Notice: Undefined index: HTTP_ACCEPT in /home1/respress/public_html/wp-content/plugins/any-mobile-theme-switcher/any-mobile-theme-switcher.php on line 117
الشعر البدوي بشمال إفريقيا .. مقاربة تاريخية (جزء2) - رسبريس - Respress

الشعر البدوي بشمال إفريقيا .. مقاربة تاريخية (جزء2)

admin
2024-04-09T18:34:43+02:00
ثقافة وفن
admin9 أبريل 2024آخر تحديث : منذ 3 أسابيع
الشعر البدوي بشمال إفريقيا .. مقاربة تاريخية (جزء2)

 د. محمد حماس

لا شك أن الشعر الشعبي المغربي له مكانته وقيمته في المضمار الإبداعي المغربي عامة، والأدبي خاصة، حيث تزخر البيبليوغرافيا الأدبية المغربية بكم هائل من الدواوين الشعيرة الشعبية، في الزجل، والملحون، والحساني، وكذلك اللون البدوي الذي تزخر به منطقة شرق المغرب، إذ يمكن تعداد كم من الشعراء الذين لهم حضور قوي في هذا اللون الشعري، الموسوم بالبدوي، نسبة للبادية، لأنه يمتح من طبيعتها، وثقافتها، وطباع أهلها. فتتردد الصور الشعرية لتنقل مشاهد البادية، تنقل الصور الجميلة لطبيعتها. كما يتسم اللون الشعري البدوي بعمق المعاني ومعجمه الخاص، إذ يصعب تعاطيه أو فهمه من قبل غير المنتمين للمكان الذي ينتمي له هذا الشعر.

الشعر الشعبي والشعر البدوي

الشعر الشعبي، جزء من الأدب الشعبي الذي هو ركن من التراث الشعبي، باعتباره مكونا من مكونات المعرفة الإنسانية، وبالتالي يمكن أن نضع الشعر الشعبي ضمن المنتوج الثقافي الجماعي، وإن جاء على لسان شعراء معروفين، باعتباره ملازما للذاكرة الجماعية، وللتواتر الشفهي. إذ جل الأشعار يتم نظمها شفوية فيتداولها الناس، لتبقى محفوظة في الذاكرة، وقد يضيع جزء منها. .. والشعر هو البراعة في استخدام اللغة والتميز في دلالاتها واستعاراتها.

هكذا يصعب الجزم في تعريف مستقر وموحد للشعر الشعبي، والأدب الشعبي عامة، عدا كونه يمثل المشترك الإنساني بين مختلف الشعوب. كما أن تناول الشعر الشعبي كظاهرة أدبية، يستدعي الارتكاز على عدد من المعايير الثقافية، والاجتماعية، والنفسية، والأنثروبولوجية. لهذا نقف أولا عند مفهوم “شعبي”، حيث يتولى الفرد العناية بهذا الأدب، كغيره من مكونات الثقافة الشعبية، والحفاظ عليه، لكن وسط الزمرة أو الجماعة التي تلتئم حول حياة معيشية واحدة، تتقاسم خلالها الهم والمعاناة، والأفراح والأتراح، فتنتج العادات والتقاليد، والطقوس، والرموز، تطبع نمط حياته اليومية، والتي يتم توارثها جيلا بعد جيل. لهذا نجد المنتوج الشعبي، من أدب وغيره، يعبر عن صور هذه الحياة، ويبقى الشعر الأقرب للأفئدة للقيام بدور ترجمان المشاعر والحالة النفسية للفرد والجماعة، وبالتالي التفاعل معه. لهذا نجد الإقبال عليه، وحفظه، وتداوله، وتناقله، ليصبح بذلك في موقع من يمارس سلطة معنوية على المجتمع. والشعر الشعبي بهذا المعنى، لا يقوم على المعرفة العلمية، بقدر ما يقوم على التجربة والسليقة.

 يُسمى الشعر البدوي، أو بالشعر العامي، لعدم تقيده بما يتقيد به الشعر الفصيح لغُوياً ونحوياً، ولأن مفرداته هي من اللهجة البدوية الدارجة، ولأن معظم شعرائه من البدو… يختلف عن الفصيح بعدم تمسكه بالقواعد النحوية، وعاميته، وتداوله الشفويـ إذا لا تتم قراءته مكتوبا. لهذا نجد فحول الشعر البدوي يحفظون قصائدهم مهما كان طولها، ويرددونها أمام الملإ، وفق لإيقاع موسيقي يترك انطباعا جميلا لدى المتلقي، وهو يسعف المشايخ عند تلحينه وغنائه.

يستمد الشعر الشعبي تسميته، وحمولته اللغوية، ومعانيه من الحياة العامة التي هي جزء من التداول الشعبي. لهذا نجد مواضيعه تطرق خصوصيات المجتمع، من أفراح وأتراح. فيستخدم التوصيفات، والمحكيات التي يلتقطها الشاعر من أفواه عامة الناس، وفق معجم عامي غير فصيح. ونجد الشعر الشعبي يختلف من منطقة لأخرى، يلبي حاجيات البيئة التي نشأ فيها.

تحيلنا كلمة “الشعبي” على الشعب، أي على جماعة من الأفراد تؤلف بينهم مجموعة من الروابط، أهمها المكان الذي يعيشون فيه، ثم الهموم المشتركة، والألفة، والتعاون، والجوار، والأمن، والعيش، وغيرها من القواسم المشتركة، رغم ما يشوب هذا العيش المشترك من نزاعات وتقاطبات. كما أن البنية المجتمعية لهذه الكتلة البشرية الموسومة بالشعب، في المغرب، مثلا، هي قبلية بامتياز، حيث العمارة، والبطن، والفخذ، والعضلة، والقبيلة، والنزلة، والعشيرة، ولو أنها تبدو في مظهرها متناغمة بفعل القوانين الوضعية التي تسري على كافة أفراد المجتمع دون اهتمام بالانتماءات القبلية.

لهذا سوف تختلف المكونات اللغوية على المستوى اللساني، حيث التفاوت من منطقة لأخرى لدرجة الاختلاف الثقافي، الشيء الذي ينعكس على المنتوج الأدبي، على مستوى اللغة والمواضيع المطروقة.

يتميز الشعر الشعبي بعدد من الخصوصيات، أهمها “العامية”، إن على مستوى اللغة او المقاربة اللسانية وغيرها. أما العامية فنسبة لعامة الناس وشيوعهم، إذ تربطهم قواسم مشتركة، اجتماعية، واقتصادية، وكذلك الهموم والحاجيات المشتركة، والمصير المشترك، وبالتالي تكون تطلعاتهم واحدة، لهذا نجدهم مؤتلفين متلاحمين حول قضايا مشتركة، الشيء الذي ينعكس على حياتهم اليومية، من طقوس وعادات وتقاليد … كل هذا يجعل هذه العامة تتحرك وكأنها شخص واحد، شخصيتها واحدة وهويتها واحدة، رغم التنوع الثقافي. من هنا يأتي إبداعها المشترك للتعبير عن سعادتها أو همومها، وعن الملاحم وما حققته من انتصارات، وكذا عن احزانها وانكساراتها وخيباتها.

يقوم الخطاب الشعري على الخواطر والمشاعر والأحاسيس، والتفاعل مع الذات ومع المحيط، شواء كان هذا الشعر شفاهيا أو مكتوبا، وغالبا ما يكون الشعر تعبيرا عن معاناة وآلام وفرح، فيأتي مجانبا للتصنع والتكليف ينم عن الصدق، الشيء الذي يبيح له رسم الصور الجميلة، ويطلق العنان للخيال الجامح، ليتحول من موقع البكاء والنحيب إلى استشراف المستقبل وتجديد الأمل، والتطلع للحياة، وهذا ما يعرف بالجنوح، أي الهروب من وضع الإحباط والشكوى والألم إلى التفاؤل. 

هكذا نجد مفهوم العامة من بين الأركان الأساس في دراسة المنتوج الشعري الشعبي كظاهرة أدبية تراثية تستوجب مقاربات عدة، اجتماعية، وسياسية، ثم على مستوى المعجم اللغوي. ثم يأتي مفهوم الفلكلور الذي لا يمكن تجاوزه باعتباره مرتبطا بالثقافة الشعبية، يعتد لنقل المعرفة والثقافة من جيل لجيل آخر، وهو يهم الرقص، والغناء، والحكي، وغيرها. من هنا يبدو مفهوما العامة والفلكلور دالان على الشعب وما ينتجانه من أخبار وثقافة ومعرفة ولغة وأخبار … ومن دون هذا التراث الشعبي لا يمكن اعتبار الشعب حيا، لأنه سيكف عن الإبداع والإنتاج، حيث تتجلى عبقريته.

يستمد الشعر الشعبي قوته وخصوصيته من شفهيته، وهو متصل ببيئة الشاعر، لغته خاصة، قد تتضمن كلمات عربية فصيحة. تتنوع معانيه، حيث يشمل المعاش اليومي والوقائع الماضية، يوظف الأسطورة والرمز. كما أنه ارتبط بالموسيقى، حال المغرب، مثل النوبة، والتوشيح، والعيطة، وأحواش، ثم قصائد الرثاء والخمريات (45). كما أنه من مميزات الشعر الشعبي الدعوة للفضيلة ومكارم الأخلاق والبر بالوالدين، والوعظ، والوصف … كما ظل الحال بالنسبة لأغراض الشعر العربي القديم. كما ظل الغرض الديني قائما في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث القصائد كثيرة توجه في الغالب إلى الغناء. ثم شعر مقاومة الاستعمار وما مر بالمغاربة من أهوال وتنكيل، أو انتصارات حققها المجاهدون.

عرف المغرب عددا من ضروب الشعر الشعبي وأصنافه، منها فن التوشيح الذي جلبه أهل الأندلس لسلاسته وتنميق كلامه وترصيع أجزائه، فنسجوا على منواله دون التزام بالإعراب، فابتدعوا الزجل، فيه الغريب ولغته مستعجمة، وأول من أبدع فيه أبو بكر بن قزمان (46). كما أن هناك من ربط الشعر الشعبي بشعر الملحون الذي يعتبره بعض المؤرخين لونا من ألوان الشعر الشعبي، ومنهم ابن سعيد المصري المتوفي سنة 1249م. يبدو من هذا كل أن الشعر الشعبي في حلته الآن قد مر عبر مراحل كي يستقر في صورته التي هو عليها الان، ولعل أهم مراحله الزجل. وهذا يعني أن المغاربةـ أو ساكنة شمال أفريقيا عرفوا الشعر الشعبي قبل الاكتساح الهلالي لبلدانهم (47).  

الشعر البدوي عربي الأصول، مرتجل وليد اللحظة، يتميز بالعفوية، لغته عي اللهجة البدوية، مرتبط الصلة بالشعر الفصيح، فيعبر عن وجدان الشعب، ويتناقلونه جيلا بعد جيل (48).

من خصائص الشعر الشعبي الفخامة والكثرة والتنوع في الأغراض، حيث تأتي الأغراض ذاتية تعبر عن وجدان الشاعر وما يمر به من تجربة حياتية تشي بالأفراح والأحزان، ثم الوصف الذي يستلهم الصور الجميلة من الطبيعة، أو ذكر المناسبات الدينية بشكل خاص، والتي نجدها تلازم قصائد الشاعر كمقدمة أو مدخل لنصوصه الشعرية للاستهلال، ثم يليها السلام على الجميع، بعدها يعرض للغرض الأساس، ثم يختم بالصلاة على النبي محمد عليه السلام، وذكر اسمه ونسبه وتواضعه لله. كما أن الشاعر يقف عند معاناته لينقل تجربته الحياتية وما مر به من شظف العيش، تليها النصائح والحكم والموعظة. كل هذا يحيلنا على مضمون القصيدة العربية القديمة وأغراضها ومواضيعها المطروقة، ثم المعجم اللغوي المستعمل، والذي يحمل العديد من الألفاظ التي تبدو نادرة وصار استعمالها قليلا، وهي تشي بذلك الطابع البدوي.

هكذا جاءت النصوص الشعرية البدوية منسجمة مع أصولها النبطية التي حملتها الجماعات العربية لبلدان شمال إفريقيا خلال استقرارها بين ظهراني ساكنة هذه البلاد.

الشعر الشعبي بهذا المعنى هو إبداع شفوي بالدرجة الأولى، لهذا نجده متناثرا هنا وهناك، تتناقله ألسنة المستمعين جيلا بعد جيل. هذا التناقل لا يخلو من أضرار جسيمة تلحقه، أهمها ضياع جزء كثير منه موت الحفظة والشيوخ والشعراء والرواة، وما يتبقى منه إلا القليل، تم الحفاظ عليه كونه مغنى أو مجموع في ديوان شعري، أو في خطاطات محتفظ بها عند الأفراد. كما أن الجهات المعنية بالتراث الثقافي لم ترق لدرجة تجميع هذه الأشعار الشعبية التي يمكن اعتبارها سجلا تاريخيا للشعوب، وتلك الحلقة التي تربط الأواصر بين ساكنة الشمال الإفريقي والمشرق العربي.

أما عن تاريخ ظهور الشعر الشعبي فلا أحد يجزم بتحديد تاريخه عدا ما ارتبط بتاريخ الملحون. يمكن القول إن ساكنة شمال إفريقيا الأمازيغ، عرفوا الشعر البدوي مع هجرات الجماعات العربية، خاصة بني هلال، ومع ذلك لم ينغمسوا فيه إلا استماعا، لأن لهم، أي الأمازيغ، أشعارهم التي تغنيهم عما سواها.

إن الشعر الشعبي وتنوع أصنافه، من ملحون وزجل وغيرهما، يقابله الشعر العربي الفصيح، لأن مادة الشعر الشعبي لا زالت بعيدة عن دائرة اهتمام الدارسين، ولن يتأتى ذلك إلا بالعودة إلى الميزان النبطي، والمغنى منه (49).

نقف عند الشعر النبطي لأنه الأصل في الشعر الشعبي الذي ساد في شمال إفريقيا، نقلته الجماعات العربية التي زحفت نحو بلاد المغرب، خاصة جماعات بنو هلال (50).

الذين كان استقرارهم الأول على الضفة اليسرى لنهر النيل، صعيد مصر، قبل أن ينطلقوا لسائر شمال إفريقيا. فكانت أشعارهم تغنى على الربابة، وهو الشعر المعروف بالبدوي أو حوراني (51). ثم الوزن “المسحوب”، وهو الأكثر استعمالا في الشعر النبطي (52)، ومن شعرائه الشريف بركات خلال القرن 11هـ (53)، ووزنه مستفعلن مستفعلن فاعلاتن، أي أنه يوافق البحر المديد، وبالتالي فهو أقرب للفصيح. يليه “الصخري” الذي ينتشر بين البدو والحضر (54)، ثم “الهجين”، مشتق من الهجن، أي الإبل، لأنه يغنى على ظهور الإبل وهي تسير”(55)، ووزنه مجزوء من البسيط (56) … أما البحور الشعرية فهي غير محدودة (57).

هذا وقد توغل الشعر البدوي في أرض لإفريقيا، فبلغ بلاد السودان، وأهم أغراضه المدح النبوي بتعداده صفاته والشوق لرؤيته وزيارة قبره، وذكر فضائله، وتعظيمه (58)، ومن أشكال الشعر الشعبي السوداني “الدوبيت”، ومن شعرائه الطيب ود مصطفى المسلمي، يقول:

الليلة القلب شعن جروحو جداد

وهفت لي البجازن عركسن بولاد

كميع البراطمة تحبكن بي سواد

يا محافظ حواك من لحظك الحساد (59)

ثم وزن “المسدار” الذي هو تطور طبيعي ل ” الدوبيت”، يصل إلى أربعين بيتا.

لقد انتشر الشعر الشعبي ولا يزال له امتداد في بلاد الشام، في الأردن وفلسطين ولبنان وسوريا، من ألوانه “المطاول” (60). يقول أحد الشعراء:

ناديت يا دار وين أحبابكي والعم

صفق عليهم غراب البين بجناح (61)

أما في العراق فنجد “الموال” (62). والشعر الشعبي الذي له هو موجه في أغلبه للغناء. ثم الشعر الشعبي في الدول المغاربية، والتي كانت أكثر احتكاكا بالجماعات العربية لبني هلال، فجاءت أوزان القصيدة بعيدة عن أوزان الفصيح. فنجد في تونس “القسيم” و”الموقف” (ينشده الشعراء وقوفا)، و”لمزيود” (لأنه يزيد ب”مكبين” بدل “مكب” واحد (63)، و”الملزومة”، كلها خاضعة للإيقاع ولتعدد الأوزان (64). و”لمكب” هو خمسة أشطر، قوافيها الأربعة الأولى مستقلة، والغصن يعود لقافية “الطالع” حيث يكون الأداء بمد كبير واضح يسمى “الطواحي”. ف”الطالع” بيت يعطي الانطباع أنه بيتان وليس بيتا واحدا. ثم “الدور” الذي هو خمس عشرة بيتا لها نفس القافية (65). فمصطلحات الشعر الشفهي كثيرة.

أنا القلب حاير ودايخ وهايم .. فيض مرايم .. سهران لا نرقد النوم دايم

أنا القلب حاير ودايخ وفاني .. كثرت محاني .. ساهر منامي جفاني

يا قلب اصبر على الضيم عاني .. طيق لهزايم .. هاني مثيلك على القوت صايم (66).

أما في الجزائر فيرجح ظهور الشعر الشعبي في أواخر القرن الأول للهجرة (67)، ونضرب مثلا بأبيات من قصيدة “حيزية”:

عزوني يا ملاح في رايس البنات = سكنت تحت اللحود ناري مكديا

يــاخي أنـــا ضرير بيــــا ما بيــا = قلبي سافر مع الضامر حيزيــا

يا حسراه على قبيل كنا في تاويل = كي نوار العطيل شاون نقضيــــا

ما شفنا من دلال كي ظي الخيـال = راحت جدي الغزال بالزهد عليــا

وإذا تمشي قبـال تسلب العقـــال = أختي باي المحال راشق كميـــــــا

جاب العسكر معاه والقمان وراه = طلبت ملقـــاه كل الاخر بهديـــــــا (68)

هذا النوع من القصائد يسميه الشعراء والرواة، “المربوع”، لأن كل مقطع فيه يحتوي على أربعة أشطر، يلتزم فيه الشاعر بقافية الشطر الرابع (69). وفي الشعر الشعبي الليبي نجد “المجرودة”، و”القسيم”، و”الملزومة”، “وبيت الطق”، و”المهاجاة” …(70).

اشتهر بالمغرب هذا اللون الشعري البدوي الشعبي، من “قصايد”، و”سربات”، و”عروبيات”، و”بروال”، وقد تنوع النظم، إذ لا علاقة له بالفصيح، فهو شعر ملحون ينظمه أشياخ القريحة، و”الخزانة”، و”الذكارة”، ينظمون الشعر دون قواعد، عن سليقة، مثلهم في ذلك مثل شعراء عصر الجاهلية “(71)، ومن أوزانه “البيت”، فهو يتركب على غرار القصيدة العربية، إذ للشاعر حرية ابتكار ما يشاء من البحور (72).

نذكر بعضا من القصائد البدوية لشعراء مغاربيين (73). القصيدة الأولى عنوانها “يا الغري في الدنيا”، وهي قصيدة مطولة للشيخ محمد بن سليمان المغربي المكناسي، عاش في القزن 12هـ، نظمه في التصوف. هذه بعض من أبيات قصيده موزع بين “عروبي” و”بيت”، و”طالع”:

ناس زمان خيروا واحد من الألف***واليوم اختار من ماية ألف واحد

الوقت قساح وجيلنا عاد مخالف***من علايم البرة نوريك شواهد

سمعنا في الحديث في القول السابق***النعم يجي عليها كم من حاسد

مالك يا راسي من لا يساعدك بمساعد

……

يا العادم باش تخلص عليك الأديان***ويا التاهمني حتى ذنب ما علي

في عطية مولاك إذا جهل إنسان***القبول سجيا والسر في جداي

قال جبر الوقت النظام بن سليمان***كان انت تساعفني وتدير بالوصاي

وساك جابر حمدوش على هواك غلاب***من مدينة مكناس كنت عليك نايب

كل سايب جيت نرده لك بصواب***ڤلت لك لبلادك ولي بڤلب تايب

يا الغري في الدنيا يا كثير الاحباب***عيش وحدك تنجى من خلطت المصايب (74)

النص الموالي لشاعر مغربي مجهول، هو عبارة عن حكم وموعظة تشي بتجربة في الحياة، وهو قول يصدر عن وجدان الشاعر ومشاعر طافحة. يقول:

يا قلبي وعلاش تتلظى***استمع لي ما نقوله في امثالي

إذا كان لكلام من الفضة***اعلم الصمت كالذهب غالي

/قصيد/

الصمت ذهبا إذا ما كنت قايله***انطق بلفظ خفيف وكون وازنه

سالت بالله اخشى من عواقبه***اصغى لما قلت لك يا أخي وفهمه

/بيت/

يل قلبي في ذا الزمان ايس***لا بقي لك صاحب صديق مضمون

يا قلبي من جاك يتلبس***راه يقضي في حاجتو ويخون

يا قلبي ان كنت لبيب رايس***ليس تشكي الكلام من المكنون

/طالع/

يا قلبي غضبت أو ترضى***ليس تصغى لهم بامتثالي

إذا كان لكلام من الفضة***اعلم الصمت كالذهب غالي

النص الموالي صوفي عن العشق والخمرة والحضرة الصوفية، للشاعر مجهول، يتضح من البيات الخيرة انه من قبيلة براز بالجزائر في وادي الشلف. يقول:

هب النسيم طابت الحضره السنيا***قوم يا نديم نغنموا ساعة هنيا

محلاه ليالي الهنا***ما بين الأقمار

والكاس يدور بيننا***يا جمع الاخيار

اشرب لذيذ خمرنا***تعاين اسرار

خمرا وطافوا بنا***كيوس رضيا

بها يدور بيننا***ساقي الحميا

منها شرب قبلنا***آدم وموسى

وادريس من قبلنا***والروح عيسى

والصالحين التقات***شربوا كيوسا

بڤلوبهم صافيا***بيضا نقيا

واسرارهم ظاهرا***الى البرايا

اهل الصفا بالصفا***نالوا المعالي

شربوا كيوس الحبيب***والحب غالي

وفوضوا امرهم***لذي الجلال

بعيوبهم باكيا***من دون خفيا

وهب لهم في الجنان***درجة عليا

يا فرحنا بالنبي***جاه بالكرامه

يوم الحساب أمته***لها علامه

والشرب من حوضه***يبري السقامه

والكافرين يا سلام***في نار فياء

وسط الجحايم ساكنين***مع كل حيا

قال البرازي كلام***موثق محكم

من لا قرا ما درا***كالصم الابكم

وأنا جنيت والالاه***يعفو ويرحم

مسكين من لا مشا***على التنهيا

ولا يكون العمل***الا بنيـــــــا (75)

د. محمد حماس

باحث في مجال التاريخ والتراث

وجدة.المملكة المغربية

الهوامش:

  • María Rosa ; Scheindlin, Raymond P ; Sells, Michael (2006-11-02). La littérature d’Al-Andalus (en anglais). Cambridge University Press.
  • عبد الرحمن بن خلدون، المقدمة من كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، مؤسسة المسترسل العربي، ص. 658
  • حسين نصار، الشعر الشعبي العربي، ط2، منشورات اقرأ، بيروت- لبنان 1980، ص10
  • ميهاي فضل الله الحداد، رحلتي إلى بلاد الرافدين وعراق العرب، ترجمة ثائر صالح، كتب للنشر والتوزيع، بيروت، 2004، ص. 106
  • محمود عطية، الشعر النبطي، تحول من حداء للإبل على ديوان كامل للبادية، الوثيقة مجلد 30. عدد 60. البحرين، يوليوز 2011
  • عبد الرحمن بن خلدون، العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط. 1، 2003، ج 2، ص. 2331، كانت قبيلة بني هلال البدوية في أول أمرها تسكن في الصحراء بالحجاز في الجزيرة العربية، وكانت تعيش على البداوة والخشونة، ولما ظهر القرامطة في الجزيرة العربية انحازت تلك القبيلة إليهم واعانتهم في حروبهم وغاراتهم على الحجاج والقوافل التجارية. وفي زمن العزيز، الخليفة الفاطمي، تم طرد تلك القبائل من الحجاز الى صحراء سيناء بمصر في الصعيد المصري تجاه البحر الاحمر وبقيت هناك على بداوتها (www.portail-amazigh.com)

كانت بطون هلال وسليم من مضر لم يزالوا بادين منذ الدولة العباسية وكانوا أحياء ناجعة محلاتهم من بعد الحجاز بنجد فبنو سليم مما يلي المدينة، وبنو هلال في جبل غزوان عند الطائف، وربما كانوا يطوفون في رحلة الصيف والشتاء أطراف العراق والشام، فيغيرون على الضواحي ويفسدون السابلة، ويقطعون على الرفاق، وربما أغار بنو سليم على الحجاج أيام الموسم بمكة وأيام الزيارة بالمدينة. وما زالت البعوث تجهّز والكتائب تكتب من باب الخلافة ببغداد للإيقاع بهم وصون الحجاج عن مضرّات هجومهم. ثم تحيّز بنو سليم والكثير من ربيعة بن عامر إلى القرامطة عند ظهورهم، وصاروا جندا بالبحرين وعمان. ولما تغلب شيعة ابن عبيد الله المهدي على مصر والشام، وكان القرامطة قد تغلبوا على أمصار الشام فانتزعها العزيز منهم وغلبهم عليها وردّهم على أعقابهم إلى قرارهم بالبحرين، ونقل أشياعهم من العرب من بني هلال وسليم، فأنزلهم بالصعيد في العدوة الشرقية من بحر النيل فأقاموا هناك، وكان لهم إضرار بالبلاد. ولما انساق ملك صنهاجة بالقيروان إلى المعز بن باديس بن المنصور سنة ثمان وأربعمائة قلّده الظاهر لدين الله علي بن الحاكم بأمر الله منصور بن العزيز لدين الله أمر إفريقية على عادة آبائه كما نذكره لك بعد. وكان لعهد ولايته غلاما يفعة ابن ثمان سنين، فلم يكن مجربا للأمور ولا بصيرا بالسياسة، ولا كانت فيه عزة وأنفة…

  • غسان الحسن، الشعر النبطي في منطقة الخليج والجزيرة العربية «دراسة علمية»، ط2، وزارة الإعلام والثقافة، الإمارات العربية المتحدة، ص498
  • محمد المجيدل، أهم أوزان الشعر النبطي، الدارة، مجلد5 عدد3 يناير- جمادى الأخرة (1990)، مجلة محكمة، المملكة العربية السعودية، ص216
  • محمد المجيدل، أهم أوزان الشعر النبطي، م.س، ص220
  • غسان الحسن، 2003، م. س، ص502
  • محمد المجيدل، 1990، م. س، ص215
  • محمود البكر، في الغناء البدوي «الهجيني»، كتاب الرياض (87)، فبراير 2001م، مؤسسة اليمامة الصحفية، المملكة العربية السعودية
  • موقع منتدى العروض رقمياً، مشاركة للكاتبة: نادية حسين.
  • محمد فتح الرحمن أدريس، دور الشعر الشعبي في التوثيق لرجال الدين بمحلة مروى، الدراسات الإنسانية عدد16 يوليو2016، مجلة محكمة، السودان، ص115.
  • يقول الشاعر: الليلة تفجرت في القلب جراحات جديدة ودق. تحول إلى سائل متراكم حواك من لحظك الحساد
  • عبد الفتاح قلعه جي، دراسات ونصوص في الشعر الشعبي الغنائي، alkottob.com، ص4
  • عبد الفتاح قلعه جي، م. س، ص8. يقول الشاعر: يبكي على الديار والأطلال التي لحقها الخراب، وكأن غراب الشؤم ناح بالجوار.
  • علي الخاقاني، فنون الأدب الشعبي «الحلقة الأولى»، ط.3، مكتب دار المعاني، بغداد، 1989، ص16.
  • محمد المرزوقي، الأدب الشعبي …، م س …، ص. 91
  •   محيي الدين خريف، أغراض الشعر الشعبي التونسي، مجلة الثقافة الشعبية، السنة الثانية عدد6 صيف2009، المنامة- البحرين، ص72.
  •  محمد المرزوقي، الدب الشعبي …، م س …، ص. 90 – 91. ومحمد صالح الضالع، الأسلوبية الصوتية، دار غريب، القاهرة، 2002، ص.12
  • عبد السلام عاشور، الشعر الشعبي التونسي وأوزانه وأنواعه، مرصد الذاكرة الشعبية على الويب 18/07/2010. يقول الشاعر أن قلبه حيران ولهان هائم، سهران لا يستطيع النوم، وقد كثرت محنه، لهذا فهو يترجى قلبه أن يصبر على الظلم والمعاناة والهزائم، فهو، أي الشاعر، مثله مثل قلبه صائم لا شهية له للطعام.
  •  حياة بو خلط، صورة المرأة في الشعر الشعبي الجزائري، رسالة ماجستير، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة المسلية، الجزائر، ص14.
  • يقول الشاعر: يطلب من الناس الأخيار أن يعزوه في أجمل البنات التي سكنت القبر تحت التراب فاشتعلت نار قوية في فؤاده، فأضحى مثل الضرير لأن قلبه سافر مع حبيبته التي تسمى “حيزية”. يأسف لما آل إليه الوضع، لأنه قبل قليل كانا يهنآن بسعادة ورضا، والدلال والراحة، ويصفها بالغزال، تسلب العقل كلما مشت أمامه برشاقة. ثم يذكر كيف كان العسكر والأقوام التي تتبعه … الأبيات فيها حنين وبكاء على الطلل.
  • حياة بوخلط، 2009، م. س، ص25.
  • نفسه، ص28.
  • محمد الفاسي، معلمة الملحون، أكاديمية المملكة المغربية، السفر الرابع عشر، القسم الأول من الجزء الأول أبريل 1986م- 1406هـ، مطبوعات الأكاديمية، ص138.
  • نفسه، ص140.
  • التراجي عفود نوجه سونك، الديوان المغرب في أقوال عرب إفريقيا والمغرب، طبع هذا الكتاب في باريز 1902م، صاحب المطبعة، أفوست بوردان، وهو يضم عددا من القصائد جمعها صاحب هذا الكتاب الذي كان يشتغل مدرسا بالمدرسة الكتانية بقسنطينة، والمدرس بمدرسة المستعمرات بباريز.
  • يقول الشاعر: يحاور قلبه، فيسأله لماذا يتحرق من الشوق لابد أن يستمع إليه، فإذا كان الكلام من فضة فإن الصمت من ذهب، فتلفظ بكلام قليل وحكيم، واخشى الله من عواقبه، فافهم قولي وما أقول. هذا زمن ميؤوس منه فلم يعد هناك صديق ولا صاحب، فكل واحد يسعى لقضاء مصالح حين يأتيك متواضعا فلا تشتكي همومك لأحد فلن يسعفك أحد سواء رضيت أو غضبت، فالصمت من ذهب.
  • نفسه، ص. 12 إلى20. وهي نصوص كثيرة وجدانية بين غزال وخمرية وصوفية، ووصف … هي أقرب للفصيح، تؤكد انتماءها النبطي للأرض التي نشأ فيها. يقول الشاعر: هب النسيم وطابت الحضرة الصوفية، لنغنم منها ساعة هنية في أحلى الليالي بين الأقمار نستمتع بكأس خمرة صوفية. يدور الساقي بيننا فنشرب أسرار الرضا، منها شرب قبلنا آدم وموسى وعيسى، قلوبهم صافية، بيضاء نقية، وأسرارهم ظاهرة بين العباد، اهل الصفاء بالصفاء نالوا الدرجات العلى، شربوا كأس الحبيب، والحب غالي وقد فوضوا أمره لذي الجلالة بعوييهم يجهرون ويبكون، فوهب لهم الجنات درجات. يا لفرحتنا بالنبي جاء بالكرامات، يوم الحساب أمته لها علامة، يسربون من حوض يشفي من كل سقم، والكافرون في نار جهنم يسكنون الجحيم. قال البرازي كلام موثوق محكم، فالذي لا علم له هو في عداد الصم البكم. فأن مذنب والله غفور رحيم، فالعيب ألا ينتهي المرء، فالعمال لا تكون إلا بالنية.
رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.