فؤاد بوعلي
توالت الردود الغاضبة على التصريحات العنصرية لطبيبين فرنسيين على قناة تلفزية حول تجارب اللقاحات بشأن فيروس كورونا وكيف يمكن أن تكون أفريقيا مختبرا مناسبا لها. وكان آخرها تصريح الرئيس الأمريكي السابق أوباما الذي تغنى بأصوله الإفريقية ونافح عن قارته الأم. ولم يتوقف الأمر عند الأفارقة الذي أشعلوا فضاءات التواصل الاجتماعي مستنكرين هذا الموقف، بل انتفض العديد من الفرنسيين من عامة الشعب الذين رأوا في هذا التصريح انتقاصا من كرامتهم الإنسانية وأنه لا يمثل إلا أصحابه. وهو أمر صحيح وحقيقي. بل الأكثر أنه لا يمثل جوهر الثقافة الفرنسية القائمة على مفاهيم العدل والاعتراف . فالفرنكفونية هي قضية نخبة تحاول إحياء الطبيعة الاستعمارية للدولة الفرنسية حفاظا على امتيازاتها وفي كل مرة تخرج وجهها القبيح الذي يثبت نظرتها الاستعلائية لشعوب القارة الإفريقية وكيف توظف سياساتها الأمنية والثقافية من أجل السيطرة على خيرات الشعوب وعقولها. ويكفي أن نقارن الخطاب العلماني الفرنسي مع نظيره في دول العالم المتقدم فسنجده خطابا مفعما بالاستئصال ومحاربة كل قيم التنوع والاختلاف، وإن كانت الشعارات المعلنة غير ذلك. لذا لن تفاجئك النخب العلمانية العربية المنتظرة أمام أبواب محراب الإيليزيه باعتمادها لكل قيم الاستئصال ومحاربة المشترك الوطني. فهذا الفرع من ذاك الأصل.
قبل مدة نقلت إحدى القنوات الفرنسية تقريرا عن التعليم في السويد من خلال طرح الإشكال المؤرق للساسة الفرنسيين بخصوص العلاقة بين الدين والحياة العامة، وبلغ استغراب التلاميذ مداه حين أخبر الصحفي التلاميذ بأن الحجاب والرموز الدينية ممنوعة في المدارس الفرنسية، وهو ما ووجه من قبل الجميع باستهجان واستنكار سواء من قبل التلاميذ أو المسؤولين التربويين. وهنا نتحدث عن السويد الرائدة في مجال التعليم حيث ظلت دائما في المراكز العشرين الأولى في تقييم الطلاب الدولي ورابع دولة في عدد الحاصلين على تعليم عالٍ، ومن الأوائل في مراتب التنمية البشرية عالميا. والاختلاف بين النموذجين يعود إلى فهم براغماتي للمواطنة تقوده السويد وفهم يقوم على الإدماج القسري لكل المقيمين على التراب الفرنسي بل وإجبار الأتباع على التنميط بالهوية والثقافة الفرنسيتين. لذا نجح الأول وفشل الثاني.
ومن المعروف أن مزاعم فرنسا التي تسوق بها دعواتها وتبرر بها سيطرتها على المستعمرات القديمة باسم الفرنكفونية هي محاولة لإثبات وجودها المهيمن وليس قناعة أخلاقية. فقيم التضامن لصالح التنمية، واحترام التنوع الثقافي، ودولة القانون والحق، والسلام والديموقراطية، لا تعدو كونها لافتات تستعمل حين الحاجة لفرض نموذج قيمي أو سياسي معين. ففرنسا استنزفت وما زالت تستنزف خيرات الدول الإفريقية ومن أجل ذلك خاضت وتخوض حروبا في كل الجهات، وهي كذلك التي تدافع عن الأحادية اللغوية في بيتها وعن التعدد في غيرها، وهي التي ساندت الاستبداد والطغيان باسم الحداثة والعلمنة، كما تفننت في خلق الصراعات الإقليمية والجهوية بين الدول والأنظمة. كل هذا يؤكد أن الدعاية الفرنكفونية ليست سوى شعارات للتسويق التعبوي بغية فرض منظومات بديلة . وربما ننسى سريعا النماذج التي تتراءى لنا بين الفينة والأخرى والتي تتثبت أن الشعارات المرفوعة للتسويق الإيديولوجي تخفي وجه التسلط ورفض الآخر واحتقاره والإجهاز على مقومات الذات الوطنية، والذي تجلى في أبشع صوره خلال السياسة الاستعمارية الفرنسية القائمة على استئصال الوجود الهوياتي الوطني.
لذا فما أثير أخيرا ليس إلا كشفا للحقائق المضمرة لدى الساسة والنخب المتسيدة للقرار في باريس…فنحن كنا وسنظل ميدانا للتجارب السياسية والثقافية واللغوية. وما لم نعلن صراحة الفكاك من أسر النموذج الفرنكفوني فسنظل نجتر الخيبات…ألم نقل لكم أن الفرنسة ليست إلا المقدمة؟