بوتفليقة وجنرالات الجزائر: تعاقد التمديد المفتوح..

admin
2019-02-08T20:58:39+01:00
كتاب واراء
admin8 فبراير 2019آخر تحديث : منذ 6 سنوات
بوتفليقة وجنرالات الجزائر: تعاقد التمديد المفتوح..

تقول النكتة إن أحد أطباء الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة فارق الحياة، بعد صراع طويل مع أمراض الرئيس! احترام المرض، بوصفه ظاهرة طبيعية تصيب الآدمي فتُقعده إلى كرسيّ نقّال، أو تعطّل وظائف جسمه الحيوية أو تشلّ ملكاته العقلية، لا يُبطل المغزى السياسي والأخلاقي الذي تثيره النكتة؛ عن حاكم يتربّع على رأس السلطة منذ 20 سنة، ويعتزم اليوم الترشح لولاية خامسة، في انتخابات 18 (أبريل) المقبلة. الأدقّ، بالطبع، هو القول بأنه لم يعلن هذا الترشيح الخامس بنفسه، لأسباب شتى بينها أغلب الظنّ أنه لم يعد قادراً على النطق السليم؛ بل أعلنت ترشيحه أحزاب التحالف الرئاسي: جبهة التحرير الوطني، التجمع الوطني الديمقراطي، تجمع أمل الجزائر، والحركة الشعبية الجزائرية.
صحيفة «الوطن» الجزائرية، التي تصدر بالفرنسية، كتبت تخاطب المواطن الجزائري هكذا: «تخال نفسك في سنة 2019، ونقول لك كلا. إنما أنت ما تزال في سنة… 2014»؛ لأنّ الزمن، عند «البطانة الرئاسية»، ما يزال متوقفاً عند الدورة الرابعة للانتخابات الرئاسية! فمن الواضح، تتابع الصحيفة، أنّ مظاهر الجمود والتلفيق والعنف الاستبدادي تظلّ هي ذاتها خصائص السلطة الراهنة، رغم كلّ الضغوط الأخلاقية والسياسية والاقتصادية التي مورست من أجل الانفتاح على حقائق الجزائر في العالم المعاصر. وهكذا، لا حرج على الجزائري، الذي يصغي اليوم إلى أسباب التحالف الرئاسي في إعادة ترشيح بوتفليقة، إذا تراءى له أنه إنما يصغي إلى الأسباب ذاتها التي سيقت في امتداح «المجاهد» بوتفليقة سنة 2014: «تقديراً لحكمة وسداد خياراته وتثميناً للإنجازات الهامة التي حققتها الجزائر تحت قيادته».
لا جديد على مستوى الطرافة، أيضاً، إذْ بلغ عدد المتنطحين للمنصب 172 مرشحاً، أغلبهم دمى في أيدي الأجهزة الأمنية لإسباغ مقدار أدنى من روح المسرح على الانتخابات؛ والقليل منهم يتزعمون أحزاباً وحركات سياسية، لا تخفى مساهماتهم الحميدة في تصنيع الدراما ذاتها؛ وثمة مَنْ سبق له أن ترأس الحكومة، أو حتى نافس بوتفليقة إلى آخر الشوط؛ ولا يعدم المشهد جنرالات متقاعدين، وضباط أمن أفلت نجومهم… وفي قلب الكواليس، ثمة شقيق الرئيس الذي يدير الكثير من الخيوط، ولا يحتاج المرء إلى كبير اتفاق مع الصحافي الجزائري الإشكالي محمد سيفاوي لكي يصادق على توصيفه التالي: «سعيد بوتفليقة في الجزائر هو ما كانت عليه ليلى طرابلسي في تونس»!
الأرجح، في المقابل، أنّ المرء يخطئ إذا ساجل بانّ بوتفليقة لا يحكم في الجزائر، ليس خلال الدورات الثلاث الأولى وحدها، بل كذلك على امتداد السنوات الخمس الماضية؛ التي صرف معظمها مقعداً، صامتاً، نزيل المشافي العسكرية الفرنسية، مستبدلاً شخصه الفيزيائي بصورة فوتوغرافية. لقد حكم بالفعل، ويواصل الحكم اليوم، ولعله سوف يواصله خلال الولاية الخامسة، بعيداً عن أيّ لغز أو سرّ أو خفاء خارج المبدأ الأوّل والأخير: أنه رأس البطانة الحاكمة والواجهة لها، في آن معاً؛ ومصدر توافقها وتصالحها وتفاهماتها، في السراء كما الضراء؛ والقيّم على الفساد، والمافيات، واقتسام ثروات البلاد؛ وأخيراً، ولس آخراً البتة: الخيار الأفضل للقوى الخارجية، الجبارة، ذات الصلة بالجزائر وصاحبة المصلحة في الحفاظ على «استقرار» النظام.

بلغ عدد المتنطحين للمنصب 172 مرشحاً أغلبهم دمى في أيدي الأجهزة الأمنية لإسباغ مقدار أدنى من روح المسرح على الانتخابات

هل في وسع رجل مريض، قعيد الفراش والكرسي النقال أن يتولى كلّ هذا؟ نعم، غنيّ عن القول، ما دامت معادلة حضوره في هذه العناصر كافة لا تتطلب إلا احتلال مقدّمة المسرح، الذي في كواليسه يتوافق أعضاء البطانة؛ بل حدث أحياناً أنهم إلى الواجهة احتكموا، ومن خلاله صدّروا الانطباعات للجزائريين بإسقاط هذا الرأس أو الإطاحة بذاك، طبقاً لقرارات الرئيس القعيد إياه. وفي بلد ترتعش الأفئدة فيه لدى استرجاع سنوات الحرب مع الإرهاب الداخلي، وذاكرة 250 ألف قتيل سقط الكثيرون منهم جراء مجازر ممسرحة دبرتها الأجهزة الأمنية والعسكرية ذاتها؛ كيف لا يبدو هذا الرئيس القعيد، أو حتى الرئيس/ الكفن، بمثابة أفضل خيارات السوء؛ أو، على وجه الدقة، بديل خيارات الدم؟
الوقائع أشارت إلى أنّ الجزائر، خلال الأسابيع القليلة التي أعقبت اندلاع انتفاضات ما يسمى بـ«الربيع العربي»، في 2010 تحديداً، شهدت أكثر من 112,000 حالة تظاهر أو اعتصام أو احتجاج؛ لأسباب تتصل أولاً بلقمة العيش والغلاء واشتراطات صندوق النقد الدولي، وليس إسقاط النظام على وجه التحديد. لكنّ البطانة الحاكمة، في توظيف مناخات ترهيب الجزائريين من عودة الإرهاب والمجازر تحديداً، تمكنت من إسكات الشارع الشعبي، وإخماد موجات السخط المتعاظمة؛ بل أفلحت، كذلك، في جعل المواطن رهينة البحث عن أسباب العيش اليومي البسيطة، الأمر الذي أتاح تمرير برامج التعديل الاقتصادية والاجتماعية البغيضة. ولقد بدا أنّ التخوّف من عودة عمليات «الجماعة الإسلامية المسلحة» و«الحركة الإسلامية المسلحة» و«الجبهة الإسلامية للجهاد المسلح» و«الجيش الإسلامي للإنقاذ»، وسواها… أمّن للسلطة خير ساتر إزاء دائرة النقد الاجتماعي، وبالتالي أتاح قبول بطانة بوتفليقة كجهة إنقاذ بديلة وحيدة، أياً كانت موبقاتها.
وليست بعيدة عن المشهد تدخلات الولايات المتحدة في الجزائر، لصالح الإبقاء على الوضع القائم عن طريق محاباة البطانة الرئاسية، في جانب أوّل؛ والإشراف، في جانب ثانٍ، على ضمان ولاء الأجيال الشابة من ضباط الجيش الجزائري، ممّن يتمّ تأهيلهم في الكليات العسكرية الأمريكية. وليست بعيدة تلك المرحلة التي شهدت صمت البيت الأبيض عن حمامات الدم التي وقفت وراءها أجهزة أمنية وعسكرية جزائرية، كانت الاستخبارات المركزية الأمريكية على علم تامّ بها، وتجاهلها تماماً أمثال ريشارد بيرل وبول ولفوفيتز ودونالد رمسفيلد وكوندوليزا رايس. ومن هنا كان حسين آيت أحمد محقاً في إقامة الصلة بين مشروع بوتفليقة حول المصالحة الوطنية (والهدف الفعلي هو تبييض ساحة الجنرالات بما يتيح استمرار تحالفهم مع بوتفليقة، تمهيداً لتعديل الدستور)؛ وبين ما حظيت به رئاسة بوتفليقة من تأييد فرنسي وأمريكي صريح، بدا فاضحاً أحياناً.
كذلك فإنّ ما حدث يوم 11 (يناير) 1992 لم يكن أقلّ من انقلاب عسكري صريح نفّذه جنرالات الجيش ومؤسسات الحكم المدنية المتحالفة مع مختلف أجهزة السلطة. وباسم الدولة وحفاظاً عليها، بذرائع صيانة السلم الأهلي ودرء الأخطار المحدقة بالوطن، انقضّ الجيش على المؤسسات ابتداءً من رئيس الجمهورية آنذاك الشاذلي بن جديد، وانتهاء بأصغر مجلس بلدي. كما فرض قانون الطوارئ، وألغى نتائج الانتخابات، فانفتح الباب عريضاً على السيرورة (الطبيعية والمنطقية) للتحوّلات الكبرى في الحياة السياسية عموماً، وتصاعدت خيارات العنف ضمن تيارات الإسلاميين وأجهزة السلطة العسكرية والأمنية على حدّ سواء. من هنا بدأ مشروع التعاقد مع الرجل/ الواجهة، وجرى تمديد آجال العقد حتى يشاء الله!
أخيراً، كان مشروع «الميثاق من أجل السلم والمصالحة الوطنية»، الذي اقترحه بوتفليقة، ضمن مسعى طيّ العقد الدامي الذي عاشته الجزائر بين 1992 و2003، قد حظي بنسبة «نعم» ساحقة بلغت 97٪، كما كان متوقعاً. لكنّ ذلك المآل لم يطمس الضيق الشعبي الواسع إزاء النقص الفادح الذي اتسم به المشروع، في ملفّين حاسمين وأساسيين: ملفّ المفقودين (إذ لم ينصّ الميثاق على أية صيغة إجرائية ملموسة تضمن الكشف عن مصائرهم)؛ وملفّ محاسبة الجنرالات والمافيات الأمنية، أو أية جهات حكومية سلطوية مارست الخطف والاعتقال التعسفي والتنكيل بالمواطنين، فضلاً عن ممارسة الفساد ونهب البلاد.
لم يطمس، ولكنه أيضاً لم يُطلق حركة معارضة شعبية كافية، منظمة وعابرة للحساسيات المناطقية والثقافية؛ ولهذا فإنّ الدورة الانتخابية الخامسة ليست سوى فقرة التمديد التلقائي في العقد القديم، بين الرئيس القعيد وجنرالاته وبطانته.

صبحي حديدي/كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.