شعيب حليفي
سيرة الشيخ
وسط هذا العالم المتحول والمتصارع، أصبح المتصوفة، إلى جانب رجالات الفكر والأدب، نخبة لها مكانتها وأخبارها و”أساطيرها” ومصنفاتها، سيبرز اسم شخص يخرق القاعدة الذهبية لصورة الصوفي الممتلئ ثقافة ومقدرة على تربية تلامذته ومريديه، رجل من هامش المجتمع هو أل يلنور أبو يعزى(1047م-1177م) المسمى لدى عامة المغاربة مولاي بوعزّة، عاش نصف حياته، والتي امتدت إلى قرن وثلاثة عقود، سائحا مجهولا بأسماء مختلفة، قبل أن يستقر في نصفها الثاني، معلوما باسم أبي يعزى وقد تزوج وأصبح أبا وشيخا تحج إلى الخاصة والعامة من جغرافيات شتى، حتى وإن كان محسوبا على بلاد الشاوية وأزمور.
شخص اختار، في كل هذا المسار، ألا يتحدث سوى لغته الأمازيغية وتسمية أبنائه بأسماء أمازيغية وعدم الخضوع للكثير من المواضعات والنفاق الاجتماعي، كما قرر أن يبقى متوازنا نفسيا فلم يكذب، ادعاءً،حفظه للقرآن أو قدرته على الحديث والإمامة.
وفي شهادات كثيرة رُويت عنه، في تلك الفترة، بكلمات وأحكام ذاع تداولها في مؤلفات التراجم، اقتربت من قيمة أبي يعزى وسلطته الرمزية. وهكذا تحدث عنه الشيخ محي الدين بن عربي(1163م-1241م)، في فتوحاته المكية باعتباره واحدا من الشيوخ الكبار، ومما كتبه عنه في تركيب رمزي: “وموسى عليه السلام لما جاء من عند ربه كساه الله نورا على وجهه يُعرف به صدق ما ادعاه، فما رآه أحد إلا عميَ من شدة نوره، فكان يتبرقع حتى لا يتأذى الناظر إلى وجهه عند رؤيته. وكان شيخنا أبو يعزى بالمغرب موسوي الورث فأعطاه الله هذه الكرامة فكان ما يرى أحد وجهه إلا عميَ فيمسح الرائي إليه وجهه بثوب مما هو عليه فيرد الله عليه بصره. وممن رآه فعمي شيخنا أبو مدين رحمة الله تعالى عليهما حين رحل إليه فمسح عينيه بالثوب الذي على أبي يعزى فرد الله عليه بصره ” (ص74).
وفي “المعزى” أن الشيخ عبد القادر الجيلالي كان إذا فاضت عليه أنوار الجبال يقول: أنا كذا وكذا، من أنواع الشطحات فربما قيل له: هل تعلم لك في الوجود نظيرا، أو كلاما هذا معناه، فيقول: عبد حبشي بالمغرب اسمه آل النور، وكنيته أبو يعزى، له مقام عظيم قلّ من يبلغه من الأوائل والأواخر. وجاء في “كتاب الروض” أن أبا يعزى كان يعظم أمر الشيخ عبد القادر الجيلالي ويبعث إليه بالسلام. وفي “المنح البادية” عن يحيى السراج: “انه كان يقول: ماء زمزم وما شرب له، وياسين وما قرئ له، وأبو يعزي وما زير له”. وتحدث عنه تلميذه الشيخ أبو مدين شعيب قائلا:”رأيت أخبار الصالحين من زمان أويس القرني إلى زماننا هذا، فما رأيت أعجب من أخبار أبي يعزى”.وأورد اليوسي في محاضراته قولا للشيخ زروق: “ثلاثة حكموا المغرب بعد موتهم: أبو يعزى، وأبو العباس السبتي، ومولاي عبد السلام بن مشيش”.
وُجد أبو يعزى في فترة حافلة بالمتصوفة والعلماء والفقهاء بالمغرب وكل العالم العربي، من العارفين وأصحاب التآليف، واستطاع أن ينال الاحترام بينهم وهو الأمي الذي لا يكتب ولا يقرأ ولا يتكلم العربية، فحجّ الكثير منهم إلى مُلاقاته ثم كتبوا عنه، ومن أشهر التآليف حوله، ستة منذ عصر أبي يعزى وإلى القرن السادس عشر الميلادي، وقد سعت إلى رسم صورة له وفق نمط التأليف القائم في أدب التراجم والمناقب آنذاك، والذي لم يكن كافيا لبناء الملامح الأساسية لأبي يعزي داخل المجتمع، وإنما هي نُتف عن لونه وطوله ولباسه وأكله، بالإضافة إلى فِقْرتين عن تواريخ سياحته، وفقرة عن شيوخه أو شيخه الرئيس، حفظتها حكاية معه، ثم حوالي سبع عشرة حكاية عن كراماته رُويت بالسند عن من عاشها أو سمعها، في بُعدها الحكائي والرمزي. وباستثناء حكايتين خارج المجال الجغرافي الرئيس، فإن باقي الحكايات جرت وقائعها بعدما استقر بجبل تاغيا، قريبا من غابة كثيفة الأشجار بها حيوانات وخصوصا الأسود، منطقة جبلية وغابوية بعيدة عن أسباب الحضارة والمدنية التي كانت في فاس وسبتة ومراكش.
تتمحور حكايات الكرامات حول الطعام والجوع والمحن وترويض الحيوان في علاقة الشيخ بما يمثله مع عامة الناس وخاصتهم ممن كانوا يشدُّون إليه الرِّحال؛ ويمكن النظر إلى هذه القضايا التي نسجت صورة أبي يعزى بشكل آخر: أولا، الزخم الموجود في ثقافة العصر الشعبية بموروثاتها المتنوعة والتي كانت العامة في حاجة إليها. ثانيا، يتمحور مفهوم الترويض مركزيا في كل شيء، ترويض الذات على مجابهة المحن، وإبّان الصراعات والمجاعات والأمراض والأوبئة، ثم ترويض النفس وتربيتها لأنها الصورة الأخرى، فالطبيعة قد تستأسد بالجفاف والفقر والحيوانات المفترسة، والمجتمع قد يستأسد بالبذخ والسلطة المتجبرة والانحراف.
وإذا كان بيّنا أن يكون لأبي يعزى، في عصره، مريدون وزوار يقصدونه بكثافة واندهاش من الخاصة والعامة، وعبرهم يتم إنتاج خطاب حوله، فإن الذي يستحق التوقف عنده هو استمرار عادة الحج إليه سنويا وعلى مدى أزيد من ثمانية قرون بعد وفاته، فهل يتعلق الأمر بثقافة إنسانية تحتفظ ببعض العادات التي توثق للصلات، أم بشخصية تحقق ذلك التمثل الروحي والتاريخي بكل تناقضاته؟ وأن الشرط الذي كان فيه، ما زالت شعلته حية لم تنطفئ !.
كان أبو يعزى سائحا وحيدا لمدة تدنو من ثلاث وخمسين سنة، ثم خديما ومرافقا وهو مجهول بلا اسم وبلا معرفة عرفانية أو لغة عربية أو مستقَر .. وهي مرحلة الكمون في باطن الهوامش المعلقة بأسرار على حافة الكشف. ثم تأتي مرحلة الخروج إلى العالم الظاهر، حينما استقر وأعلن عن وجوده بما أذيع عنه من كرامات ومداواة، لتأتي مرحلة الحج إليه من طرف صلحاء وعلماء من فاس وسبتة وغيرهما، ثم من طرف عامة المجتمع الذين سيحددون شكل الزيارة في تسميتها بحج الفقير، وهو الشكل الأول بالمغرب لهذه الظاهرة قبل أن تتعمم في جغرافيات أخرى مع آخرين، ولعلها تعويض من الذكاء الشعبي للفقراء العاجزين عن أداء شعيرة الحج بمكة، أو لاحقا بسبب بعض الأحداث والأوبئة التي أفتى فيها الفقهاء والعلماء المغاربة والأندلسيين بإسقاط الحج لفترة.
أمام سيرة الشيخ يلنور أبي يعزى، يجد كل باحث نفسه وسط مجموعة من العناصر التي تستوقفه للفهم، منها القيمة الثقافية التي سجلها المتصوفة والعلماء من معاصريه ومن اللاحقين وما حوته كتب المتصوفة والمناقب والتي ركزت على أمرين اثنين: سياحته وكراماته، فيما بقيت الكثير من التفاصيل الأساسية، لم يستطع أحد ملأها رغم أنه كان مُحاطا بعلماء ومريدين لهم دُربة الكتابة، في مرحلة انوجدَ من دوّن سيرته أو وفّر أخباره للغير ممن التقطوها وبثوها في مؤلفات المناقب والتراجم، لكنه لم يجد من يُدوِّن تلك الخانات الفارغة.
إن المرحلة التي عاش فيها أبو يعزى، باستثناء التراجم الصغيرة ورصد الأحداث السياسية المرتبطة بالدولة الحاكمة، لم تُوفِّر معلومات إضافية لاستيعاب الكثير من الأسئلة، وظل التاريخ الاجتماعي والثقافي مهملا لم ينتبه إليه أحد، وذلك لأن حياة أبي يعزى هي قطعة من التاريخ الاجتماعي والشعبي المنسي. وربما في مغامرة القول يمكن “تخيّل” هذا الرجل القادم من الحدود الخفية لبلاد تامسنا وصوت بورغواطة الذي دام أربعة قرون ثم ذاب في الأرض دما صريحا وخيالا جريحا وحلما مسفوحا ، فحمله الرجال كما النساء سرّا وسلوكا ومقدرة، كما وقع في مراحل كثيرة من صفحات التاريخ الإنساني، وكان أبو يعزى واحدا من هؤلاء الذي عاد صالحا طاف طوافه لأزيد من خمسة عقود في بلاد تامسنا قبل أن يشد الرحال نحو واحد من أكبر الملاجئ التي فرّ إليها التامسنيون احتماءً من الاجثتات الذي طالهم المرابطين ثم الموحدين.
(يُتبع)