عبد اللطيف مجدوب
قصة استباقية، في زمن المستقبل، تتناول بشكل أسطوري حكاية فتاة أطلسية عذراء، اتجهت إلى امتلاك هواها والانفراد بها أعين الإنس والجن، لكن نزاعا غريبا كان يدور في الخفاء أودى بقلبها المعذب فداء للأرواح الخيرة والشريرة.
إيموزار كندر
كانت تتفحص وجوه المتسوقين بنظرات ودودة، لا تنفك عن مجاملتها للصَّبية الذين اصطفوا إلى جانبها يعرضون بيع الخبز البلدي على المارة.
كانت بقسمات أطلسية شقراء ذات عينين متناومتين، تحمل ذقنها الدقيق وسمة بزرقة بادية، في سنها الرابعة عشرة، ما كانت ملابسها الرثة المهلهلة لتحجب أنوثتها الباكرة، حتى ليخالها الناظر راعية غنم قدمت لتوها من مرتفعات إيموزار كندر.
نادتها امرأة ملفعة بالحايك الموزوني:
– “.. مليكة… آمليكا.. أويور..” هيا.. كانت تستحثها على مغادرة المكان، بعد أن وضبت كل مشترياتهم داخل سلة كبيرة.. اتخذت مقعدها جوار عسو الذي جعل يضغط على دواسة “البيكوب”، استعدادا للإقلاع.
كانت علائم فصل الربيع شرعت تكسو التلال المجاورة باخضرار أتى على أوراق وأغصان وحشائش غطت كل ضفاف السفوح التي ظهرت من خلالها “البيكوب” تتسلق طريقا متعرجا، ما انفكت تستعرض أمام ناظريها مباني مبعثرة كانت تقبع بغور سحيق، تتضاءل صورها كلما اقتربت بهم السيارة من تلك القمم.
توقف عند عين هناك، فعبأ براميل كان قد أعدها لتغطية مستلزمات حفل منتظر، ألقت بنظراتها إلى مياه العين وهي تنساب عبر السواقي، فانخرطت في بكاء متحشرج وكأن علاقة ما تربط بينهما آذنت إلى الزوال.
التفت عسو إلى كنزة:
– “.. تيويين كورشي..؟ (اقتنيتم كل شيء)”
– ردت عليه ببرودة مولية وجهها إلى مليكة وهي مازالت تكفكف دموعها: “.. كورشي.. غار السبنيا.. (كل شيء إلا غطاء الرأس السبنيا)
– “.. مغار.. وارستعجيباش.. ثلَّين؟ (ألم ترقها؟)”.
انتهى بهم السير أخيرا إلى منزل طيني وسط أبنية متناثرة يجمعها دوار أولاد اسغروشن، ظهرت أدخنة تتعالى منه في الفضاء، بينما سارع قطيع من الكلاب والجراء تبصبص وتتمسح بهم احتفاء بعودتهم.
إقامة فرح..
كانت هناك راية بيضاء مشدودة إلى قصبة تتلاعب بها الرياح خفاقة على سطح دار عسو، أخذت جموع من رجال ونساء الدوار تلتحق بها في وقت مبكر من مساء يوم بارد، لاحت في فناء الدار فرقة أحيدوس ترقص على إيقاعات البنادر والمواويل الأمازيغية، تصدح في جنباتها، بينما شرع المدعوون يقتعدون أرائك بطنافس مزدانة بزرابي الموزونا، احتلت أركانها مدافئ ضخمة محملة ببقاريج نحاسية تفور أبخرتها إلى جانب براريد تنتظر احتضانها كؤوسا منعنعة بصواني لماعة، مجاورة لموائد ذات أطباق الشواء بما لذ منه وطاب.
كان عسو يختال بين الضيوف بخطوات متثاقلة، مزهوا ببرنسه الصوفي الضارب إلى لون الرماد وعمامته البرتقالية المخضبة التي أرسل منها طرفا إلى قفاه. الجميع يقبل عليه بعبارات: “.. الله يبارك.. أكيون.. مبروك..أسعدان نكو..” بوصفه والد العروسة مليكة.
ليلة “الدخلة”..
زف أهالي العروسة ابنتهم في ثوب أبيض، انسدل من أم رأسها إلى أخمص قدميها.. لم تكن تتبين خطواتها إلا بيد من البوزيدي خطيبها، وهي تمسك بذراعه في طريقه إلى منزل كان ينتظرهم هناك غير بعيد، يتقدمهم حشد من فتيات الدوار بشموع وقناديل يرددن أهازيج مصحوبة بزغاريد ذات إيقاعات حادة.
بغرفة ضيقة استقلت بسرير خشبي وموقد حطبي، دلفت مليكة وجعل البوزيدي يشلح عنها أرديتها ويدعوها إلى القعود على حافة السرير، بدت بوجه متورد، علت نظراتها مسحة من الخجل وهي مطرقة برأسها إلى الأرض، بادرها البوزيدي بنبرة الشجاع الأقرع: “.. كيف داز الحفل؟ (كيف مر الحفل )”.. لم تحرك ساكنا، كانت تكتفي بنظرات إلى الجدران حينا وإلى توقد المدفأة حينا آخر.. نهض واقفا أمامها وأعاد الكرة، حاول الاقتراب منها.. وضع يده في يدها فأحس ببرودتها.. حشد أغطية من حولها وأومأ لها بأن تستريح..
أطفأ القنديل وأخذ مضجعه لصيقا إلى جانبها، وهو لا يكاد يصدق مقدار البرودة التي يتحسسها من جسمها، كما لو كان يرقد إلى جانب قطعة من الثلج في برودتها وجمودها.. توقف محاولا هزها لسماع صوتها.. أو حركة تحين منها… تساءل بقلق شديد في جنح الظلام: “..أهي ميتة.. ؟!.. لا..لا.. نظراتها مازالت تطرف”..
عاد لإيقاد السراج.. ورمى بمزيد من الحطب إلى المدفأة.. دنا من رأسها يتحسس خديها فألفاها ساخنة.. فظن أنها راحت في نوم عميق.. تكوًّم داخل الفراش وجعل يكزها بركبته علها تستفيق.. أطفأ السراج فأخذته سنة من الكرى ما لبث أن استيقظ على وقع مواويل تغمر المكان وقد استحال الموقد إلى أنوار حمراء مشعة تتوسطها هالة لصورة مليكة في أثواب ناصعة البياض.. نهض مذعورا وأنفاسه تتلاحق ونظراته حائرة بين الفرار أو الاستسلام.. !!!فتح الباب فاستوقفه أهل العروسة باندهاش:
– “.. كيف.. ماذا جرى.. ؟!.. أين تريد الذهاب.. والعروسة.. ماذا..؟”.
– “.. هل سمعتم بشيء.. جرى داخل الغرفة؟”.
– ” لا لا..لا.. كان هناك سكون.. لم نسمع..”.
– أحدهم يقتحم الغرفة اعتقادا منه بمكروه حل بالعروسة، فخرج لتوه صارخا في وجه البوزيدي: “ماذا جرى لك..؟ وخطيبتك تدعوك.. إنها في انتظارك..”.
– البوزيدي مازال يمتلكه الرعب “.. هذا الزواج.. سأ…”.
ذاع الخبر بين أهالي القرية وقسمتهم التأويلات والتفسيرات بين من يعتبر العروسة مسكونة وبين من يرى العريس (متقف) طالته أيادي سحرة، فانتهت أخبارهم إلى فقيه اشتهر بين الدواوير بورعه وعلاجه لحالات كثيرة من المس وطرده الأرواح الشريرة، أمضى يوما بالكامل يتلو (العزائم) ويوقد البخور بمحضرهما لكن دون ما طائل، واعتقد أن الأمر لا يخلو من ضغط الأعصاب وهو ما يشل حيوية الشخص فيبدو بليدا وباردا، لكن الفقيه افتتن لأول وهلة ببهاء مليكة وأنوثتها الغضة فأسر ذلك في قرارة نفسه.
قائد المنطقة يدخل على الخط
دب الخلاف بين أهالي الخطيبين واشتد أكثر حينما علم عسو أن أهل دوار العريس البوزيدي أجمعوا أمرهم على فسخ الخطوبة، فعلم قائد المنطقة باحتداد الخلاف، وخشية أن يتطور إلى نزاع بين القبيلتين استدعى الطرفين البوزيدي ومليكة وقريبا واحدا لكل منهما إلى مكتبه كلا على انفراد..
بمجرد أن ولجت مليكة إلى مكتبه ألقى نظارته جانبا وجعل يتفرس بكثير من الفضول تقاسيم وجهها وقدها الفتان، فأمر بإحضار كوب ماء، أفرغه في جوفه وأعينه مازالت مسمرة على نظراتها المتوددة، سألها بصوت مبحوح:
– “.. اسميتك.. (اسم نام)؟.. “
– أجابته خجلاء: “.. مليكة..”
– “.. ماذا تشتغلين.. ماين تكاذ..”
في هذه الأثناء سيتلقى اتصالا هاتفيا بالحضور إلى مقر الولاية، جفف العرق الذي أخذ يتصبب على جبينه قبل أن يستدعي على عجل عسو والبوزيدي: “.. شوف آسي البوزيدي.. رد ليه نص اديال اصداق.. وبغيتكم اتصالحو قدامي.. سيري انتي معا باك.. حتى نعيط عليكم (استعد منه نصف الصداق.. وتصالحوا، اذهبوا حتى أرغب في حضوركم).
– عسو يحاول تقبيل يد القايد: “.. نعم آسعادة القايد.. أللي قلتيها.. هيا ليكاينا..”.
– البوزيدي يتنفس الصعداء، ويستشعر وكأن حملا ثقيلا تخلص منه.
مليكة بدار القايد
كان للقايد الفاطمي أطفال صغار من أم قضت نحبها بإيطاليا جراء جائحة كورونا، فلم يكن يرتاح للخادمات اللواتي جلبهن إلى منزله، وهكذا ظلت صورة مليكة لم تبرح ذاكرته حتى وهو منهمك في اجتماع أو متنقل بسيارة، فكان أن طلب حضور عسو ليفاتحه في شأن القبول بابنته معينة له على تولي شؤون أطفاله داخل منزله.
بعد مضي بضعة أشهر على إقامتها بدار القايد، لاحظ هذا الأخير بكثير من الغبطة والارتياح السعادة التي كانت تغمر أبناءه وهي تلاعبهم أو تذكرهم بدروسهم وحلول أوقات إطعامهم ونومهم ويقظتهم، فأحضر لها ملابس فاخرة وزينة مما كانت تتحلى به زوجته في المناسبات والحفلات الباذخة، لكنه وفي آن واحد رصد مواء قط يتردد في جنبات الحديقة كلما ادلهم الظلام وزحف الليل إلى هزيعه الأخير.. فيشتد صوته بالجهة الموالية لغرفة نوم القايد… ميو.. مـيو… ميو.. مـيو.. فاحتار في أمر هذا الصوت الذي لم يألف له من قبل نظيرا.
نصب كاميرات بمختلف الأرجاء، وجعل ينتظر كل صباح أن ترصد له صورا، لكن دون جدوى.. اعتاد على هذا الحال مرات تلو أخرى.. حتى إذا كان ذات ليلة همًّ بدخول غرفتها، فوجدها يقظة مستلقاة في سريرها بحمرة وردية علت وجنتيها، اقترب منها وحملها على أن تستحم وتتزين بأبهى الحلل التي اعتادت زوجته ارتداءها في مناسباتها الباذخة.
“إنها.. فعلا ملكة ومالكة القلوب”، أسرها في نفسه وهو يعاين خصلات من شعرها الذهبي الذي كان ينسدل على صدرها إلى خصرها… متأملا صدرها الناهد وتقاسيم أنوثتها الصارخة تجذبه وتسيل لعابه من وراء غلالة بنفسجية شفافة كان قد اقتناها بنفسه خصيصا لهذه الليلة، وخصلات من شعرها الذهبي كانت تنسدل على صدرها متموجة إلى خصرها، وما إن همَّ بافتراسها حتى تناهى إلى أسماعه دوي في الخارج، ارتجت له فرائصه…! خرج للتو ويده على زناد بندقية صيد… طاف حول المنزل فلم يعثر سوى على لعبة أطفال سقطت من جدار.. عاد إلى السرير وقد ألمت به قشعريرة من البرد القارس الذي كان يجثم على المنطقة، حاولت عبثا إذكاء نيران المدفأة، لكن لشدة غضبه من الطوارئ التي أفسدت عليه تذوق سعادته أسلم نفسه لسلطان النوم فعادت إلى غرفتها، ولم ينهض إلا في ساعة متأخرة، بعد أن لاحت أصوات زقزقة الطيور وتغاريد البلابل تملأ مسامعه.
أعدت له مائدة الإفطار بما لذ وطاب وتشتهيه نفسه ويستطيبه ذوقه، ثم انصرفت إلى شؤون الأطفال والمنزل، وعلى حين غرة ناداها “مليكة”، ولأول مرة تسمع اسمها يتردد بين تلك الجدران، فدلفت إليه وكان مازال في بيجامته (منامة) يفحص شريط الكاميرات، وفجأة ظهرت له صورة قط بلون مرقَّط، فجعل يكبرها حتى بدت واضحة بعينين خضراوين منمًّرتين وشوارب طويلة… أدار الصورة نحوها ساخطا ناقما: “.. هذا هو عدونا.. الذي يتحين رقادنا لينغص علينا سكينتنا وراحتنا… أنظري جيدا… أنظري.. ! يبدو أشبه بنمر يترصد فريسته إخ..إخ..إخ.. “، لكن مليكة وقفت مشدوهة وهي تعاين الصورة، ما لبثت ودون شعور منها أن لطمت وجهها تحت أعين القايد: “.. ليس غريبا عني “،
– القايد: “.. كيف.. هل هو.. قطكم الذي لم يصبر على ألم الفراق..؟ !.. ماذا ؟”.
– “… لا..لا.. سيدي.. سبق لي مرارا أن شاهدته”..
– القايد مستعجلا: “.. أين…. أين…. أين..؟ أسرعي.. أين شاهدته..؟”.
– “بعين هناك محاذية لطريق السيارات.. “
– “.. آه عرفت.. عرفتها.. لكن..”.
القايد باتجاه العين
استقل سيارته لاندروفر وحمل بندقيته، ثم توجه صحبة مليكة باتجاه العين، وهو كله تصميم وعزيمة على أن يضع حدا للزائر الليلي المشؤوم. كانت منبعا عذبا وسقاية ظليلة كثيرا ما يؤمها الرعاة للاستسقاء والاستظلال في أيام الصيف القائظة. ترجل القايد يريد تمشيط جوارها الذي كان عبارة عن دغل من الأشجار ملتفة الأغصان يخترق سكونها خرير مياهها وهي تفيض على ضفافها فتنساب عبر برك وسواقي رقراقة…
عاد إليها داخل السيارة وهي شبه واجمة لا تلوي على شيء، كانت نظراتها مركزة على ناحية بركن أعلى من العين…وفي لمح البصر وشوشت وأصبعها ممتدة:
– “.. أنظر.. أنظر. !.. ! !. إنه واقف.. هناك.. أتراه..؟”.
– “.. أجل.. أجل.. أراه جيدا هو بنفسه.. لكن لننتظر هل سيشرب أم لا؟”.
– ” لا..لا.. لا..لا يشرب.. ولكنه يربض قليلا ثم يختفي بين الأشجار.. احترس من أن يراك..”.
شحن بندقيته برصاص رشاش، وجعل من مقدمة سيارته متكئا لاختيار أنسب وضعيات التصويب والتسديد، انتظر قليلا قبل أن يجثم على قائمتيه الخلفيتين وفي لمح البصر أطلق عليه وابلا من الرصاص ليتلوه بطلقات جنونية أخرى وسط عواء أليم متوال جعلت تردده تلك الأصقاع لصوته وهو يتمزق ألما جراء الرصاص الذي اخترق كامل جسده، فجعله يتدحرج ويتدحرج على الحافة إلى أن سقط بمستنقع هناك جثة هامدة.. وعلى إثره صدرت من القايد قهقهات وقهقهات نصر أخذت ترددها أدغال الغابة. حط بندقيته وعاد يتأمل جثته الهامدة..
ثم عاد إليها داخل السيارة واحتضنها بحرارة وبنشوة كبيرة وهو يسر في أذنها:
– ” والآن.. آن الأوان لنجني ثمرة سعادتنا.. دون أن يعكر علينا أحد صفوها..آه.. أليس كذلك..؟ هيا إلى المنزل”.
قفل عائدا، لكنه خلال الطريق تفقد بندقيته ليتذكر نسيانها إزاء حافة العين فعاد أدراجه بسرعة.. لكن لم يلبث أن انعطفت به السيارة وفجأة وجد نفسه فاقد التحكم في مقودها.
يسدل الستار على
يسدل ستار القصة على رعاة وعابري سبيل يتناقلون قصة العين التي دعيت من قبل بعين قايدا مليكة،، ومع توالي السنون صارت لدى أهالي المنطقة تدعى اختصارا بـ”عين دَّامكَّا”.