عبد اللطيف مجدوب
مدخل عام
بالنظر إلى السلالات والأسر التي حكمت البلاد العربية؛ عبر العصور والأحداث والوقائع الفاصلة التي تضيق بها فصول التاريخ السياسي العربي؛ يمكن للباحث أن يلتقط مؤشرات غاية في الأهمية والخطورة، لعل أبرزها ظاهرة العمد إلى مصادر المعرفة وكل ما له صلة بنظام حاكم أو شخص بعينه أو تيار فكري مناهض، ثم العمل على إحراقها وإتلافها وتدميرها أو طمسها، ويندرج؛ في هذا السياق؛ مكتبات بأكملها ومخطوطات وحوليات وسجلات وأدوات، ويستوي؛ ضمن هذه المصادر؛ الأشخاص أنفسهم، فيلقون مصيرهم بالتصفية الجسدية، كقطع دابر لكل رواية شفاهية؛ من شأنها أن تبقي على حياة مصدر معرفي معلوم. ويتساءل المرء؛ أمام مصادرة هذه المعالم المعرفية والثقافية بوجه خاص؛ عما هي النوايا والأبعاد التي كانت تقف خلفها؟
لقد أجمع معظم الباحثين والمؤرخين خاصة على أن تاريخ البلاد العربية كان؛ في معظم أطواره وأحقابه؛ دمويا (bloody) بالمعنى العدائي ذي النزعة التوسعية والانتقامية، فقد كانت الحروب سجالا لا تفتر بين هذا المعسكر أو ذاك، وكلما قامت دولة/خلافة على أنقاض أخرى عمد الحاكم/الخليفة الجديد إلى محو آثار ومعالم الأولى؛ حجرا كان أو ورقا، وأحيانا تمتد أياديه إلى “العلماء” وكل من مازال يدين بالولاء إلى الحاكم المخلوع، وفي حالات كثيرة؛ وتحاشيا لمغبة الاصطدام المذهبي وكل كتابة ذات علاقة بمناهضة تيار فقهي ما، أو تفنيد أطروحة سياسية ضد أخرى؛ عمد كثير من الفقهاء والأدباء والكَتبة إلى إحراق كتبهم أو إتلافها، ومنهم من تعلل؛ وراء فعلته؛ للحيلولة دون وقوعها بأيدي غلاة أشرار أو وشاة فيطالبون برأسه، على أن الفعل الهمجي هو الآخر كان حاضرا بقوة في إحراق المكتبات، كما صنع تيمور لنك (1239-1400) بمكتبة بيت الحكمة أثناء غزوه للعراق.
أما الدوافع السياسية والمذهبية؛ وراء إتلاف الكتب والتصانيف العربية؛ فسنجد أن الإمبراطورية العثمانية وبسط نفوذها على البلاد العربية أبرز مثال على تصفية وإتلاف كل الآثار ومعالم المعرفة التي تتنافى مع توجهاتها السياسية والمذهبية، أو تشتم فيها رائحة التغني بمفاخر العرب وفتوحاتهم.
في التاريخ المغربي …
هناك رواية شفاهية تناقلها الرواة، مفادها أن الفقيه الحسن اليوسي؛ دفين إحدى قرى عزّابة بإقليم صفرو؛ بعث برسالة إلى السلطان مولاي إسماعيل “يؤنبه” شرعا بأن اتخاذ الجثة الآدمية آجرا في بناء الأسوار منهي عنه، فأرسل إليه يستقدمه إلى بلاطه بمكناس صحبة كتبه، إلا أن الفقيه تعلل بمرض ألزمه الفراش، وكان يعلم بمصيره ومصير كتبه فأودعها سرا لدى بعض رجاله. كما أن السلطان نفسه؛ وتعقبا له لكل ما يمت بصلة إلى أسرة السعديين؛ أجهز على “القصر البديع” بمراكش فتم تجريده من كل معالم الزينة والفخامة التي عرفها السعديون على عهد السلطان المنصور الذهبي، ليلا يعود له ذكر في الذاكرة الشعبية.
كتاب سيعجّل بمقتل صاحبه
اشتهر الفقيه لسان الدين بن الخطيب بلقب “ذو الوزارتين”، لجمعه بين “وزير الديوان” وكل ما له صلة بمراسلات الخليفة، على عهد الخليفة محمد الخامس الأندلسي حاكم غرناطة وبين توليه إمارة القضاء، فكثر حساده وأعداؤه ومناوئوه داخل البلاط وخارجه، وشرعوا يتحينون الفرصة تلو الأخرى للإيقاع به، حتى إذا كشف النقاب عن كتاب له أسماه: “روضة التعريف بالحب الشريف”، فتلقفه الوشاة طعْما ساما لدى الخليفة ورموه بالزندقة والطعن في “آل البيت”، ومن ثمة بدأ العد العكسي لتصفيته، وسيلقى مصرعه بمدينة فاس ودفن بها، لكن حُرقة العداوة ونيرانها في قلوب الوشاة ستخف بعد أن أمروا باستخراج جثته وإضرام النار بها، على مرأى ومسمع حشود غفيرة؛ كانت تحج كل يوم جمعة إلى “باب محروق” لتشهد تعليق الرؤوس وإحراقها!
أين هي معالم الحماية الإسبانية بالمغرب؟!
فور الإعلان عن استقلال المغرب وجلاء قوات الاحتلال الإسبانية، عمد الفكر الديني الظلامي لدى جمهرة من “الفقهاء” إلى إصدار فتوى بجواز إحراق وإتلاف وطمس كل المآثر والوثائق والمباني ذات الصلة بالإسبان باعتبارهم “كفرة” لا يجوز “شرعا” استخدامها أو الاحتفاظ بها، وبناء عليه اندرست كل المدارس والحصون والمؤسسات ومراكز الترفيه والتثقيف التي خلفها الإسبان في كل من مدينتي الناظور وتطوان..!
هل تاريخنا سليم من البتر؟
هي إشكالية مركزية معقدة؛ يمكن أن تنسحب على كل تاريخ الأمم والشعوب، لكن بالنسبة للتراث العربي، في جانبه المعرفي المكتوب؛ فسيكون على الباحث المحقق طرح أسئلة كبرى حول تدْمير وإتلاف أجوبة ظلت حبيسة رفوف مكتبات عدة، وفي آن واحد سيجد نفسه أمام ركامات من المعارف، وسيشق عليه حملها على وجه اليقين، بل التشكيك في صحة رواياتها أمر وارد، طالما أنها وصلت إلينا عبر مصاف وغرابيل؛ يختلط فيها السياسي بالديني والإيديولوجي.