محمّد محمّد الخطّابي
البلطجة،أوالبلطجيّة،أوالبلطاجيّون.. والارهاب ،والترهيب، والاربهابيّون كلمات تعود للاستعمال والتداول فى مجتمعاتنا المعاصرة بين الفينة والأخرى ،وتظهر مع بزوغ فجر كلّ « ربيع» ..وهما كلمتان يعنيان القيام بأعمال الشّغب، وإستعمال القوّة والعنف، والهجوم الهمجيّ غير المبرّريْن من طرف أناسٍ يثيرون الفوضى، والشّغب، والتجنّي، والإعتداء بالضّرب ،والتنكيل، والتعذيب، والقتل، والتقتيل إن إقتضى الحال ذلك، وهذان المصطلحان أعيدا وكرّرا بإمعان على وجه الخصوص غداة ما أضحىَ يُنعتُ ب : «الرّبيع العربي» الذي سرعان ما أصبح فى عُرْف البعض، أو غدا ،أو كاد أن يغدو خريفاً شاحباً، حزيناً، كئيباً، رديئاً، مُدلهمّاً ،وفى بعض الأحيان مُخيّباً للآمال حيث أمسينا نرى ونسمع فيضاً هائلاً من التعاليق ، والمتابعات،والتساؤلات، والمداخلات التي تُنشر فى مختلف الصّحف والمجلاّت، أو على أمواج الإذاعات والتلفزيون، وعبر سائر الوسائل الإعلامية السّمعية والبصرية ، ووسائل التواصل الإجتماعي من فيسبوك ، وتويتر وما أشبه. هذان المصطلحان عادا للظهور بشكلٍ ملفتٍ للنظر بيننا، منذ أن إستُعملا بزخمٍ كبير فى مصرعلى إثر التحرّكات الجماهيرية ذات الطابع الإجتماعي، والسياسي ،والشعبي التي إنطلقت يوم 25 يناير2011 .
الجريمةالشنعاء
أمّا الجريمة الشنعاء الأخيرة المتمثّلة فى الحادث الدمويّ، والهمجيّ، والوحشيّ،والعدوانيّ، والظلامي المؤسف والمؤلم الذي حدث فى نيوزيلاندا بالإعتداء الظالم والآثم على مسلمين مسالمين عُزّل كانوا يقومون بأداء شعائرهم الدينية السمحاء فى بيتيْن من بيوت الله العديدة المنتشرة فى مناكب أرض الله الواسعة..هذا الحادث ليس «إرهاباً « فقط بل إنه فاقه، وتجاوزه، وتعدّاه إلى قمّة الحماقة، والبلاهة، والعنصرية، والشوفينية، والقهر، والتنكيل، والخَبل، والجنون،والخروج أو الإزورار عن الطريق السويّ القويم للبشر العقلاء أيّانَ وُجِدوا، ومن أيّ إثنيات كانوا ، هذا المارق المعتوه مرتكب هذه الجريمة الشنعاء لا يحقّ له أن يُسمّى بشراً ،كما لا يحقّ له أن ينتمي إلى جنسهم ، رحم الله الشهداء الأبرياء بواسع رحمته،وأمّا الجاني الظالم الآثم فلا ريبَ أن الله تعالى سيعجّل به، ولابدّ أن ينال قصاصه فى الدنيا قبل الآخرة .
البلطةوالبلطجة
ونعود إلى كلمة البلطجة التي عادت الى الظهور من جديد فى مناطق نائية، وفى أماكن أخرى غير بعيدة عنّا. إستُعمِلت عرَضاً – ويا للعُجْب – كذلك حتى فى الإنتخابات التشريعية التي جرت فى بعض البلدان العربية ضمن تعاليق بعض السّاسة، والسياسيين،ورجال السلطة، والحكّام والعسكريين،والمدنيين، والصحافييّن، والمُعلّقين، والمُتتبّعين الذين قاموا بتغطياتٍ متواترة للصّراعات ،والسّباقات، والمنافسات التي كانت محتدمة ،والمظاهرات التي كانت متأججة وحامية الوطيس بين مختلف الفئات السياسية،والنقابية وسواها من مرافق مكوّنات المجتمعات العربية المتعدّدة المشارب والمذاهب.
قبل ذلك تساءل البعضُ فى المغرب وفى باقي البلدان العربية والمغاربية التي لم يكن فيها إستعمال لهذه الكلمة بالذات فى كتاباتهم، أو أحاديثهم اليومية قبل أحداث مصر ، تساءل كثيرون عن معنى هذه الكلمة بالذات،وعن مغزاها ومدلولها الحقيقييْن، كما تساءلوا بالمناسبة عن بعض الكلمات الدخيلة الأخرى المُستعملة في العاميّة المصرية بشكلٍ خاص التي ردّدتها، وإستعملتها، وتداولتها، وكرّرتها الجموعُ الغفيرة الحاشدة خلال ريّاح التغييرات التي هبّت على بعض البلدان العربية وفى طليعتها مصر،إذ إنه من المعروف، ومن نافلة القول أنّ هناك بالفعل العديد من الكلمات فى العامّية المصريّة التي ترجع في أثلها إلى أصول غير عربية وفى مقدّمتها كلمات تركية واردة، ووافدة،ودخيلة إستقرّت فى اللسان المصري الدارج، منذ الوجود العثماني فى أرض الكنانة، ومن الكلمات التي أصبحت أكثر شهرةً، وحضوراً،وإنتشاراً، وتكراراً منذ ذلك الحراك الشعبي التاريخي هي كلمة البلطجة، أو البلطاجي، أو البلطجية على وجه الخصوص، وتساءل البعض عن الدّواء الناجع لهذه الظاهرة الغريبة للقضاء على شأفة هذه الآفة المخيفة التي إستشرت فى مجتمعاتنا، وإنتشرت بيننا إنتشار النار فى الهشيم.!
كلمة «بلطاجي» ( التي كانت موضوع التساؤل أو الإستفسار ) معناها فى الأصل هو (حامل البلطة)،والبلطة باللغة التركية تعني أداة حادّة للقطع، والبّتر ،والضّرب كان يستعملها في الأصل الحرّاس أو مَنْ يُطلق عليهم في مصر «الشاويش» وهي كلمة تركية الأصل كذلك، ومعناها الحارس الذي عادة ما يكون في خدمة « العُمدة» أو المأمور أو الحكمدار، والذي عادة ما يَحمل على كتفه بندقية كبيرة، ويرتدي معطفاً كبيراً سميكاً،وطربوشاً مميّزاً يقيانه لفحة البرد القارص في الليالي الحالكات يُسمّي عندهم «بالبالطو» وكلمة المانطو (الفرنسية)أو البالطو كما ترى قريبة جدّا من كلمة « البلط» و من»البلطاجي» كذلك . و(البلطجية) عادة ما يكونون مأجورين للقيام بمثل هذه الأعمال الشّنيعة من إعتداءات، وتجاوزات، أيّ مرتزقة بمعنى أدقّ. ويقال إنّ النظام المصري إستعملهم خلال الإنتفاضات التي عرفتها مصر لفضّ المظاهرات المتكرّرة، والإحتجاجات الغاضبة التي جرت خلال ربيع «الثورة» (!) و أثناء خريفها كذلك..!.. وقد أصبحت هذه الكلمة اليوم – كما أشرنا من قبل- تعني الشّخص الذي يقوم بأعمال الشّغب، وإستعمال القوّة المفرطة، والعنف الشديد ، والهجوم الهمجيّ غير المبرّريْن ،ومن ثمّ فهو مثير للفوضى،والشغب،والتجنّي، والإعتداء بالضّرب ،والتنكيل، والتعذيب، والقتل إن إقتضى الحال ذلك، وهكذا .
كلماتأخرىدخيلة
بالإضافة إلى كلمة «البلطاجي» التركية الأصل التي طفت على سطح الألسن،وثبج الأحداث بإمعان فى السنوات الاخيرة، هناك كلمات أخرى من هذا القبيل يتمّ إستعمالها،ولَوْكُها، وتكرارها يومياً فى مصر وخارجها مثل الباشا، التي تُستعمل فى معني التوقير والتفخيم، وأصل هذه الكلمة هو «باش» أي الرأس ، وهو لفظ تركي شاع إستعماله كلقب يُمنح لكبار الضبّاط، والقادة وعليّة الأقوام، كما قيل إنّ هذه الكلمة قد تكون تنحدرمن أصل فارسي، وهي مأخوذة من كلمة»باديشاه» وتعني العامل بأمر السّلطان وإلتزامه الطاعة الكاملة والولاء له، كما يُقال إنّها مكوّنة من شقّين إثنين وهي « بادي» التي تعني السّيد و» شاه « التي تعني الحاكم، أو الملك، أو السّلطان، وهناك كلمة الأسطى أو الأسطه ويقال إنّها تحريف ل : (أستا) وهي فارسية دخلت اللغة التركيّة والعربيّة، وتعني الأستاذ، كما قيل إنّها تعني في أصلها الصانع الحِرَفيّ الماهر، وقيل عن أفندي إنها كلمة تركيّة من أصل يوناني إستخدمها الأتراك منذ القرن الثالث عشر الميلادي، وكانت لقباً لرئيس الكتّاب ولقاضي إسطانبول ، وكلمة البازار مُستعملة فى المغرب، وفى البلدان العربية بشكل واسع، بل إنها إستقرّت،وإنتشرت فى بعض اللغات الأوربيّة كالإسبانية،والفرنسية وسواهما،وقيل إنّها كلمة فارسية الأصل، دخلت اللغة التركيّة وتعني السّوق، أوالدكّان الذي تُباع فيه المنتوجات والمصنوعات التقليدية ،وكلمة أُودَة أو أُوضَه بالضاد، هي مُصطلح ينحدر من اللغة التركيّة كذلك يعني الغرفة، وكانت كلمة أفندي لقباً للأمراء أنجال السلاطين، كما كانت كذلك لقباً لرؤساء الطوائف الدينيّة، والضباط، والموظفين،وهناك كلمات أخرى معروفة ومنتشرة فى العامية المصرية منها أفندم، وأجزخانة (التي تعني الصيدلية).وكلمة الهانم أو « الخانُم» التي تعني المرأة المحترمة .وكلمة «أبلة» التي تعني الأخت الكبرى في البيت، و» البشباشي» وهي رتبة في الجيش المصري والتي كان يلقّب بها الزّعيم جمال عبد الناصر رحمه الله.وكلمة «السّمكري» وهو الشّخص الذي يصلح أنابيب، ومواسير،وقنوات، وميازيب المياه .وكلمة «جام « التي تعني الكأس أو الكُوب ومن ثمّ يأتي المعنى المُستعمَل والمُتداوَل الذي إستقرّ في اللغة العربية عندما يُقال :»صَبَّ عليه جَامَ غضبه» أيّ دلق عليه كأسَ غضبه . وكلمة «السّفرة» (بضمّ السّين) التي تعني مائدة التي يؤكل عليها وهي فى الأصل طعام يُتّخذ للمسافر.وكلمة الحنطور التي تعني العربة التي يجرها حصان أو حصانان. وكلمة «المِكوَجي» وهو الشّخص الذي «يكوي» الثوب أو النسيج، أو الأقمشة، أوالألبسة على إختلافها ويُصلحها (ومن ثمّ كلمة «المصلوح» المُستعملة فى العاميّة المغربية) ويجعلها خالية من الانكماشات . وكلمة «القهوجي» المستعملة كذلك في الدارجة المغربية وفى عاميّات عربيّة أخرى، وهي كلمة مركبة من «قهوة» العربية و»جي» التركية العثمانية،وعلى شاكلتها (بوسطجي،وقومسيونجي، وقانونجي، وسفرجي..وسواها) وكلمة «كباب» وهو اللحم المشوي .و»الطاولة «وهي لعبة نرد المعروفة في تركيا ومصر والعالم أجمع اليوم .وكلمة «الحلّة» التي تعني « الطنجرة» فى المغرب وفى بعض البلدان العربية الأخرى،إذ حسب تفسيرهم، وتبريرهم سُمّيت كذلك لأنّ الطعامَ يحلّ فيها، وكلمة «عشماوي» التي تعني من يقوم بتنفيذ حكم الإعدام ،وكلمة «حكمدار» وتعني حاكم الجهة أو المنطقة أو الناحية،ناهيك عن العديد من الكلمات الوفيرة الأخرى التي لاحصر ولا حدّ لها
. أحداثلعبةكرةالقدم!
الصّورة الحزينة ،والمُؤلمة، والمُؤسفة، والرّدئية، والكئيبة،والمقيتة لمعاني هذا المُصطلح اللّعين، عكستها تصرّفات ، ومشاكسات، ومناوشات، ومشاغبات، ومناغصات، ومواجهات، وأعمال البلطلجة، والبلاطجة، والبلطاجيين رأيناها بعد مسرح السياسة فى عالم الرياضة كذلك بين فرق أجنبية فى مختلف البلدان الأوربية، وأصبحنا نراها اليوم فى بلداننا،ولقد عشناها بالفعل على مرارة ومضض مؤخراً فى المغرب فى مباراة لكرة القدم جرت مؤخراً بين فريقيْ الجيش الملكي والرجاء البيضاوي أو ما يُطلق عليه ب «، مباراة الكلاسيكو» المغربية، لحساب الجولة 19 من الدوري الاحترافي ، أحداث الشغب وصلت إلى المحاكم التي كانت قد متّعت بالسّراح المؤقت جميع معتقلي جماهير مشجّعي الرجاء القاصرين، بينما تمتّ محاكمة العديد من المشجّعين الراشدين. جدير بالذكر أن مقابلة «كلاسيكو المغرب» بين فريقي الجيش الملكي والرجاء البيضاوي، اختتمت على وقع «شغب» و» بلطجة» ترتب عنه اعتقال العشرات من جماهير الفريق الزائر، وإصابات في صفوف عناصر رجال الأمن بعد أعمال الشغب والبلطجة التي عرفتها هذه المباراة .
هذه الصورة المؤلمة شاهدناها كذلك منذ مدّة فى مدينة الحسيمة (شمالي المغرب) بعد مباراة جرت بين فريقيْ «الوداد البيضاوي»، و»شباب الرّيف» فى كرة القدم كذلك، هذه اللعبة التي قد تصبح أو كادت أن تُصبح (لعبة كرة العدَم، أولعبة كرة الندَم، أو لعبة كرة الألَم،أو لعبة دهس البدَن ! ) نظراً لِمَا أصبح ينتج عنها، وخلالها، أو قبلها، أو بعدها من حماقات هوليغانيّة، همجيّة ،سوقيّة ،فوضويّة، طائشة ،ساقطة، مُسفّة، هابطة لا تُحمد عقباها بعيدة كلّ البُعد عن الرّوح الرياضية السّمحاء التي تُضرب بها ولها الأمثال، ما حدث فى المقابلتبْن السّالفتين وسواهما من المقابلات يطرح تساؤلات ضخمة،وإسستفسارات ملحّة لابدّ أن نبحث عن إجابات شافية، ضافية، وعلاجات عاجلة حاسمة وناجعة لها،لأنها شكّلت بغير قليل من الخَجَل أمراً يُندىَ له الجبين حقّاً على مرأى ومسمع من الناس، والملأ، والمواطنين، والوافدين، والزّائرين، والسيّاح الأجانب، وأمام أنظار رجال حفظ الأمن ، هذه الأحداث المؤسفة وضعت أمام أنظارنا مرّةً أخرى من جديد مصطلح البلطة، والبلطجة ، والبلطاجييّن على المحكّ..
كاتب وباحث من المغرب ، عضو الأكاديمية الإسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوطا- كولومبيا