د. إبراهيم ابراش
المفاهيم والمصطلحات السياسية مفاتيح وأدوات علم السياسة ونظرياته لفهم وتفسير الواقع السياسي واستشراف المستقبل، وكلما كانت النظرية السياسية ومفرداتها من المفاهيم والمصطلحات تعبر عن وتعكس الواقع السياسي من مؤسسات وعلاقات وأفكار كلما ارتقى علم السياسة وأصبح مواكباً لمجريات الحياة السياسية وأكثر قدرة على تفسيرها، ومن هنا فإن علماء السياسة يجتهدون في اشتقاق النظريات ونحت المفاهيم والمصطلحات الأكثر قدرة على وصف وتفسير الظواهر السياسية المستجدة، أو تبيئة وتحوير المفاهيم والمصطلحات الكلاسيكية التي فقدت مدلولاتها الواقعية.
وحيث إن السياسة كظاهرة اجتماعية لا تعرف الفراغ كما لا تعرف الثبات فمن المفترض أن يتطور علم السياسة وتتغير المفاهيم والمصطلحات أو تتطور بما يجعلها معبرة تعبيراً صادقاً عن مدلولاتها الواقعية.
المصطلحات والمفاهيم والنظريات التي صاغها علماء السياسة في اليونان القديمة أو في عصر الإقطاع أو في القرون الوسطى وسيطرة الكنيسة في أوروبا وحتى التي صاحبت مرحلة الحرب الباردة لا تَصلُح كلها لفهم وتفسير الحياة السياسية اليوم، والمفاهيم والمصطلحات التي وضعها علماء السياسة المسلمون في صدر الإسلام وفي زمن الخلافة قد تبدو غريبة عن واقع الدول الإسلامية اليوم كممارسة وأنماط تفكير، أو أنها محل خلاف ويتم تفسيرها ومحاولة تطبيقها جزافاً.
إن كانت بعض المفاهيم والمصطلحات والنظريات والأيديولوجيات ما زالت تتعايش معنا وتشكل جزءاً من لغتنا اليومية عند الحديث في الشأن السياسي مثل السلطة والدولة والديمقراطية والأحزاب وما يرتبط بهما من مفاهيم ومصطلحات، إلا أن كثيراً منها تجاوزها الزمن أو أصبحت حمالة أوجه، فالواقع السياسي يتغير بوتيرة أسرع من عملية التنظير العلمي السياسي، كما تسللت للخطاب السياسي الشعبي وحتى الإعلامي مفردات سياسية لا تمت بصلة لعلم السياسة.
تعتبر مؤسستا السلطة والدولة وما يرتبط بهما من مفاهيم ومصطلحات ونظريات العمود الفقري لعلم السياسة والموضوع الأهم له بالرغم من تعاقب القرون وتعدد النظريات بشأنهما، وكانت وتيرة تطور السلطة والدولة أسرع من عملية التنظير بشأنهما حتى أصبح علم وعلماء السياسة في حالة اغتراب عن الواقع السياسي وهو ما يتم التعبير عنه أحيانا بأزمة علم السياسة والعلوم الاجتماعية بشكل عام .
منذ وجود الدولة أو المجتمع الكلي، ما بعد سلطة الأسرة والقبيلة، وهناك سلطة تُخضع لها مجموعة من الناس، وعلم السياسة والمشتغلون به يصنفون الأنظمة السياسية تصنيفات ثنائية أو متعددة اعتماداً على شكل السلطة وموئلها وعلى معايير مرتبطة إما بأيديولوجيا النظام أو أصول الطبقة السياسية الحاكمة أو بموقع الدين في المجتمع وفي دستور وقوانين الدولة أو الموقف من الحريات العامة ودور الشعب في إدارة شؤون الدولة.
وفي الوقت الحاضر وبسبب ما طرأ على المجتمعات والأيديولوجيات من تحولات تتداخل الأسس التي تقوم عليها التصنيفات وتلتبس المصطلحات والمفاهيم بهذا الشأن، حيث يمكن القول بأن كثيراً من المفاهيم والمصطلحات أصبحت متجاوَزة وتعبر عن حالة ماضوية في تاريخ الدول والأنظمة السياسية أو يتم استعمالها تجاوزاً إلى حين نحت مصطلحات ومفاهيم جديدة.
كانت أشهر التصنيفات بهذا الشأن: أنظمة اقطاعية وأخرى ليبرالية، أنظمة ديمقراطية وأخرى استبدادية أو شمولية، أنظمة تقدمية وأخرى رجعية، أنظمة شيوعية ويسارية وأخرى ليبرالية ورأسمالية، أنظمة عسكرية وأخرى مدنية، أنظمة دينية أو طائفية وأخرى مدنية أو علمانية، أنظمة ملكية استبدادية أو جمهورية شعبية الخ.
هذه المصطلحات لم تعد مناسبة للتمييز بين الانظمة السياسية اليوم حيث تتداخل أحياناً هذه الأنماط في نفس السلطة والنظام السياسي، ففي المغرب مثلا خليط من السلطة الدينية والسلطة الديمقراطية والسلطة الوراثية، وفي إيران وباكستان تلتبس الأمور ما بين السلطة الدينية وسلطة القانون الوضعي وبعض مظاهر الديمقراطية، وفي روسيا مزج ما بين الديمقراطية والكاريزما والاستبداد، وفي إسرائيل تداخلّ بين الدين والديمقراطية والعنصرية، وفي الولايات المتحدة ومع التقدم الكبير للديمقراطية والعلمانية إلا أن هناك بعض مظاهر التدين كما كان الأمر مع الرئيس جيمي كارتر وبوش الأبن، فهذا الأخير تحدث عن الحرب الصليبية، كما أن الرؤساء الأمريكيين وكبار رجالات الدولة يحلفون اليمين عند تنصيبهم ويدهم على الكتاب المقدس الخ.
نفس الأمر بالنسبة للمصطلحات المرتبطة بالدولة فقد عرف شكل الدولة أو المجتمع الكلي تحولات فانتقل من مجتمع القبيلة إلى دولة المدينة أو الحاضرة إلى الدولة الإمبراطورية إلى الدولة القومية، وإن كان المعتمد اليوم هو الدولة القومية أو الحديثة إلا أن الأشكال الأخرى من الدول أو المجتمعات الكلية ما زالت موجودة بشكل أو آخر، كما كان يجري عملية تصنيف للدول اعتماداً على مستوى تقدمها وتحضرها كالقول بدول متقدمة وأخرى متخلفة أو دول العالم الثالث أو دول الجنوب، أو ما تتمتع به من سيادة، فيقال دول مستقلة وذات سيادة وأخرى مستعمَرة أو خاضعة للوصاية .
لا توجد اليوم دولة يمكن القول بأنها قومية خالصة حيث تتعايش عدة قوميات داخل الدولة مع سيطرة أو غَلَبة قومية على بقية القوميات ، وهذا التعايش إما أن يكون برضا الجميع في الأنظمة الديمقراطية أو فسرا وقهرا في الأنظمة الدكتاتورية أو التقاء مصالح الجميع، وحال الولايات المتحدة وكندا واستراليا وعديد الدول الأوروبية التي شرَّعت أبوابها أمام الهجرة دليل على ذلك أيضا واقع الهند وروسيا الخ، كما يختلط الأمر بالنسبة للدولة الواحدة ما إن كانت ديمقراطية أو استبدادية، دينية أو مدنية، متقدمة أو متخلفة، وحال دول الهند والصين وإيران ودول الخليج خير مثال على ذلك ـ
أيضاً فإن مفهم السيادة المطلقة للدولة أصبح محل شك في زمن العولمة والثورة المعلوماتية والفضاءات المفتوحة، كما تراجعت بعض المصطلحات مثل البروليتاريا والصراع الطبقي والتبعية، كما أن مصطلح الدولة الفاشلة أصبح يزاحم مصطلح الدولة المتخلفة أو يتداخَل معه، حتى الديمقراطية أصبحت مصطلحا وسلوكا غريبا عن معناه ودلالته الأولى كما كان في أثينا القديمة، فغالبية الأنظمة السياسية تزعم بانها ديمقراطية بالرغم من الفروقات الكبيرة بينها.
ربما أكثر المفاهيم والمصطلحات التي تجاوزها الزمن أو تحتاج لإعادة تعريف هي ذات المضامين الأيديولوجية كالقول بأنظمة يساريةـ شيوعية، تقدمية، وأخرى يمينية، محافظة، ليبرالية، فهذه التصنيفات تراجعت أو باتت ملتبسة لتراجع الأيديولوجيات المرتبطة بها أو ما طرأ عليها من تحولات وتغيرات أبعدها عن أصولها المعرفية الأولى، كالشيوعية والليبرالية، فاليسار لم يعد يساراً واحداً ولا اليمين يميناً واحداً، فبعد أن كنا نتحدث عن اليسار أصبح هناك يمين اليسار ووسط اليسار ويسار اليسار، ونفس الأمر بالنسبة لليمن حيث وسط اليمين ويسار اليمين ويمين اليمين و اليمين المحافظ والمتطرف، ونفس الأمر بالنسبة للإسلام السياسي بأنظمته وحركاته، حيث نسمع عن إسلام معتدل وإسلام متطرف وعن اليسار الإسلامي الخ.
التبست الأمور والمفاهيم في تصنيف الأفراد كما الأحزاب والأنظمة السياسية، ما بين اليسار واليمين، الثوري والرجعي أو المحافظ،، الديمقراطي والاستبدادي، الوطني وغير الوطني، المتحضر والمتخلف، الجهادي والإرهابي، والأساس العملي الذي ينبني عليه التمايز، لأن الشعارات لوحدها ليست مقياساً للحكم.
وفي جميع الحالات فإن علم السياسة ما بعد الحرب الباردة وفي زمن العولمة والثورة المعلوماتية وتأثيراتها المجتمعية والاقتصادية يعيش حالة اغتراب ويمر بأزمة في التكيف ومواكبة المتغيرات المتسارعة. وإن كان هذا حال علم السياسة في المجتمعات المتحضرة حيث يسود التفكير العلمي في شتى المجالات ويتواجد فيها مراكز أبحاث وجامعات متخصصة في الشأن السياسي، فإن حال علم السياسة ونظرياته في دول الجنوب وخصوصا في الدول العربية يعيش ليس فقط حالة اغتراب بل هو شبه مُغَيَّب حيث حضور وفاعلية انماط التفكير والتشكلات الاجتماعية لما قبل الدولة والسياسة أكثر فاعلية وحضورا .
كاتب واكاديمي فلسطيني
Ibrahemibrach1@gmail.com