حياة جبروني
من الطبيعي أن يكشف وباء كورونا بعد اجتياحه للكرة الأرضية بعض الجوانب الإنسانية المختلفة والمتخلفة متفشية بين صفوف بني البشر ويفضح المستور والمسكوت عنه، ويعري بعض الحقائق والممارسات الخفية الشديدة العدوى، والأكثر جبروت، بل الأقصى والأقسى من ذلك الكائن الخفي الذي لا يرى بالعين المجردة، ألا وهو وباء الجهل والفظاعة والسذاجة.
كنا نستبشر في ظل سلطة العدو المجهري الذي أجهز على حياتنا وقيد حرياتنا في حجر فرضه علينا منذ انتشاره واتساع رقعته، بريقا من الخير وفرصة لمراجعة وإعادة كل حساباتنا وأوراقنا وفرزها وتصحيحها بكل أمانة ومصداقية وموضوعية. نعم كنا نحتاج إلى هذه العزلة المفروضة لننفض الغبار عن أفكارنا الرجعية ومستوى وعينا ونغير من سلوكياتنا ما استطعنا إلى ذلك سبيلا. نعم استوعبنا الأزمة الصحية الحرجة وكلنا أمل أن تكون بداية مشجعة لمواجهة كل أشكال الرتابة والتفاهة و التبلد المترسخة فينا، وراهنا على صلاحنا وخلاصنا من ضآلة المعرفة وقتامة المشاعر بانتفاضة حقيقية ضد ذواتنا.
لكن وفي هذه اللحظة الراهنة، وما تقتضيه الظرفية القاسية في هذه الإقامة الجبرية من رجاحة العقل وعمق الإحساس، ظهرت تصرفات متعبة تنتصر للجمود والتأخر في أسوإ تجلياته، عجلت بإخفاق ذريع لأية محاولة تجويد أو تطوير للقاحات العقول، بعدما تعمق وتجذر التخلف واللاوعي في النفس البشرية وفاض حتى سال خارج مجراه. للأسف كل التوقعات والانتظارات والآمال التي كانت معلقة على هذا الفيروس الذي أرعب العالم وهز استقراره وأمنه، قادر أن يحدث ثورة كوبرنيكية تغير نفوسنا وعقولنا ونظرتنا للكون، أضحت مجرد أضغاث أحلام تبخرت في الهواء وانطفأت شعلة الأمل في العيش على قيد أصالة وطهارة وطراوة المشاعر والعلاقات الإنسانية. ولعل الفضيحة المدوية التي روعت مؤخرا ساكنة وجدة بطلتها شرذمة من الجنس اللطيف تفتق غباؤها بفكرة معتوهة متمثلة في قيامهن برحلة استحمام واستجمام في عز البلاء وعز الجائحة وفي حضرة كورونا الذي يشتد ويحتد ويتقوى وسط دفء بشري ناعم لينتشر بسرعة كالنار في الهشيم مخلفا عددا هائلا من المصابين والموتى والذين يدفنون على غير المألوف دون ترتيبات وشعائر العزاء، ناهيك عن الهلع والخوف والحزن الشديد الذي نعيشه ونعانيه يوميا. واقعة مداهمة حمام بحي اكدال بوجدة ومحاصرة 13 امرأة تستحم وتسخن عظامها وتدلك أطرافها غير آبهة بواقع مؤلم قيد حرياتنا وحبس أنفاسنا وأذاقنا مرارة العيش. صراحة إنه تصرف أحمق، لم تفكر الأنثى ولو في احتمال واحد في المائة ان هذه الخرجة مغامرة قد تعصف بحياتها وحياة عائلتها أو تشوش على سمعتها وسمعة أسرتها، وتجر عليها لعنة ومرارة قاسية.
هذا الاحتمال النسبي، كان كافيا للعدول عن فكرتها القذرة، التي برهنت عن بلاهتها وقصور تفكيرها. بل وعبرت بقوة عن نعاجتها وغبائها. فالغباء أكثر بكثير من الشر كما قال “أناتول فرانس”.
لقد تهاوت كل معاني الاحترام والكرامة والمكانة الرفيعة التي حظيت بها المرأة، المدرسة الأولى للتربية والتعليم والتثقيف، وهي تساق على مرأى الجميع إلى مخفر الشرطة في وضع أقل ما يقال عنه مخجل ومخز ومقزز، فقط لأنها “تشهات وجا فخاطرها تكسيلة فالحمام”، استجابة لرغبة جامحة موحشة أيقظت شيطان الجهل والجهلة فوقع المحظور وحلت الفضيحة واللعنة على ناقصات العقل وما سيتكبدنه من عار موثق عند رجال السلطة والشرطة والإعلام وشوهة وشبهة ومزايدات وقصص تروى وتحكى عبر الأجيال على شاكلة قصة “الي اختاشو ماتو” المصرية التي وقعت وسط الحمام وأبطالها كذلك مجموعة من السيدات. وبقية الحكاية فراسكم.
كل هذا يحدث في مجتمع ينادي بحرية المراة وضرورة المساواة بين الجنسين في نفس الفرص والحقوق والالتزامات في كافة مجالات الحياة المختلفة، هذا النوع من المرأة التي تنادي بالمساواة والعدالة الاجتماعية هزمتها شهوة سباحة داخل الحمام لتعيش لحظة سعادة وانتشاء وسط طقوس “التحمام”.
كما كشف هذا الوباء العالمي عن عورات بعض المحسوبين على بني البشر من جشع ولهفة ورغبة غريزية، إذ بمجرد سماعهم خبر ضرورة الالتزام بالإجراءات الضرورية لحمايتهم من المرض المتفشي والمتربص بنا، حتى هرعوا كأسراب الذئاب الضاريات، جروا جري الوحوش في هرولة مجنونة هستيرية مقتحمين المحلات التجارية واستولوا على كل محتوياتها و”نفضوها” من السلع، لم يسلم من لهطتهم ولهفتهم حتى مواد تعقيم وتنظيف وتشطيب المراحيض “حشاكم”.
تصرف كهذا متأصل في نفوس رخوة ضعيفة أفقدت الإنسان إنسانيته وضخمت أناه وحققت فكرة أن جوع العقول أخطر من جوع البطون. ومما زاد الوضع بلوة، عناد و”قسحية راس” البعض، أعلنوا عصيانهم وعدم امتثالهم لأوامر الدولة وللإجراءات الاحترازية الوقائية التي اتخذتها للحد من انتشار الفيروس. وجلهم من فئة الشباب الذين أبوا إلا أن يتجاوزوا القانون غير آبهين بخطورة الواقع الصحي الذي يهددهم واستمروا في المقامرة بحياتهم وحياة ذويهم بسبب رتابة وهشاشة أفكارهم.
هذا فقط غيض من فيض ما زخر به مجتمعنا من عيوب وأعطاب تحت وطأة هذا الفيروس الذي أبى إلا أن يشهرها و يظهرها للعيان، حتى ينكشف ما كان متخفيا ومتواريا عن الانظار، قبل أن يغادرنا. ليضعنا أمام حقائق مؤلمة ومواقف إنسانية مؤثرة وأسئلة ملحة تعصف بالأذهان، تعيدنا إلى إنسانيتنا وتمنحنا فرصة إعادة بناء الذات ومصالحتها ومراجعة العديد من المفاهيم والنظريات والسياسات المُكرّسة لمصلحة مجتمعنا ونقاء ضمائرنا ومواقفنا المبدئية.
كورونا، هل ستمنحنا القدرة على إعادة بناء الإنسان وتغيير عقلياته المغلفة بالانكماش والانغلاق؟؟.
hayat_journal@hotmail.fr
الأهم إيجاد لقاحات العقول ضد الجهل والتخلف أكثر من تطوير لقاحات ضد فيروس “كورونا”!؟
رابط مختصر