شوقي بزيع
«ويقولون:
هذا غموضٌ \ ويقولون غيبٌ \ غيّبي كلماتي \ غيّبي خطواتي \ واجمحي وخذيني \ أيها
الشهوة الملَكيّه \ إن رأيتَ على مدخل الجامعه \ نجمة، خذ يديها \ إن رأيتِ على مدخل
الجامعه \ كوكباً عانقيه.. \ وكتبْنا على مدخل الجامعه: \ التواريخ تنهارُ، والنار
تطغى…».
لم أجد،
وأنا أبحث جاهداً عن مفتتح مناسب للكلام عن أدونيس، أفضل من هذا النص الشعري
المقتطع من قصيدة له كتبها في منتصف سبعينات القرن الماضي تحت عنوان «أول
الاجتياح». والواقع أن هذا الاختيار لا يعود فقط إلى قدرة النص على اختزال الكثير
من وجوه التجربة الشعرية الأدونيسية التي تقف دائماً على مفترقات الثنائيات
الضدية، حيث يتواجه الوضوح والغموض، الرماد واللهب، الحب والموت، بل لأن في هذا
النص بالذات ما يربطني على المستوى الإنساني والإبداعي، ويربط زملاء وزميلات
كثراً، بصاحب «أغاني مهيار الدمشقي» الذي تتلمذنا عليه في كلية التربية في الجامعة
اللبنانية، قبيل اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية بقليل. ففي هذا النص ما يعكس ذات
الشاعر العميقة والممتدة خارج نفسه والمنقلبة على التراتبية المألوفة للعلاقة بين
الأستاذ وطلابه، لتتحول إلى صرخة عاتية في وجه البطالة الفكرية والتصحر الأكاديمي،
وإلى دعوة مفتوحة لإقامة الصداقة واقتراف الحب وتحرير الجسد من قيوده. لم يكن اسم
أدونيس مجهولاً لدينا، نحن طلاب قسم اللغة العربية وآدابها، حين تم إبلاغنا آنذاك
بأنه سيدرّسنا مادة الأدب الحديث. وكنا بالطبع تواقين إلى التعرف عن كثب إلى
الشاعر الذي تمكن منذ اللحظة الأولى أن ينقلنا من طور إلى طور، ومن ذائقة إلى
ذائقة، ومن زمن إلى زمن. وكانت العلاقة معه لا تقتصر على غرفة الصف، بل تتدرج
امتداداتها من كافيتريا الكلية وأروقتها، إلى متابعتنا أنشطته وأمسياته، وإلى
جلسات الحوار في مقاهي المدينة المختلفة. كما فتح لنا، نحن طلابه اليافعين
والممسوسين بلوثة الكتابة، صفحات مجلة «مواقف» التي كان أسسها بعد توقف مجلة «شعر»
عن الصدور لكي تحتضن انطلاقتنا المبكرة على طريق الكتابة الشاقة. وحيث لم يكن سدنة
المؤسسات الرسمية المحنطة وحراس هيكل البلادة ليستسيغوا حضور الشاعر الشاهق
ومكانته في قلوب طلابه، فقد قرروا الطعن في شرعيته، بدعوى عدم حصوله على شهادة
الدكتوراه التي تخوله التدريس في الجامعة؛ الأمر الذي حمله على تحويل كتابه القيم
«الثابت والمتحول» إلى أطروحة جامعية استثنائية، مكّنته إثر مناقشتها في الجامعة
اليسوعية في بيروت من الحصول على رتبة الشرف العليا.
لم تكن
تلك الحادثة منبتّة بالطبع عن السياق الطبيعي لحياة الشاعر ومواقفه الرافضة
للتدجين على مستويات السياسة والفكر والنص الإبداعي. وإذا كان أدونيس يرى في شخصية
أبيه الراحل النموذج الأسمى الذي رسخ في داخله فكرة الحرية والحرص على رفض التبعية
للحاكم، فإن تجربته ومفهومه للشعر كانا منذ بواكيره يجدان تربتهما الملائمة في
معتقدات بيئته الدينية الخارجة عن النص الرسمي والتي تجد ظهيرها الأمثل في التصوف
والتأويل والتنقيب عن المعنى، بما يدفع النص الشعري إلى حدوده القصوى، ويجعل من
جدل الباطن والظاهر الوجه الآخر للجدل المماثل بين المرئي واللامرئي، كما بين
الحقيقة والمجاز. وإذا كانت المصادفة قد لعبت دوراً كبيراً في حياة أدونيس،
كالدقائق الخمس الفاصلة بين التحاقه بالخدمة العسكرية في بلاده أواخر الأربعينات
وبين فراره إلى بيروت، فإن مصادفة أخرى سابقة هي التي جعلت الرئيس السوري الأسبق
شكري القوتلي يستمع إلى قصيدته المدحية خلال مهرجان سياسي، ويقرر بالتالي إلحاقه
على حساب الدولة بمدرسة اللاييك الفرنسية في طرطوس. وهو ما أتاح له أن يقرأ بشكل
مبكر نتاجات بودلير، ورامبو، ونيتشه، ودو نيرفال من جهة، في حين كان من الجهة
الأخرى يغوص في أعماق التراث العربي والمشرقي بكل جوانبه ومفارقاته وتناقضاته
الضدية؛ مما وفر له الشروط الملائمة لإخراج الشعر من دائرة الانفعال العاطفي والغنائية
الرخوة والمهارة الوصفية، وتحويله إلى مشروع رؤيوي يسهم في تقويض المفاهيم والبنى
السائدة وإعادة صياغتها من جديد. وإذ رأى صاحب «أوراق في الريح» بأن الشعر في عمقه
هو بمثابة إعادة تسمية للأشياء والكائنات، فهو قد بدا متململاً حتى من اسمه
بالذات، فاستبدل اسم علي أحمد سعيد باسم جديد هو أدونيس، الذي بدا محلاً للتقاطع
الواضح بين أناه العقائدية الجمعية، وهو الذي انتمى للحزب السوري القومي آنذاك،
وبين الأنا الفردية التي بتماهيها مع الأصل الأسطوري كانت تعمل بضراوة على استيلاد
أسطورتها الموازية من رحم المغامرة الإبداعية والصراع على حافة الموت مع الخنزير
الآخر المتمثل بالجهل والظلم والفكر المتخثر والمؤسسات البالية. وإذا كان انضمام
أدونيس إلى أسرة مجلة «شعر» التي أسسها يوسف الخال في النصف الثاني من خمسينات
القرن الماضي قد عكس توقه الملح إلى البحث عن أفق مغاير للشعرية العربية التقليدية
التي تخثرت مع الزمن، فإن تأسيسه مجلة «مواقف» فيما بعد بدا ترجمة ملموسة لمشروعه
الفكري الأوسع الذي أراد من خلاله الانتصار للحرية بمستوياتها الثقافية والفكرية
والسياسية، وتحديث البنى الفكرية والمعرفية العربية بعد إعمال النقد الجريء في أسسها
وثوابتها الراسخة.
على
المستوى الشعري بدت التجربة الأدونيسية منذ «قصائد أولى» مختلفة عن سواها، لا من
حيث الأدوات الفنية والجمالية فحسب، بل من حيث النظر إلى الشعر بوصفه مساءلة
للوجود ومشروعاً لتغيير العالم واستيلاداً للذات من رحم المكابدات الداخلية والصراع
مع اللغة. ولعل قصيدة «الفراغ» المنشورة في مجموعة الشاعر الثانية «أوراق في
الريح» كانت إعلاناً صريحاً عن عقم الواقع العربي الذي آلت محاولاته النهضوية إلى
فشل محقق بفعل فساد التربة الفكرية والاجتماعية الحاضنة لها، وهو ما عبر عنه خليل
حاوي لاحقاً عبر قصيدته الأشهر «لعازر 1962»، إلا أن الطبيعة الجدلية للرؤية
الأدونيسية كانت تعصمه من اليأس وتدفعه باستمرار إلى المراهنة على عناصر القوة
المختزنة في دواخل البشر الرافضين. على أن قراءة معمقة لتجربة أدونيس في مراحلها
المختلفة تتيح لنا أن نلاحظ رهانه القوي على دور البطل الفرد في تغيير الواقع
الآسن والانشقاق عليه. صحيح أن رهان الشاعر على التغيير قد تمثل تاريخياً عبر
حركات وظواهر فكرية وثقافية وسياسية جمعية كالصعاليك والمعتزلة والقرامطة والزنج
وغيرهم، إلا أنه في الآن ذاته لم يكف يوماً عن الاحتفاء بالمغامرين الكبار الذين
يصرون على الانعطاف باللغة والفكر والعالم نحو مآلات أفضل، حتى لو أدى الأمر
ببعضهم إلى النفي والاضطهاد وصولاً إلى الاستشهاد. وإذا كان أدونيس قد وجد في
الكثير من رموز التراث المتباعدة أقنعة له ومحوراً لقصائده، كما هو شأن إسماعيل،
وعروة بن الورد، وعبد الرحمن الداخل، وبشار بن برد، والحلاج، والسهروردي، وأبي
تمام، وأبي نواس، والمتنبي، فهو قد اجترح من عندياته رموزاً لاختراق السائد مثل
البهلول والمجنون، أو رموزاً تاريخية معدلة، مثل مهيار الدمشقي الذي «خانه عاشقوه
\ والذي يرفض الغمامه \ تاركاً وجهه علامه \ فوق وجه الفصول». وهو إذ ينتقل بصوته
الرافض من مجموعة إلى أخرى، يتحول في «المسرح والمرايا» إلى شرارة أخيرة في موقد
التاريخ الهامد «سقطتْ مناديل الفضاء بشارة تلد البشاره \ لم يبق إلا عابرٌ شربتْ
ملامحه الجسورْ \ هو مرة نجمٌ يشفّ ومرة نجمٌ يغورْ \ لم يبق من تيه الطريق سوى
الطريق، سوى الشراره».
ليس ثمة
من سبيل إلى السكون أو الاستكانة أو الركون إلى حقيقة ثابتة في شعر أدونيس.
الحقيقة الوحيدة الثابتة عنده، وبتأثير من هيرقليطس، هي التحول المستمر والحركة
التي لا تهدأ. ومع أن أرض كتابته تراجيدية بامتياز، حيث لم يفلح في ظل غياب الحرية
وتعطيل العقل أي مشروع نهضوي، فإن ذلك لم يفض به إلى الاستسلام بل راح، متأثراً
بنيتشه وجبران، ينقب عما يختزنه في أحشائه من عصف روحي ومساحات للمغايرة والتجدد.
وهو إذ يعلن في «مقدمة لتاريخ ملوك الطوائف»، المهداة إلى جمال عبد الناصر، «جاء
العصف الجميل ولم يأن الخراب الجميل»، يخاطب هذا الأخير بقوله «كنتَ كالآخرين
ارفضِ الآخرين \ بدأوا من هناك ابتدئ من هنا \ من أنين الشوارع من ريحها الخانقة \
وابتدئ من هنا \ حول طفل يموت \ حول بيت تهدّم فاستعمرته البيوت».
وفي قصيدة
«هذا هو اسمي» يرى بأن اسمه الحقيقي هو «لغم الحضارة»، وأن لا قيمة للاسم إذا لم
يحوّله المسمى إلى طاقة سحرية فاعلة ورمز للصيرورة والتحول، حيث «علي لهبٌ \ ساحرٌ
مشتعلٌ في كل ماءْ». وهو ما يعيدنا إلى صلب المنظور الأدونيسي للشعر الذي لا يرى
في هذا الفن تصريفاً لفائض العاطفة، أو مجرد تفاعل رومانسي مع الوقائع والأحداث،
أو حتى انكباب مفرط على تفاصيل لا طائل منها، ولا مشروعاً لتغيير اللغة وإنقاذها
من تعنت النحاة فحسب، بل يرى فيه مشروعاً لتغيير العالم ووضْع الحياة عند التخوم
الأخيرة للمغامرة والابتكار. ولأن الشعر هو بمثابة تاريخ آخر في قلب التاريخ، لا بل
إن أدونيس قد ذهب إلى أبعد من ذلك في ثلاثيته الشهيرة «الكتاب»، التي تماهى من
خلالها مع شخصية المتنبي، حيث رأى في الشعر تكريساً لسلطة اللغة بدلاً من لغة
السلطة، وتاريخاً آخر يرسم المبدعون المتنورون تضاريسه الخلاقة بمحاذاة التاريخ
الرسمي الممهور بالكذب والمضرج بالدم. ولعل هذا الإعلاء الاستثنائي لمعنى الشعر
يضع أدونيس على الضفة المقابلة لأفلاطون، الذي أراد أن يطرد الشعراء من جمهوريته
بدعوى كونهم متبطلين وهامشيين ومزورين للحقيقة.
على أن
أدونيس المنقلب على المفاهيم ونظام القيم والأفكار المعلبة، لم يربط الحداثة بالتأخر
الزمني ولم يرها رديفاً للمعاصرة، بل ربطها بالمغايرة والتجديد، حيث لا فرق بين
شاعر جاهلي وشاعر معاصر إلا بالفرادة والابتكار، وهو ما أكدته بوضوح المختارات
النادرة التي جمعها بنفسه تحت عنوان «ديوان الشعر العربي». وفي تجربته الشخصية لم
يربط الحداثة بالشكل وحده، بل بالرؤيا والمقاربة والمشروع، بدليل أنه آلف عبر
تجربته المديدة بين قصيدة الشطرين وقصيدتي التفعيلة والنثر. وهو لم ينقلب على
الركائز الأولية للغة العرب، ولم يقوّض أسس النحو العربي بحجة تفجير اللغة أو
تمجيد الركاكة، كما فعل البعض. لا، بل إن اللغة الأدونيسية هي من زاوية ما لغة
«نبوية» حاسمة النبرة ومحْكمة الصياغة تتصادى مع بعض فصول العهد القديم ومع الروح
العاتية لكل من نيتشه وجبران. وهي تتصادى، من زاوية عصبها الذكوري المتوتر
والمشدود، مع سلالة الشعراء «الفحوليين» من أمثال امرئ القيس، وأبي تمام، والمتنبي،
وسعيد عقل، في مقابل سلالة العصب «الأنثوي» ذي المنسوب العاطفي المرتفع والليونة
الإيقاعية المترعة بالشجن، كما هو حال أبي فراس الحمداني وبدر شاكر السياب، وصولاً
إلى محمود درويش. على أن ذكورية العصب التعبيري عند الشاعر لا علاقة لها على
الإطلاق بذكورية القيم والمفاهيم البطريركية والأبوية، بل هي محاورة للأنوثة على
القمة الموازية، ومن موقع الشغف والافتتان القصووي. وهو ما تعكسه بوضوح قصيدته
الفريدة «تحولات العاشق» التي تؤالف بين النزوع الشبقي الشهواني وبين الالتحام
الصوفي بالمرأة المعشوقة.
وإذا كان
أدونيس قد استشهد بقولة القديس بالاماس «الجسد قبة الروح»؛ فلأنه كان ينتصر للجسد
الشبقي والجمالي، واللغوي تالياً، في مواجهة الجسد الديني والأفلاطوني الذي يراوح
بين الدنس والخطيئة والغياب. وهذه المزاوجة بين شبقية الحب وشبقية التعبير، أو
ثنائية المرأة اللغة، تتكرر في غير عمل من أعمال الشاعر، وخصوصاً في «مفرد بصيغة
الجمع»، حيث نقرأ: «أمحوكِ أيتها الشهوة \ أكتشفكِ \ أسمع للحوض صهيل الأفراس \
أسمع للسرة امتداد السهوب \ ألمس القحف والقلب \ نبض العظم \ وحوحة الشرايين.. \
اتركي لجسدي أن يَثْبت على الورق».