د. جمال المحافظ
لم تنفصل الطبقة السياسية في المغرب بصورة نهائية عن الماضي، وانعكس ذلك في مواصلة المحافظة على نفس أسلوب الحياة والسياسية، فجوّ الصراع والعداوة المبالغ فيها بين جماعات النخبة، يؤديان منذ عقود إلى تماسك عناصرها وليس إلى تفتيتها. ويتوازن انقسام النخبة بفضل الدفاع عن المصالح المشتركة، وتوحد العلاقات الاقتصادية ما تفرقه الاختلافات السياسية الآنية، مما يجعل سلوك النخبة، يعكس سلوك مجموع المجتمع المغربي، كما جاء في كتاب « أمير المؤمنين ـ الملكية النخبة السياسية» لجون واتربوري (الصفحة 226) وهو في الأصل أطروحة دكتوراه سنة 1968.
فعلى الرغم من اختلاف السياقات التي أطّرت كتاب واتربوري والتحولات التي عرفتها البلاد، فإن عددا من الأسئلة تظل مشروعة، وفي مقدمتها: هل تغير الوضع منذ بداية الاستقلال، بتغير الفاعلين ونمط الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية وهو التغير الذي تعزز بعوامل خارجية وخصوصا بما فرضته العولمة ومعها الثورة الرقمية من تحديات كبرى؟
في غياب دراسة علمية متعددة الاختصاصات والأبعاد، يبدو أن أي جواب سيكون مجانبا للصواب وللحقائق، وذلك باعتبار أن الممارسة التحقيبية التاريخية تتطور وتتحول، بموازاة تطور الفكر التاريخي وتحوله، مرورا برصد التحول وإيقاعاته ومدده، وتحديد المنعطفات وتتبع الاستمرارية والانقطاع، أو الاتصال والانفصال، ورصد النمو، لكن عند التدقيق يتضح أن ما يتغير هو مفهوم الوحدة الزمانية أي الحقبة التاريخية، يعنى كل تجديد عند النهاية، إعادة النظر في تحقيب التاريخ، كما سجل المفكر عبد الله العروي في مؤلفه «مفهوم التاريخ»
وإذا كان التاريخ لا يسرد إلا ما تبقى من الماضي محفوظا في الذاكرة، لكون التاريخ في أساسه استحضار لهذا التاريخ كما نقرأه، باعتباره رواية عن أحداث ماضية، لكن عندما نكتبه ونتأمله، يتحول الى دراسة رموز، قائمة حاليا، ودالة عن تلك الأحداث، في حين تهتم منهجية التاريخ بمسائل مثل: ما هو دور الماضي في فهم الحاضر؟ ودور الحاضر في فهم الماضي؟ إذن فالتاريخ ماض ـ حاضر، كما جاء في مؤلف «مجمل تاريخ المغرب» (عبد الله العروي).
وخارج أي جدال تاريخي تظل جميع الأبواب – على المستوى السياسي – مفتوحة لأي تحالف جديد تبرره الظروف أو المصالح أكثر مما تمليه الاختيارات الإيديولوجية، وهو ما يجعل التحالفات غير مستقرة، وبالتالي يستطيع الأفراد أن يتنقلوا من جماعة إلى أخرى، وبين انتماءات متعددة، حسب محللين.
تطور نحو التعددية وصراع بين الفاعلين السياسيين:
ويجد هذا الأمر تبريره من خلال المسار السياسي للمغرب منذ بداية الاستقلال سنة 1956، حيث إنه إذا كان من الإيجابي أن مرحلة النضال من أجل الاستقلال لم تؤد إلى إقامة نظام الحزب الوحيد على خلاف العديد من البلدان العربية والافريقية، بل عرف المشهد السياسي تطورا نحو التعددية الحزبية، إلا أنه بالمقابل كان المغرب من بين دول العالم الثالث القليلة التي لم تتول فيها مكونات الحركة الوطنية قيادة تدبير الشأن الحكومي بعد نيل الاستقلال.
وكانت الفترة ما بين 1955 و1965، كافية لحدوث انقسام وصراع بين الفاعلين الأساسيين على الساحة السياسية، في الوقت الذي وحدتهم مرحلة الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي، لأن الأولوية كانت للنضال ضد هذا الاستعمار. غير أنه سرعان ما طفت التناقضات على السطح مباشرة بعد الحصول على الاستقلال، وحاول كل طرف التموقع في المشهد السياسي. وفي ضوء ذلك ظهرت الحركة الوطنية «حبلى بعوامل التفكك».
وهكذا اعتبرت السنوات الأولى للاستقلال مرحلة حاسمة في تشكل المشهد السياسي الذي سيستمر في التبلور على مدى عقود من الزمن، بغض النظر عن التحولات وطنيا ودوليا وظهور أجيال من القيادات الجديدة لم تعش تناقضات هذه المرحلة، لكن آثارها ظلت مهيمنة وتؤثر على النسق السياسي بمختلف تجلياته.
وفي هذا المجال ينفرد التاريخ السياسي المغربي عنه في بقية البلدان المغاربية والعربية، ليس فقط في أن قيادات الحركة الوطنية لم تتول مهام تدبير الشأن العام بعد الاستقلال، ولكن كذلك في محافظة الجالية الأوروبية، وخاصة الفرنسية، على عدد من الامتيازات الاقتصادية والمالية والتجارية والثقافية والإعلامية التي حصلت عليها إبان الحماية، مع مواصلة العمل بعدد من تشريعات المرحلة الاستعمارية خاصة المتعلقة بحرية التعبير والتنظيم.
هل تغير الوضع منذ بداية الاستقلال، بتغير الفاعلين ونمط الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية وهو التغير الذي تعزز بعوامل خارجية وخصوصا بما فرضته العولمة ومعها الثورة الرقمية من تحديات كبرى؟
وبهذا «تتميز التجربة المغربية بكونها الوحيدة في العالم الثالث التي لم تتحمل فيها قوات التحرر الوطني مسؤولية الحكم بعد انتصارها في انتزاع الاستقلال» كما قال رئيس الحكومة السابق الاشتراكي عبد الرحمن اليوسفي في محاضرة ألقاها في بروكسيل 2003، اعتبرت تقييما لمرحلة قيادته لـ«حكومة التناوب التوافقي» ما بين 1998 و2002.
بيد أن ظروف بداية الاستقلال فرضت «التعايش» بين الفرقاء السياسيين، وتكونت في الفترة الواقعة بين الحصول على الاستقلال ورحيل الملك الراحل محمد الخامس في 1961، «أسس المغرب المعاصر» حسب ما كتبه الفرنسي أستاذ التاريخ المعاصر بيير فيرموريين في مؤلفه بعنوان « تاريخ المغرب منذ الاستقلال «. وتعتبر إقالة حكومة عبد الله ابراهيم وتشكيل «حكومة ملكية» في 27 أيار/ مايو 1960 برئاسة محمد الخامس مع تفويض السلطات التنظيمية لنائب رئيس المجلس الحكومي، ولي العهد، «نهاية مرحلة وبداية أخرى» في المسار السياسي الوطني.
فمباشرة بعد تشكيل هذه الحكومة في 1961 من النخبة السياسية، باستثناء الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، جرى إقرار نص «القانون الأساسي» للمملكة مؤقتا إلى غاية المصادقة على دستور سنة 1962. وفي 17 نيسان/ أبريل 1963 أعلن الراحل الحسن الثاني عن تنظيم انتخابات برلمانية وجماعية وجهوية، وهي الاستحقاقات التي وصفتها جريدة «العلم» لسان حال حزب الاستقلال في عددها الصادر في 19 نيسان/ أبريل 1961 بـ«الانتخابات المزيفة» فيما اعتبرتها جريدة «التحرير» الناطقة باسم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، بأنها «مؤامرة خطيرة تهدد مستقبل البلاد».
وعلى عكس ما ذهبت اليه «العلم» و«التحرير» قالت جريدة « ليفار» الصادرة باللغة الفرنسية والتي كانت تحت إشراف رضا اكديرة، إن هذه الاستحقاقات» تشكل لبنة أولى في الصرح الديمقراطي، ومحطة مضيئة نادرة في مسيرة البلاد، ومن شأنها أن تحول المغرب إلى ديمقراطية حقيقية». وعرفت المرحلة الممتدة ما بين أواسط الستينيات وأواخر الثمانينيات من القرن الماضي تحولات كبرى، وسيتميز مطلع التسعينيات بالخصوص بمتغيرات سياسية واجتماعية وإعلامية.
وعرفت هذه المرحلة نزوعا ملحوظا نحو استقلالية العمل المدني وارتفاع منسوب الطلب الحقوقي والصحافي، توج بإجراء تعديل دستوري، نص في تصديره على سمو حقوق الإنسان، كما هي متعارف عليها عالميا، حيث رافقت كل ذلك ظرفية سياسية نشطة، دشنت بملتمس الرقابة تقدمت به المعارضة بالبرلمان سنة 1990، واقتراح «الكتلة الوطنية « سنة 1992 في مذكرة إلى القصر، إجراء إصلاحات سياسية ودستورية. وتلا هذه الدينامية تنظيم انتخابات تشريعية سنة 1993، دشنت لمحاولة قيام تناوب توافقي أول باءت بالفشل، لكن سيتم في سنة 1996 تعديل الدستور، بتزامن مع المذكرة الثانية التي رفعتها «الكتلة الديمقراطية « وطالبت فيها بالخصوص «فتح ملف الإصلاح الشامل».
وشكل توقيع بروتوكول فاتح آب/ أغسطس 1996 بين الحكومة والمركزيات النقابية وأرباب العمل مدخلا لانطلاق سلسلة من الإصلاحات توجت بانتخابات 1997 التي تمخضت عن تشكيل حكومة «التناوب التوافقي» الذي لم تفرزه صناديق الاقتراع بقدر ما أفرزته الرغبة الملحة في «تغيير وإصلاح المسار الديمقراطي».
وكانت قضية الصحراء فرصة لتسريع المسلسل الديمقراطي الذي انطلق بتنظيم انتخابات محلية سنة 1976، وتشريعية سنة 1977 على الرغم من «تزوير الانتخابات والرقابة المفروضة على الصحافة» كما سجل محمد اليازغي في كتابه تحت عنوان «سيرة وطن ومسار حزب». بيد أن انطلاق هذا المسلسل شكل «علامة على أن الديمقراطية، يمكن أن تبلور الالتحام الوطني حول الاختيارات الكبرى، وأن تصبح أيضا أداة تعبئة عامة» وفق ما دونه محمد العربي المساري في كتاب «صباح الخير للديمقراطية.. للغد».
غير أن الحركات الاحتجاجية الكبرى، خاصة في 20 حزيران/ يونيو 1981 وفي 14 كانون الأول/ ديسمبر 1990، ساهمت بدورها في بلورة قناعة، على ما يبدو، لدى السلطات منذ مطلع التسعينيات بالتمهيد لاعتماد ونهج أسلوب التكيف والحوار، بدل أسلوب المواجهة والصراع الذي ظل مهيمنا، طيلة عقود مع البحث عن مقاربات جديدة في عمليات الحوار مع الفاعلين السياسيين والاجتماعيين.
وعلى الرغم من هذه التحولات، يصعب القول إنها أدت إلى إعادة النظر بشكل جذري في علاقة الدولة بالمجتمع، اعتبارا لأن مؤشرات عقد التسعينيات، لم ترق إلى مستوى تغيير البنيات الاجتماعية التقليدية التي ظلت تتحكم فيها سلوكيات وتوازنات الفاعلين. وظلّ تحقيق ذلك رهينا بمدى قدرة الفاعلين على مأسسة الحوار الاجتماعي والسياسي مع تقديم تنازلات متبادلة وتوافق حول القضايا العالقة، كما سجلت هيئة الانصاف والمصالحة في تقريرها الختامي.
باحث واكاديمي مغربي