الأستاذ عبد اللطيف مجدوب يكتب:سعادة لا تطاق!

admin
كتاب واراء
admin18 مايو 2024آخر تحديث : منذ 4 أشهر
الأستاذ عبد اللطيف مجدوب يكتب:سعادة لا تطاق!

عبد اللطيف مجدوب

أقصوصة قصيرة تستلهم أحداثها وشخصياتها من واقع أليم، انقض بكل أنيابه ومخالبه على شباب معظم دول أوروبا، فأرداه مدمنا تحت وطأة مخدرات؛ يعايشها صباح مساء لتعصف به في كل الاتجاهات.

كانت السماء ملبدة بقطع غيوم داكنة، تتسارع بفعل رياح عاتية ما لبثت أن أخذت ترْعد .. لتعقبها قطرات ثخينة، سرعان ما تحولت إلى سيول؛ فتأتي على بلدة غومري ضواحي لندن جوار قرية بلومبري، وتحديدا بمحطة سانكوموني، حيث كانت نارسينا في انتظار الحافلة، بدت حائرة في أمرها.. ولم تكن تعبأ بالرياح وهي تتلاعب بخصلات من شعرها ذي اللون القمحي، لم تجد بدا أن هرعت إلى رواق زجاجي هناك لتقي نفسها من السيول الماطرة.

زجاجية عريضة ازدانت بأسماء لأطعمة وأشربة ساخنة؛ ظلت تمعن في إحداها، وما إن اقتربت من الشباك الأتوماتيكي حتى أخذ هاتفها يرن:

ـ هيلو.. هيلو.. هذه أنت ماريانا.. حبيبتي.. أهلا.. لا.. باغتتني الأمطار فدلفت إلى رواق هنا.. نعم.. ولكن الشقة بعيدة؟ سأنتظرك وأحجز لك لقمة فانسوم بالعسل والزبادي.. هاي لا تتأخري حبيبتي..!

انزوت بركن هناك جوار طاولة بنية، وجعلت تفحص أغراضا لها داخل حقيبة جوخية. كانت في عقدها الثاني ببشرة وردية ناعمة، بدت وشوم لثعابين مزركشة على ساعديها، نظراتها سادرة لا تلوي على شيء، من بين أغراضها كتاب بعنوان سعادة لا تطاق An unbearable happiness؛ مؤشر على معظم صفحاته بسطور حمراء.

هتفت لها ماريانا من بعيد عبر العارضة الزجاجية، وهي تستعد لركن سيارتها:

ماريانا: هيلو.. نارسينا حبيبتي.. كيف أنت مع محنة أطروحة الدكتوراه؟!

ـ أوه.. تبدو لي أحيانا وكأني مقبلة على عالم لا أرغب فيه إطلاقا.. عالم الأجنة.

ماريانا وأناملها تتسلل إلى حشوة الفانسوم اللذيذة: ـ لدي إليك مفاجأة!

نارسينا فجأة تتوقف عن المضغ بفم فاغر محملقة في ماريانا: مفاجأة.. أية مفاجأة؟!

ماريانا تحاول دفع الفاتورة من خلال هاتفها: مفاجأة لتستعيدي أجمل لحظات السعادة..

نارسينا متأففة: لا تحمّلي نفسك.. مسكينة هذه السعادة، لو كانت امرأة لاغتصبوها ولعنوها ورجموها حتى الموت.. ها.. ها.. ها.. لدي كتاب يزعم صاحبه أن لديه خلطات كثيرة للسعادة، لكن بدت لي هراء في هراء..

ماريانا تنهض: أعيريه لي علّني أجد فيه بعض السلوى.

أحلام متموجة

في أقصى نقطة شرقية من مدينة لندن وعلى طريق رملية بموازاة مع إحدى ضفاف نهر التايمز، كانت هناك سيارة تسير الهوينا، كما لو كانت عبارة عن صديقتين داخلها يتجادلان حول أفضل وجهة لاقتناص المتعة.. حاولت ماريانا استدراج نارسينا إلى منطقة شبه معتمة، تحفها أشجار السنديان بأوراق كثيفة تراقصها نسمات ليلة باردة، بدت من خلالها لوحة بوميض خافِت لملهى ليلي يقبع بقبو سفلي، ثم ما لبثت أن التفتت إليها وسبابتها باتجاه المبنى:

ـ لدي اليقين أنك ستعشقين المكان ولن تترددي عن الاختلاء إليه في كل أوقاتك.. حبيبتي

كان شبيها بسرداب عسكري بدرج متصل بأذرع حديدية مزنجرة، بخطوات وئيدة، أفضت بهما إلى بوابة، في حين كانت هناك أصداء لأصوات لغط شرعت تقرع أسماعهن، انفتحت البوابة فإذا هما داخل بهو فسيح يضج بحناجر حشود ترقص صائحة على إيقاع نغمات السامبا، تحت أضواء ألوان متموجة، تعبق زواياها بروائح أشربة الماريخوانا المعتقة بالنبيذ. مازالت نارسينا مذهولة أمام مشاهد رخوة لم تعهد لها من قبل مثيلا، وهي كذلك، إذا بإحداهن تحاول اقتيادها إلى أريكة هناك.. تذوقت بأطراف شفتيها كوب شراب، فاستطابته ولم تلبث أن أفرغته في جوفها، وقامت من حينها ترقص مشدودة إلى يد ماريانا… وهي لا تفتأ عن إصدار قهقهات وزعقات تلو أخرى، لا تعير بالا للأيادي التي كانت تمتد إليها، وهي تحاول خلع صدريتها من فرط صخب وحرارة المكان… ندماء عديدون أخذوا يتقاطرون على البهو، من ذوي عينات مختلفة، بمن فيهم الشواذ المثليون والسحاقيات والباغيات والقوادون وتجار الهيروين والكوكا والأفيون… لوحظ أن ماريانا كانت تحظى وسطهم بصداقة حميمية؛ تغدو وتروح بين أكابرهم وأحطهم منزلة دون استئذان، وكم منهم من مال عليها يُسرُّ إليها بشي ما، لا سيما بعد أن علموا أنها على صلة بالوافد الجديد نارسينا.

في الساعات الأولى من صباح اليوم التالي، وعلى إيقاع صفير الرياح وزمجرة أوراق أشجار، خرجت نارسينا مترنحة في مشيتها، تمسك بها ماريانا في اتجاه سيارة فخمة كانت في الانتظار هناك.

يقظة غير عادية

كانت ما زالت غارقة في نومها، والخادمة تقف عند حافة سريرها تحاول إشاحة أغطية عنها:

ـ نارسينا… نارسينا…! حبيبتي انهضي، الوقت متأخر، هلا استدعيت لك السائق ليقلك إلى الجامعة؟ لقد التحقت متأخرة، كان أحدهم يمسك بذراعك.. حالتك كانت..

نارسينا، تحاول فرك عينيها، وقد بدتا متورمتين، ورائحة النبيذ ما زالت تسح من صدريتها: لا.. لا. لا سأنهض لاحقاً..

لم تكن تستطيع الثبات في وقفتها أمام المرآة، فاعتبرتها أمرا عاديا لإفراطها في الشراب، واكتفت باحتساء كوب قهوة، ثم همت بمغادرة الفيلا؛ غير أن حركاتها لم تطاوعها، كانت تحس بتثاقل كل مفاصلها ولم تعد تقوى على المشي، فعمدت إلى شرب مهدئ كانت تحتفظ به في حقيبتها، لكنها وجدت بديلا عنه! وعيها لم يكن يميز بين ذات الألوان، بيد أنها كانت تشعر برغبة جامحة في أن تعود إلى احتساء كؤوس ليلة البارحة، وصورها ما زالت تعبث بأخيلتها، وهي تقف شاردة أمام مدخل الجامعة. ظل هاتفها يرن، وهي مترددة بين الإجابة والرفض، حتى الأسماء والصور التي أخذت تتوالى على شاشته لم تعد تكترث لها.

أقلت سيارة أجرة، سألها السائق عن وجهتها، فجعلت تحاول التذكر، عاودها بالسؤال:

ـ اسمك؟!

أجابته وهي ما زالت متأرجحة بين اليقظة والنوم: نارسينا… نارسينا ك…

أمسك بهاتفها محاولا الاتصال بأحد أرقامه، فصادف أن كان لمارينا!

مخدر بمفعول خلوي

عادت نارسينا إلى الملهى، فألقت بكليتها في أحضانه، تتقاذفها الأيدي من كل الزوايا؛ معربدة تارة ومقهقهة وصارخة أو باكية تارة أخرى.. بين آونة وأخرى تعبّئ نفَسا عميقا من ملفوف هذا أو ذاك، وأصرت على أن تصبح إحدى خادمات الملهى، على أن تكون لها الحصة الوافرة من زبنائه ورواده، إلا أنها كانت تتخفى فتعمد إلى درج هناك بخزنة الملهى فتسرق منه أكياسا ورقية صغيرة لتمزج محتواها بشراب البوخّا، حتى تحصل في اعتقادها على المشروب السحري والترياق الذي طالما حدثتها عنه صديقتها ماريانا بأنه يمثل “قمة السعادة”، ومن العسير العثور عليه أو محاولة تركيبه!

حتى إذا ما نفد منها آخر كيس، استشعرت شيئاً ما يهلوس في أعماقها بمغادرة الملهى.

كانت تخطو متعثرة على طرقات شعبية قذرة بهوامش أحياء مدينة لندن؛ منفوشة الشعر، شاحبة الوجه، ممتقعة اللون، كل المارة ينظرون إليها من طرف خفي، وهم يضمرون أنها نتاج عالم مجون قذف بها إلى هذا الصقع.

تحت جنح ليلة باردة عاصفة، اعتادت دورية “ليالي لندن” مسح شوارع وأزقة لندن للعثور على المتسكعين والجناة الفارين من العدالة، فكان أن عثروا عليها مكومة ومسندة إلى رتاج من العصر الفيكتوري، وقد تبعثرت من حولها عبوات جعة فارغة! .. احتاروا في أمرها، وهم يهمون باقتيادها إلى داخل مخفر الشرطة:

ـ اسمك يا هذه؟!…، كانت تكتفي بنظرات محملقة لا تشي إلى شيء، فسجلوها تحت اسم وصورة “سكيرة متسكعة خرساء”.

حمقى خرسان

استرعى انتباه إدارة مكافحة المخدرات والجريمة، من خلال دراستها لتقارير لوائح الزوار الذين تم العثور عليهم، وجود خط رابط بين حالاتهم الفيزيائية وبين عجزهم عن النطق؛ ما دفع الهيئة إلى عرض عينات منهم على مركز الأبحاث الفيدرالي، ومن ثم إخضاعهم لفحوصات دقيقة أسفرت نتائجها فيما بعد وتحت ذهول كبير المراقبين عن حالة لفيروس غريب يعمل على إتلاف الدماغ بنسبة 75 في المائة ويشمل مناطق السمع والبصر، دائم التمدد إلى باقي أعضاء الجسم.

انتشر الخبر حينها لتتلقفه أمهات القنوات الفضائية في إنجلترا وباقي أنحاء العالم، فلقي اهتماما منقطع النظير؛ دفع خبراء في فيروسات المخدرات Drugs specialists إلى معاودة الكشف عن هؤلاء، كان من بينهم نارسينا إلى جانب آخرين ضاجعتهم أو بادلتهم لفافات الحشيش.

وبعد دراسة كل العينات التي عثروا عليها بحوزتهم، تبين لهم، وتحت أعين مجهرية عميقة، أنها ملوثة بهذا الفيروس سريع الفتك بجسم صاحبه أطلقوا عليه اسما افتراضيا “سعادة لا تطاق” An unbearable happiness يترك قلب صاحبه عرضة للتوقف التدريجي عن ضخ الدم في أمد قصير لا يتجاوز ثلاثة أسابيع !

إجراءات احترازية مشددة

على جناح السرعة، تم نقل المصابين إلى منطقة نائية خارج حزام لندن، وإيداعهم فرادى داخل غرف زجاجية سميكة، وتحت لافتات حمراء بارزة مصحوبة برموز جمجمة الإنسان “ممنوع الاقتراب”!

يسدل ستار القصة على مشاهد أليمة تعرضها قناة CNN تباعا لتطويق الملهى الليلي وحجز كل محتوياته ومتابعة كل زبنائه، ثم أخيراً مشهد لأم يعتصر قلبها ألما وهي تراقب ابنتها نارسينا من خلف الزجاجة الواقية، وهي تقتعد كرسيا خشبيا، مطرقة برأسها إلى الأرض.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.