أحمد عصيد
هذه محاولة لقراءة ظاهرة سلبية من ظواهر التخلف الذي تتخبط فيه بلدان شمال إفريقيا والشرق الأوسط، التي تجمع بينها وضعية الفشل في بناء نماذج تنموية ناجحة، فظلت عالقة بين الماضي والحاضر، ما جعل المستقبل يظلّ أسئلة حيرى ومزيجا من القلق والتوجس.
كانت بداية الظاهرة في مصر المحروسة، حيث بفضل ريادة هذا البلد إقليميا، عرف ظهور أكبر عدد من الدكاترة المتخصصين في مجالات العلوم المختلفة، وخاصة منها العلوم الدقيقة. وكثير من هؤلاء حصل على شهادته الجامعية من بلد أجنبي متقدم، ما يجعل منه إطارا تعقد عليه الآمال في المساهمة في تطوير البحث العلمي في وطنه. لكن ما حصل هو أن بعض أولائك الدكاترة انعطفوا من العمل في تخصصاتهم العلمية إلى الانشغال بالدعوة الدينية، بعد أن وقع استقطابهم من طرف حركات الإسلام السياسي، التي عملت على اختراق كل المجالات استعدادا لمشروعها الطوباوي الكبير : استعادة الدولة الإسلامية بمقوماتها القديمة.
وقد أدى الانخراط الإيديولوجي لهؤلاء الدكاترة إلى دفعهم إلى محاولة جعل تكوينهم العلمي في خدمة الهدف السياسي للجماعات الدينية الإخوانية أو السلفية الوهابية. وبما أن المعارف العلمية التي يحملونها ليست لها أية صبغة دينية كما أنها لا تقبل بطبيعتها أي تأويل من خارج التخصص الدقيق الذي تنتمي إليه، فقد اضطر هؤلاء الدكاترة إلى القيام بجهد في محاولة توظيف معارفهم العلمية في خدمة أغراض “الدعوة”، عبر محاولة تقريبها من بعض المضامين الدينية، التي لا علاقة لها في الحقيقة بالمجال العلمي، أو عبر البحث في الدين عن مضامين يحاولون تبريرها علميا دون أن تكون مبررة فعلا. ما أدى بهم إلى بذل جهود كبيرة دون أن يضيفوا أي شيء إلى المجال العلمي.
نحن هنا أمام أشخاص يحملون ألقابا علمية منحتها إياهم جامعات أجنبية، يكونون بلا شك مفيدين عندما يتحدثون في دائرة اختصاصهم العلمي، لكنهم يفضلون مغادرة تكوينهم العلمي الأصلي نحو الاهتمام بقضايا خارجة عن نطاق العلم الذي درسوه، مما أدى إلى مجازفات أحدثت أضرارا بليغة في عقول الناس، أبسطها إلهاءهم عن العناية بالعلوم الحقيقية وتطويرها محليا، ودفعهم إلى اللهاث وراء خرافات وأساطير لا أساس لها، كما كانت لهذه التوظيفات الإيديولوجية انعكاسات سلبية حتى على صحة المواطنين ومصالحهم.
وبسبب انتقال الإيديولوجيا الإسلاموية من المشرق إلى المغرب، فقد انتقلت معها جميع الظواهر المرتبطة بها ومنها ظاهرة “الدكاترة ـ المشايخ”.
عندما نحاول تحليل هذه الظاهرة فسنجد أنها تعكس مأزقا حضاريا كبيرا تعاني منه البلدان الإسلامية، فأول مشكل يعترضنا هو ضعف هذه البلدان في إنتاج المعرفة العلمية محليا بمعاييرها الكونية، حيث لا تخصص لهذا النوع من الأبحاث الدقيقة إلا ميزانيات ضئيلة تتراوح بين % 1،0 و %8،0 لا غير، ما يجعل الدكاترة المتخصصين عاجزين عن الإسهام الفعلي في تطوير البحث العلمي في أوطانهم بسبب نقص الإمكانيات الضرورية، وانعدام المناخ المشجع على العمل المختبري والتجريبي، ومن نتائج هذا الوضع انقسام هؤلاء الدكاترة إلى ثلاث فئات:
ـ فئة تعود من حيث أتت، لكي تساهم في مختبرات البحث العلمي الغربية، وتحصل على جنسية تلك الدول وتسجل اجتهاداتها واكتشافاتها باسم بلدان أجنبية. وهذا يدخل ضمن نزيف الأدمغة الذي يُعدّ من أسباب ترسيخ بنيات التخلف الفكري والصناعي والتقني في البلدان الإسلامية.
ـ فئة تضطر إلى قبول الأمر الواقع والاشتغال في معاهد الوطن وجامعاته في حدود الإمكانيات المتاحة، وبمردودية ضئيلة.
ـ وفئة ثالثة تتحول إلى “المشيخة” وتفضل الانخراط في مشروع الإسلام السياسي، مما يؤدي بها إلى التخلي عن تخصصها الأصلي جزئيا نحو الاهتمام أكثر بالتأطير الإيديولوجي باستعمال الدين.
هذه العينة الأخيرة من الدكاترة التي تتمتع بلا شك بكفاءة وتكوين علميين في مجال تخصصها، لا تضع نصب أعينها تنمية المعارف العلمية عند الآخرين، بل يصبح همها الرئيسي تأويل العلوم في خدمة الإيديولوجيا الدينية، وتأويل بعض المضامين الدينية لإعطائها شرعية علمية، بعد أن بدأت تهتز في عصر العلوم والتكنولوجيا والثورات الديمقراطية وحقوق الإنسان.
وسوف نلاحظ بأن المضامين الدينية التي يتم الاهتمام بها من طرف الدكاترة ـ المشايخ لإعطائها شرعية علمية هي تلك المضامين بالذات التي أصبحت تهتز أمام المعارف العلمية في عصرنا، وخاصة منها ما يتعلق بالمجال الطبي مثلا، كما هو الحال عندما يتحدث مختصّ في علوم التغذية عن بول البعير أو روثه بشكل إيجابي، في الوقت الذي أعلنت فيه منظمة الصحة العالمية خطورة تلك المواد السامة على صحّة المسلمين، وعوض أن يقوم الدكتور الشيخ بجهد تنويري لتنبيه المجتمع إلى الموقف الطبي الدولي بوصفه عالما متخصصا، جعل هدفه الأسمى الانتصار لأخبار البخاري ومسلم التي تعود إلى 1200 سنة، باستعمال قناع العالم المتخصص، وهنا يحصل الضرر الذي لا يمكن تفاديه، حيث يذهب كثير من المواطنين ضحية ثقتهم في “علم” الدكتور وتخصصه، لا ضحية مشيخته التي لا مصداقية لها.
وقد يُصبح الأمر أكثر خطورة عندما يعاكس الدكتور ـ الشيخ نصائح الأطباء والعلماء الحقيقيين، بل وحملة الدولة نفسها التي تهدف إلى حماية صحّة المواطنين، بالقول مثلا إنه يمكن للمرضى بالسكري وبأمراض أخرى مزمنة صيام رمضان بدون اكتراث بنصائح أطبائهم، بل يمكنهم “الصيام على حسابه”، أي أن النتائج مضمونة مائة بالمائة، كما لو أنها خرجت للتو من مختبر تجريبي، بينما يتعلق الأمر بموقف متهور لا يتمتع صاحبه بأي شعور بالمسؤولية.
إن شرعنة الشعوذة والخرافة باللقب العلمي هو من أسوأ أعمال الدكاترة ـ المشايخ، الذين استفادوا من الرواج التجاري لكلامهم في سوق “الدعوة”، لكنهم لم يسبق لأي منهم أن نشر موقفه ذاك في أية مجلة من المجلات العلمية المتخصصة، لأن المجتمع العلمي لا يمكن له قبولها، كما لم يسبق لأي منهم أن تقدم بأطروحاته الدينية لنيل جوائز العلوم الكبرى، التي يستأثر بها العلماء الحقيقيون، وتخضع لمعايير علمية صارمة.
إن ظاهرة الدكاترة المشايخ هي من الحلول التي أوجدها الإسلام السياسي لمعادلة التأخر التي تعاني منها بلدان المنطقة، فإرساء أسس النهضة العلمية بأسسها الكونية ليس في صالح الإسلام السياسي، لأنه يساهم في نشر المعارف العلمية في المجتمع، كما أنه مرتبط بالنظم والاختيارات الديمقراطية ويشكل حزاما واقيا من الخرافة والتفسيرات القديمة، بينما يعمل الإسلام السياسي اعتمادا على الفقه القديم، وكل ما يرتبط به من روايات وثوابت ومنهج تفكير، وهذا ما أدى به إلى اللجوء إلى التلفيق عبر محاولة إلباس علوم الغرب وابتكاراته لبوسا دينيا، ما يؤدي في النهاية إلى فقدان الإثنين، فقدان العلم والسقوط في الخرافة، وفقدان الدين بتعريضه للنقد والتحليل المنهجي. والنتيجة استمرار هذه البلدان في استيراد التكنولوجيا المصنعة والأسلحة بأثمان باهظة، وإغراقها في مظاهر التدين السطحي التي أفقدت هذه المجتمعات قيم المواطنة وأخلاقها النبيلة، كما أفشلت مسلسل انتقالها إلى دمقرطة سياسية مترسخة.
يدخل عمل الدكاترة المشايخ في دائرة معاكسة الإسلام السياسي للغرب المتقدم، ومحاولة تملك المعارف العلمية وتوظيفها لصالحه، لكن النتيجة أن تلك المعارف عندما يتم توظيفها في غير مجالها وبغير منطقها تنقلب إلى ضدّها تماما، أي أنها تصبح ثرثرة فاقدة لأية مصداقية.