المغرب امتنع عن التعليق رسميا على إجراءات خفض التأشيرات التي اتخذتها السلطات الفرنسية من جانب واحد احتراما لسيادتها، وبطبيعة الحال كانت هناك ردود أفعال شعبية من طرف الناس المعنيين، واليوم ايضا قرار العودة إلى الوضع الطبيعي قرار أحادي الجانب يحترمه المغرب ولن نعلق عليه رسميا لكنه يسير في الاتجاه الصحيح». وليس خافيا أن اللغة التي تحدث بها رئيس الدبلوماسية المغربية كانت تحمل معنيين اثنين وهما، تحميل الطرف الفرنسي وحده مسؤولية البرود والجمود غير المبرر الذي حصل في علاقة البلدين في الفترة الماضية، ثم التنبيه وبشكل مقصود إلى أن الرباط احترمت السيادة الفرنسية، من خلال قبولها قرار باريس خفض التأشيرات الممنوحة للمغاربة بما يعني أنها تتطلع أيضا لأن تعاملها فرنسا بالمثل، وتحترم السيادة المغربية في أهم وأكبر قضية تخصها وهي قضية الصحراء. ولا شك بأن هذه النقطة بالذات هي واحدة من النقاط الجوهرية التي عكرت في الفترة الماضية علاقة البلدين، فرغم أن الفرنسيين لم يعلنوا عن تراجعهم عن دعم خطة الحكم الذاتي للصحراء، التي اقترحها المغرب منذ 2007، إلا أن التحولات التي طرأت على ذلك الملف خصوصا بعد الاعتراف الأمريكي قبل عامين بمغربية الصحراء، جعلت المغاربة يرون أن باريس باتت في موقع متأخر نسبيا بالمقارنة مع قوى غربية أخرى لم تتردد في دعم رؤيتهم لحل المشكل الصحراوي مثل، أمريكا وإسبانيا وألمانيا. لقد أكد الناصر بوريطة الجمعة الماضية، وفي رد على سؤال أحد الإعلاميين في المؤتمر الصحافي المشترك مع نظيرته الفرنسية أن «ملف الصحراء شهد تطورا كبيرا على المستويين الإقليمي والدولي والجيواستراتيجي»، قبل أن يضيف «أن المغرب ليس مع الحل خارج الامم المتحدة، وليس مع الحل المفروض، لكنه يقول بأنه حان الوقت من أجل اتخاذ قرارات واضحة»، وأنه في «السنوات الثلاث الأخيرة كان هناك تطور لافت بقيادة صاحب الجلالة في مواقف عدد من الدول القريبة من فرنسا سياسيا وجغرافيا». لكن إن كان الفرنسيون فهموا جيدا مغزى ما قاله العاهل المغربي في خطابه في آب/ أغسطس الماضي من أن «ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط الذي يقيس به صدق الصداقات ونجاعة الشراكات»، وعرفوا أيضا أنهم كانوا المعنيين بالدرجة الأولى بما قاله في الخطاب نفسه أيضا من» أننا ننتظر من بعض الدول من شركاء المغرب التقليديين والجدد، التي تتبنى مواقف غير واضحة بخصوص مغربية الصحراء أن توضح مواقفها وتراجع مضمونها بشكل لا يقبل التأويل»، فهل إن ما قالته كولونا في الرباط من أن «موقف فرنسا من الصحراء واضح وثابت. ونحن ندعم وقف إطلاق النار وجهود الأمم المتحدة والمبعوث الخاص إلى الصحراء في جولاته، ونأمل عودة المسلسل السياسي من أجل حل سياسي عادل وواقعي»، ثم تذكيرها بأن «باريس تنظر إلى مقترح الحكم الذاتي على أنه حل يتناسب مع المصالح المغربية، وقد دافعنا على هذا في الأمم المتحدة وكنا ربما الوحيدين الدين وقفوا إلى جانب المغرب « قبل تأكيدها في الأخير على أن «المغرب يمكن أن يعول على فرنسا، خاصة خلال الفترات الحرجة». كان التفاعل المناسب، من وجهة نظر الرباط، مع ما جاء في ذلك الخطاب بعد شهور من الجفاء والبرود بين البلدين، لعل واحدا من أسبابه هو اكتفاء الفرنسيين بتصريحاتهم القديمة حول ذلك الملف، وعدم قطعهم أي خطوة إضافية في دعم الموقف المغربي من الصحراء؟ لا شك بأن الرباط تدرك جيدا أن الفرنسيين لن يضعوا كل بيضهم في السلة المغربية، وانهم لن يجازفوا بالوقوف معها ودعم موقفها من ملف الصحراء في المحافل الدولية، لأن ذلك سيثير حتما غضب الجزائر التي يعدونها شريكا أساسيا لهم في الشمال الافريقي، لكن ما قد يطلبونه منها في هذه المرحلة بالمقابل هو أن لا تحاول استثمار ما بقي لها من نفوذ داخل القارة الافريقية بالخصوص، حتى تحد من الاختراقات الدبلوماسية المهمة التي يحققونها هناك في ذلك الملف. إنهم لا ينتظرون مساعدتها هناك بقدر ما أنهم يأملون منها أن لا تعرقل ما يبذلونه من جهود. فهل سيستعصي عليهم ذلك؟
*كاتب وصحافي من تونس