بطريقة أو أخرى سوف تجد الجزائر سبيلا للتراجع عن قرارها بقطع كل الروابط التجارية مع إسبانيا. ولكنها لن تتعلم الدرس. ليس الآن على الأقل.
والدرس هو أن الجزائر يجب ألا تضحي بمصالحها وعلاقاتها بسبب قضية ثانوية مثل قضية الصحراء المغربية، وأنه من الأولى بهذه القضية أن يتم حلها، وأن الجزائر ليست في النهاية سوى “طرف ثالث”، وهي ليست، بالنسبة إلى قضايا التحرر، مركز الأممية الخامسة الدولي، ولا هي عاصمة التحرر الوطني في العالم، وأن لديها مشكلاتها الخاصة التي يحسن أن تلتفت إليها. وإن أزمة بقيت معلقة لخمسين عاما، يمكن أن تبقى معلقة خمسين عاما أخرى، ولن تجني منها الجزائر إلا الضرر. وإن الوقت قد حان لطي الصفحة، ولو فقط من أجل أن يبدأ الجزائريون من صفحة جديدة لا شيء فيها يُورث الإحباط مسبقا، أو يعلق مصائرهم بمصائر شعب آخر، على قضية أخرى، ليس لهم فيها ناقة ولا جمل.
هذا الدرس يتطلب جيلا آخر من السياسيين لكي يمكن استيعابه واستيعاب متطلباته الجسام. إنه يتطلب جيلا شابا، وليس أي أحد من الذين تجاوزت أعمارهم القدرة على تبني رؤى استراتيجية جديدة. وشاخت عضلاتهم على شق طرق جديدة في الحياة، وتهالكت دوافعهم على التجديد، وبالكاد باتوا ينتظرون عد أيامهم الأخيرة.
جيل الرئيس عبدالمجيد تبون وسعيد شنقريحة وأسلافهما المباشرين، بالكاد يعرف كيف يرتكب الأخطاء، لأنه يتخذ قراراته بدوافع الغريزة لا العقل؛ بدوافع الغضب لا التفكير. إذ ما من قرار يُحسب له حساب عواقب. يرتفع الأدرينالين، فيصدر القرار ساحقا وماحقا، وهات من يقدر على لملمة ما يتهشم من قوارير العلاقات مع الآخرين.
كان من أبسط المتطلبات أن يُقال لصاحب القرار إن علاقاتنا مع إسبانيا لا تتوقف على بيع الغاز. هناك شركات أوروبية ودولية ترتبط بإسبانيا وتشارك في مشاريع في الجزائر، وليس من المنطقي إصدار أوامر للمصرف المركزي بوقف التعاملات معها أو منع حساباتها بجرة قلم. ستكون كارثة في العلاقات مع الاتحاد الأوروبي. وهو ما حصل على أي حال. وهو ما صار يتطلب إعادة مراجعة. وبالنظر إلى أن الأوروبيين يعرفون سلفا، أن هرمونات الغرائز الانفعالية، تهبط وتصعد من دون ضوابط، ومن تلقاء نفسها، فقد آثروا أن يخفضوا الصوت وأن يجنحوا إلى أن يمنحوا الجزائر الفرصة لكي تستدرك بما يحفظ ماء الوجه.
لقد كان ذلك، من كرم الخلق ربما، ولكنه كان من دوافع السعي لرعاية المصلحة بالدرجة الأولى.
ولكن ماذا كان يتعين على الانفعالية أن تدركه بعد أن تهدأ؟
سؤالٌ، كان يفترض أن يلقى جوابا منذ عدة عقود خلت وليس الآن. ولكنه ظل معلقا في الفراغ، لأن جيل اللاكفاية الاستراتيجية لم يعد بوسعه أن يشق طرقا جديدة للحلول. وبقي مكتفيا بإدارة الأزمة لأنه لا يملك سبيلا للخروج من الصندوق المغلق الذي وضع نفسه فيه.
الجانب الأول، يتعلق بجملة من الأسئلة. هل تستطيع بوليساريو شن حرب من أجل “تحرير” الأراضي الصحراوية؟ هل ترغب الجزائر بأن تشن حربا على المغرب لتحقيق هذا الهدف؟
إذا كان الجواب هو لا. فماذا يعني ذلك، غير السعي لتحقيق تسوية سياسية؟ وإذا كان المغرب يسيطر على 90 في المئة من صحرائه، فهل من المنطق أن تملي منظمة محدودة القدرات بدايةً تبدأ من المطالب القصوى؟ وكم هي الصلة الحقيقية بين مجتمع تندوف ومجتمع الصحراء تحت السيادة المغربية؟ وهل يملك خطاب بوليساريو السياسي أي وزن فعلي غير الذي تغذيه الجزائر بالانفعالات الزائدة؟
الجانب الثاني، هو الذي يتعلق بمصالح الجزائر نفسها، ليس في العلاقات الدولية التي يفترض ألا تكون رهينة لأزمة ثانوية، ولكن في العلاقة مع المغرب بالدرجة الأهم.
فرص الشراكة الاقتصادية والاستثمارات المتبادلة والتعاون التجاري تفوق بعشرات المرات أي علاقات للجزائر مع أي دولة أخرى في العالم. والنفط والغاز اللذان يباعان كسلعة للإنفاق النقدي، يمكنهما أن يُرسيا قاعدة للتطوير في مجالات شتى، من الزراعة إلى مصانع المعدات الثقيلة، التي كانت ذات يوم حلما من أحلام الجزائر.
خبراء البلدين يعرفون جيدا أن إمكانيات التكامل بين المغرب والجزائر بوسعها أن توفر مرتكزا لقوة اقتصادية قادرة على اجتراح المعجزات في أفريقيا وليس في ما بين البلدين نفسيهما فقط.
حتى الاستثمار في تنمية الصحراء المغربية يمكن أن يكون مشتركا، بما في ذلك الفوز بممر إلى الأطلسي لنقل النفط والغاز الجزائريين عبر الأراضي المغربية. لا شيء مستحيل. حتى الأحلام لا تتسع لما يمكن للبلدين أن ينهضا به معا لصالحهما المشترك. وهما بلدان، من فائق الأخوة، بحيث أنهما تشاركا في معركة الاستقلال، وليس لأحد منهما أن يهدد أمن الآخر، ولا استقرار نظامه السياسي، إلا في بعض الأوهام المريضة. حتى هامش الـ10 في المئة الذي تركه المغرب من الصحراء، كانت غايته الامتناع عن الاحتكاك المباشر بالجزائر. فقط لترى الحصافة كيف تعمل.
ولكن الجزائر تبدو كمن اختار أن يضع مسمارا في نعاله لكي يعوق قدرته على الحركة، في اتجاهٍ ما يزال بوسعه أن يعيد بناء شمال أفريقيا كله.
وبدلا من إعداد قراءة متعقلة للأزمة، فإنها اختارت الدوران في حلقة مفرغة. لا بوليساريو امتلكت القدرة على استدراك الممكن لأجل الانخراط بحل الحكم الذاتي، ولا الجزائر امتلكت الشجاعة لكي تخدم مصالحها الخاصة، ولا هي تجرأت على النظر في حل مشكلاتها التنموية حتى صارت الاحتجاجات والتظاهرات التي تطالب بالتغيير تهديدا مباشرا لمؤسسة سياسية – عسكرية لم يثبت شيئا أكثر من أنها مترهلة وفاشلة.
الجزائريون ليسوا شعبا تنقصه الخبرات أو المواهب. ولا هم معجبون بالبطالة والكسل الذي تفرضه عليهم دولة الريع النفطي. فإذا رأيت شبابهم يجنحون إلى الهرب من بلادهم، فلأن نظامهم السياسي الكهل أغلق على نفسه وعليهم الباب. لا هو قادر على التغيير، ولا يسمح لأحد أن يقوم به.
وبينما توفر الصحراء المغربية ذريعة للمشاغل الأمنية المفتعلة، كما توفر أعداء وهميين للتحفز ضدهم، فإن الركود السياسي ظل يتفاقم حتى أصبح هو العدو الذي يدفع بفشله إلى ارتكاب الأخطاء تلو الأخرى.
ولولا كرم خلق الآخرين الذين لا يريدون للانفعالات أن تزداد فتلتهب، فقد كان بوسع طغمة الكهولة أن تسلك كل الطرق الخطأ من دون أن تدرك العواقب، لأنها بالأساس، لم تحسب حسابها أبدا.
الجزائر تستحق أفضل من ذلك. ويمكنها أن تحقق الأفضل. وطال الوقت أم قصر، فإنها ستفعل، لأنه لا يوجد أمامها إلا التجديد. هذا هو الطريق الوحيد.
علي الصراف
كاتب عراقي