فؤاد بوعلي
لم يكن المقطع المتداول في منصات التواصل الاجتماعي للفنان المغربي الأصل، والفرنسي جنسية وانتماء، جمال الدبوز، الذي شبه فيه مغاربة فرنسا بالبقر الوحشي، بالأمر الجديد أو الغريب، ما دام وفيا للغاية المؤسسة لهذا الإبداع، التي هي الاستجابة لطلب الجمهور الفرنسي. وما لم ينتبه له بعض من الفنانين وهم يدبجون بيانات التضامن أن الأمر نفسه هو المؤطر لمهرجان الضحك بمراكش، بصيغته الفرنسية، الذي يشرف عليه ويقوم على تصوير مغاربة الخارج بشكل سلبي وتقديم فرنسا باعتبارها جنة الأحلام والنظام… وأشياء أخرى. فما قام به هذا الكوميدي ليس إلا تجسيدا لنموذج إبداعي يصر على الاستجابة لطلب الجمهور الفرنسي بحثا عن الشرعية والحضور، وإن وصل الأمر للانتقاص من الذات وتسويقها في سلبياتها وتخلفها.
وهذا الموقف ليس خاصا بفن إبداعي دون آخر بل هو سمة طغت على الإبداع الموجه إلى الآخر بلغته، ما يجعله يعيش معاناة ناتجة عن غربته داخل محيطه وفي لغته التي لا يملكها؛ وبتعبير الخطيبي فهو معتقل داخل عبارة محددة، عبارة متأرجحة بين الاغتراب واللااغتراب داخل فضاء الهوية المخدوشة.. الهوية التي تحضر فيها الذات من خلال التمثلات السلبية فقط وتقديمها بشكل غرائبي وفلكلوري من خلال الإصرار على تحويل الثقافة المحلية إلى “صندوق عجائب” وتقديم صور عن البلد الأصلي وكأنه من كوكب آخر وفق منطق السوق وطلب المتلقي الغربي. وخير الأمثلة ما تقدمه عناوين مالك شبل في هذا المجال، التي تأرجحت بين “الجسد في الإسلام” وموسوعة الحب في الإسلام، و”الشهوة”، و”موسوعة المحبين في الإسلام”، و”العبودية في أرض الإسلام”، وصولا إلى مقاربة النص الديني وترجمته.
وفي الأدب نجد فؤاد العروي، أحد مهندسي النموذج التنموي المنتظر، يحرص على تصوير الذات من خلال زوايا الانحلال والفحش والرذيلة، وتمجيد الآخر الفرنسي، مستعملا أسلوبه الساخر اللاذع في روايته “سنة عند الفرنسيين”، ليروي لنا تجربة الطفل “مهدي” الذي يراد له الاكتشاف الصادم لنمط عيش الفرنسيين الذين يعيشون في الرفاهية ويتناولون أشياء لا تؤكل، ويتكلمون بحرية. أما عبد الله الطايع فقد اختير مرتين للحصول على جائزة “الرينودو” الفرنسية وكل أعماله مستوحاة من حياته التي عاشها، والتي تتمركز حول تجربته كعربي لوطي (شاذ جنسيا).
لذا منحت هذه الأصوات مكانة هامة في فضاء البروباغندا الفرانكفونية، واعتبرت نماذج لتصوير المجتمعات المغاربية من خلال مكوناتها الشعبية، بل والمنافحة عن الأجندة الفرانكفونية. فما الذي يوفر لأعمال بنجلون والطايع وفؤاد العروي والدبوز ومن يدور في فلكهم قيمة الانتشار ويمنعها عن غيرهم من الأصوات الأصيلة؟. قد نسابق إلى الجواب بأن الأمر يتعلق بسوق تتحكم فيها دور نشر ومؤسسات إيديولوجية تنتقي ما يوافق انتماءاتها ومعتقداتها؛ فالإبداع بالفرنسية كما عبر الطاهر وطار تختص به نخبة معينة تكتب لعوالم غربية بشروط غربية، ودور النشر والمؤسسة الثقافية هي التي تنتقي الأساليب والمواضيع.. لذا فالمتلقي الفرنسي هو المحدد لمضمون وشكل الإبداع.
وتكفي القراءة العرضية لرواية “ليلة القدر” للطاهر بن جلون التي فاز بها بجائزة الكونغورد وسوقت بشكل أكبر لأن الكاتب اختار التعريض بعدد من القيم الروحية، والأخلاقية والاجتماعية للمغاربة المسلمين، وقبله إدريس الشرايبي، الذي كتب روايته “الماضي البسيط”، على شكل سيرة ذاتية صور فيها المجتمع المغربي بشكل سوداوي، وخصوصا في طفولته التي قضاها بالكتاب (بفاس)، متحدثا عن قسوة المعلم والانحرافات الجنسية والأخلاقية والتخلف الاجتماعي الذي يحف بالمؤسسة. “وقد أعطت هذه الرواية آنذاك ذخيرة سياسية حية لليمين العنصري الاستعماري الفرنسي الذي كان يطالب بتمديد فترة الحماية للمغرب بحجة أن (فرنسا) لم تتم رسالتها الحضارية بعد في المنطقة”، كما قال أحد الكتاب.
إن ما قام به الكوميدي الدبوز هو جزء من مسار إبداعي طويل من البحث عن مكان تحت شمس الآلة الفرانكفونية. لذا فالتوظيف الإيديولوجي والثقافي لمعطيات الذات في جلب المتلقي بحثا عن القبول وأشياء أخرى يمنح هؤلاء المبدعين القدرة على الحضور الإعلامي والاستفادة من ماكينة الدعاية دون القدرة على تمثل حقيقة الانتماء وهويته وشروطه. إنها الهوية المخدوشة بتعبير الخطيبي.