أحمد عصيد
خلال العشرين عاما الأخيرة، كتبتُ مقالات عديدة عن معاناة الجالية المسلمة مع التطرف الوهابي والإخواني الذي صار يُهدّد مستقبلها ومصالحها وأمنها ببلاد المهجر، وتنبأت في بعض تلك المقالات بما يحدُث اليوم من تحرك المسؤولين في الغرب لاتخاذ تدابير لمواجهة الإسلام الراديكالي في بلدانهم، فيما يلي بعض تلك المقالات التي نشرت فيما بين 2006 و20014، من باب التذكير الذي ينفع أولي الألباب:
النص 1: “ناقوس الخطر الذي دُق في أنكولا”
في يوم 24 نوفمبر 2013 شرعت أنغولا البلد الإفريقي في هدم مساجد المسلمين بحُجة عدم وجود تراخيص قانونية لبنائها، غير أن تصريح وزيرة الثقافة في أنغولا “روزا كروز دسيلفا” كان أكثر وضوحا عندما أعلنت أن أنكولا قررت “منع ممارسة شعائر الإسلام على ترابها”، كما أعلنت أن الدولة ترفض تسليم أية رخصة لبناء مسجد بدعوى “أن المسلمين المتشدّدين غير مرغوب فيهم على أراضيها”.
قمت بالربط بين الحدث الإرهابي الخطير الذي عرفته باريس وبين ما حدث بأنكولا، وتساءلت عن مستقبل الجالية المسلمة في بلدان العالم، في حالة استمرار تصاعد المدّ الإرهابي الذي يحظى بشبكات ضخمة من أموال البترول (البترول العربي الذي فشل في بناء الحضارة فانقلب إلى هدمها).
ففي أنكولا تعيش أقلية مسلمة تعدادها حوالي 100 ألف نسمة، كانت تحظى باحترام الجميع، إلى أن بدأت العربية السعودية قبل حوالي ربع قرن تبعث بمدرسي اللغة العربية وأئمة مساجد مكونين على العقيدة الوهابية، عندئذ بدأ الشعب الأنكولي يلاحظ ظهور تغيرات كبيرة بالتدريج على سلوك المسلمين وعقيدتهم، حيث شرعوا في الانتقال من الديانة السمحة الوسطية التي ورثوها عن آبائهم، إلى اعتناق المظاهر الفلكلورية للوهابية السعودية في اللباس والعادات وفي معاملة الآخرين، وهو ما أجّج مشاعر الكراهية ضدّهم بشكل كبير، وعرّضهم لمخاطر الاضطهاد المرشحة للتزايد مستقبلا.
حظر الإسلام بصفة رسمية وهدم مساجد المسلمين بقرار من السلطات أو بدعم منها ظاهرة غير مسبوقة، لكنها مرشحة للانتشار مع تزايد تهديد استقرار وأمن العديد من البلدان بسبب التطرف الجهادي الإسلامي، وهو ما قد يضع العالم من جديد أمام محكّ حروب دينية جديدة بعد أن طوت البشرية هذه الصفحة الدامية إلى غير رجعة.
أمامنا المعطيات التالية التي يمكن أن تؤكد المخاوف التي عبرنا عنها: هناك تزايد ملحوظ لمظاهر التشدّد الديني في أوساط الجالية المسلمة وللجهاديين بالدول الغربية بسبب أزمة الهوية المعرقلة للإندماج، وكذا الإغراءات الكثيرة والتي أهمها المال الوفير الذي تغدقه العشائر النفطية بذريعة نشر الإسلام والتبشير به، وهو ما يقابله بشكل آلي تزايد نفوذ اليمين المتطرف المعادي للأجانب وللمسلمين بالدرجة الأولى، وقد أصبحت ألمانيا، أقوى دول الاتحاد الأوروبي، مسرحا أسبوعيا لتظاهرات علنية ضدّ تواجد المسلمين على أراضيها، حتى أن الإحصائيات كشفت عن أن عدد السكان الألمان غير الراغبين في تواجد المسلمين بين ظهرانيهم بلغ 13 في المائة، وهو رقم مُهول، كما تزايدت أصوات اليمين المتطرف بفرنسا من 2 في المائة إلى 19 في المائة، مع العلم أن هذا التيار مرشح لأن يحصد المزيد من الأصوات في الانتخابات القادمة بعد الذي جرى لـ”شارلي إبدو”، وما قد يحدث في أماكن أخرى من فرنسا أو أوروبا، كما أن دول الشمال الأكثر استقرارا ورفاهية مثل السويد عرفت بدورها ظهور سلوكات غريبة من أبناء الجالية المسلمة، تعبر عن كراهية كبيرة لغير المسلمين، وهي سلوكات بدأت تلقى الكثير من الاستهجان والاستنكار من أغلبية السكان.
ومن البديهي القول إن الأمر لا يتعلق هنا بالدين الإسلامي تحديدا، فالجالية المسلمة قضت عقودا طويلة في الدول الغربية دون أن تثير أية قلاقل، لكن الأمر يتعلق بظاهرة جديدة هي الإسلام السياسي الحامل لإيديولوجيا تدعو بشكل صريح إلى العمل على هدم أسس الدول الديمقراطية وتحويلها إلى دول إسلامية عبر التوالد والتكاثر وممارسة كل أنواع الضغوط باستعمال قيم الديمقراطية نفسها، من أجل فرض التوجهات المتشدّدة على مجتمعات بنيت أساسا على فكرة الحرية، ومن أخطر الوسائل المستعلمة الإرهاب المادي والعنف المباشر.
مما لا شك فيه أنّ الجالية المسلمة ستعرف أياما صعبة مقبلة، إذ سيكون من العسير على الأوروبيين التمييز بين الإسلام وبين الإرهاب مع توالي ضربات هذا الأخير، كما أنه لا يكفي القول إن “السلوكات الإرهابية غريبة عن الإسلام”، ما دام الكثير من أبناء الجالية المتدينين يساندون ويباركون هذه الأعمال سواء في نفوسهم أو علانية، لكن من المؤكد كذلك أن الإرهاب موضة عابرة وغيمة لا بد أن تنقشع، والمطلوب بذل جهود كبيرة من أجل التقليل من الخسائر، بتطويق الظاهرة ومحاصرتها، وتكوين أبناء الجالية على قيم الاندماج الإيجابية والتعايش السلمي وقبول الاختلاف، ومراقبة المساجد وتحييد الدعاة والخطباء المشبوهين والمرتبطين بمراكز الإرهاب، وإقرار قوانين رادعة تسمح بمحاسبة كل من حاول تبرير أو نشر التوجهات الإرهابية.
النص 2: “إسلام الجالية”
زُرت هولندا بدعوة من جمعيات مدنية ينشط فيها مغاربة أمازيغيون من
الجالية، كان موضوع اللقاء هو “الإسلام و الديمقراطية”، و كان هدف
النشطاء المنظمين للقاء هو معرفة الطرق الناجعة لمواجهة التطرف الديني للإسلاميين
بالمهجر، و البحث عن حلول لمعضلة الإندماج التي تشغلهم، خاصة بعد أن أصبح معظم
أبنائهم مهدّدين بالإستقطاب من طرف مجموعات دينية تستعمل المسجد لاصطياد ضحاياها
من الشباب الذين يعانون تمزقا داخليا مصدره التربية التي يتلقونها داخل أسرهم
بالأساس. بدأ المشكل قبل سنوات عندما تمّ تسريح عدد كبير من العمال المغاربة الذين
كانوا يعملون بالمعامل الهولندية و لدى الشركات الكبرى بسبب تفاقم الأزمة
الإقتصادية التي سببتها العولمة، مما جعل هؤلاء العمال يتواجدون بين عشية و ضحاها
في بطالة مزمنة ألقت بهم داخل المساجد بأعداد كبيرة، فصاروا لقمة سائغة في أفواه
الخطباء الذين يعملون بتنسيق مع مجموعات إرهابية، و النتيجة هي أنّ معظم مرتادي
المساجد أصبحوا يحملون أفكارا غريبة غاية في العنف ضدّ المجتمع الهولندي، و لأن
الكثير منهم كان يصطحب أبناءه إلى المسجد فقد أصبح جزء هام من أبناء الجالية
المزدادين بهولندا حاملين لمعتقد غريب عن وطنهم الأصلي المغرب و عن هولندا ، ولكنه
معتقد و ثيق الصلة بعوالم العربية السعودية و باكستان و أفغانستان و غيرها من
البؤر المتوتّرة، و جحور التطرّف الوهّابي.
هكذا لم يعد إسلام الجالية هو الإسلام الذي عرفه الجيل الأول من
المهاجرين، أصبح إسلاما مختلفا تماما، إسلام خطباء المساجد المفوّهين و الجُهال،
إسلام المجموعات الغامضة التي لا تمارس أي عمل ظاهر رغم أنها تتصرف في ملايين
الأورو شهريا بغير حساب، إسلام أولائك الذين جعلوا دروس اللغة العربية تتحول كليا
إلى دروس في التطرف و الكراهية و تحجيب طفلات لا يتجاوزن السادسة و الثامنة من
عمرهن، و جعلوا أعضاء آلاف العائلات المغربية الأمازيغية ينهلون أسبوعيا من “علم” خطيب الجمعة و هو يدعو الله أن يُرمّل نساء الكفار و
يُيتّم أبنائهم و يجعل أموالهم غنائم للمسلمين، قبل أن يبتز المصلين و المصليات
الذين يغادرون المسجد و قد تركوا كمية كبيرة من الذهب و المال فوق بساط على الأرض
دون أن يعرفوا حقيقة ما يريده بها الإمام و الذين وراءه. إسلام جعل مغاربة المهجر
يعيشون يوميا على إيقاع القنوات الإرهابية التي تضخّ في أدمغتهم مقادير هائلة من
الفكر الظّلامي الذي يدفعهم و أبناءهم إلى مزيد من الكراهية لوطنهم الأصلي المغرب،
” الذي لا يطبق الإسلام على حقيقته”، و لوطنهم المضيف لهم هولندا البلد
العريق في الحريات، و يجعل اندماجهم أو عودتهم إلى وطنهم من ضروب المستحيلات.
إن إسلام الجالية إسلام لاإنساني، إسلام غريب و لا متسامح، إسلام
لا يستحقّ أكثر من المواجهة و إعلان الحرب عليه من طرف الجميع داخل الدول الغربية
الديمقراطية إلى أن يعود إلى باديته الأصلية، لإنقاذ أبناء جاليتنا من مستقبل مظلم.
عُدت من هولندا مهموما بأوضاع الجالية التي تمزق أبناؤها بين آفتي
المخدرات و التطرف الوهابي، حيث تصل أزمة الهوية ذروتها عندما لا يجد آلاف الشباب
أية بوصلة للإهتداء، فتتخاطفهم أيادي المتطرفين الذين ينعمون بكل الوسائل المادية
للإيقاع بضحاياهم بدون كبير عناء. فالمسجد في بلاد المهجر لا يمثل مكانا للتعبد
بقدر ما يعتبر ملجأ من التمزق الروحي و الضياع الذي يعصف بالجيل الجديد على
الخصوص، حامل الجنسية الهولندية بدون أي شعور بالإنتماء. فداخل المسجد يستطيع الخطيب السوري أو الأردني أو السعودي أو حتى
المغربي أحيانا أن يهب المرجعية، و يهب الإنتماء، فيخرج المسلم المغربي كما لو أنه
ولد من جديد، مسلما حقيقيا ذا قضية مقدسة، و هي “إعلاء كلمة الله” وسط
مجتمع من الكفار و المفسدين، و عندما يعجز المسلم الجديد عن تحقيق أي شيء في وسط
مجتمع صناعي حسم منذ قرون في مرجعيته الديمقراطية و العلمانية، تتجه أنظاره ـ
بتأطير من الخطيب طبعاـ إلى المشرق، بلد النور و مهبط الوحي و مسرح الأنبياء، حيث
توجد معارك تستحق التضحية فيها بالنفس و المال، هكذا يوجّه الخطيب أبناء المغاربة
للموت في مجاهل لا يعرفونها، مرسلا أبناءه إلى أكبر الجامعات في أوروبا و أمريكا
لتلقّي أعلى الشواهد في “علوم المادة” (علوم الكفار).
لا شك أن
مغاربة الداخل لديهم من الشواغل والهموم ما ينسيهم معاناة مغاربة الخارج الذين
تُركوا لمصيرهم، لكن هذا لا يمنع من طرح السؤال حول سياسة الدولة تجاه الجالية،
التي تحولت إلى مجرد مورد للعملة الصعبة.
النص 3: “الخطر الحقيقي الذي يُهدّد الجالية المغربية”
مستقبل الجالية المسلمة في الدول الغربية يزداد اكفهرارا وتأزما يوما عن يوم، ليس بسبب تصاعد الأزمة المالية ونسبة البطالة فقط، بل بالدرجة الأولى بسبب تفشي طاعون الوهابية والتطرف الديني الأعمى بين صفوف المهاجرين، بشكل يجعل الكراهية ضدّ المسلمين تتزايد، واليمين المتطرف أكثر مصداقية في أعين المواطنين الغربيين.
ما أورده خالد الحروب مدير مشروع العالم العربي في جامعة كامبردج بإنجلترا، من فقرات مقتبسة من تقرير وارد من كوبنهاغن، يشير إلى تطور الوضع في اتجاه توتر محتمل، قد يؤدي بعد مدة إلى عمليات اضطهاد خطيرة ضد المسلمين، وإلى إشعال نار الفتن في الدول الأوروبية الآمنة، التي حسمت في اختياراتها الديمقراطية منذ قرون، بعد تضحيات جسيمة.
ففي بلدة بضواحي كوبنهاغن تزايدت أعداد المهاجرين فأصبحوا يشكلون أغلبية، وحصلوا على خمسة مقاعد بالمجلس المحلي من أصل تسعة، ونظرا لوقوعهم فريسة التعصب الوهابي فقد رفضوا أن تحتفل الأقلية المسيحية (التي هي على أرضها وفي وطنها) بأعياد الميلاد، مع العلم أن ميزانية ضخمة من ميزانية المجلس المحلي قد صرفت من أجل الاحتفال بعيد الأضحى، حيث صوت أغلبية الأعضاء المسلمين لصالح هذه الميزانية، بينما تحفظوا على تخصيص اعتمادات مالية لإعداد شجرة رأس السنة الميلادية التي تعود السكان وضعها في مكان معين منذ قرون، متذرعين بعدم وجود ميزانية كافية لذلك، وعندما تطوع أحد رجال الأعمال المسيحيين باقتراح تمويل الشجرة من ماله الخاص، انبرى له المسلمون لتذكيره بأن المشكلة ليست مشكلة ميزانية، بل مشكلة “مبدأ”، حيث لا يقبل المسلمون أن يُحتفل بأعياد الميلاد المسيحية في الضاحية التي يقطنونها (كذا !).
في مثل هذه الحالة لا يبقى للسؤال التقليدي حول أسباب ازدياد أنصار اليمين المتطرف وتصاعد “الإسلاموفوبيا” أي معنى، بل السؤال الأكثر وجاهة في مثل هذه الحالة هو: ماذا جرى لأبناء الجالية المسلمة ؟ ولماذا صارت سلوكاتهم مليئة بالكراهية ؟
وراء الموقف الخطير للمسلمين سواء في المهجر أو في البلدان الإسلامية توجد ثلاثة أفكار متشدّدة وتخريبية طالما نبهنا إليها، واعتبرناها مهددة لاستقرار البلدان الإسلامية والغربية على السواء:
ـ فكرة أن الإسلام أفضل الأديان وأن الديانات الأخرى محرّفة لا ينبغي التودّد إلى أهلها أو معاملتهم بالحسنى.
ـ فكرة أن للمسلمين “خصوصياتهم” التي ينبغي للجميع احترامها بحذافيرها كما كانت منذ 14 قرنا بالجزيرة العربية.
ـ فكرة أنّ الديمقراطية هي صوت الأغلبية لا غير، مجرّدة عن قيم الحرية والاختلاف واحترام الآخر والمساواة في الحقوق والواجبات.
ليس ثمة خطر يتهدد مصالح الجالية المغربية في الخارج أكثر من هذه الذهنية الغريبة واللاإنسانية، التي تجعل المسلم الوهابي والإخواني رافضا لكل قيم المجتمع المضيف ومتمسكا رغم ذلك بمكتسباته المادية والاجتماعية والسياسية التي ينعم بها في نفس المجتمع.
سيأتي لا شك زمن المراجعة وسيكون على المسلمين الذين أصابتهم لوثة التطرف الديني أن يختاروا بوضوح وحزم بين قيم الديمقراطية التي تلزمهم باحترام غيرهم والتعايش معه بسلام، وبين نمط العيش الوهابي البدوي، والذي لن يجدوه في بلدانهم الأصلية أيضا، حيث سيواجهون حتى أغلبية من أبناء جلدتهم تذكرهم بـ”الإسلام الأصلي”، إسلام الآباء والأجداد، وعندئذ لن يبقى لهم إلا أن يشدّوا الرحال إلى العربية السعودية التي قد توفر لهم في صحرائها بعض ظروف “العيش الكريم” الذي يتوقون إليه بعيدا عن “الكفار” من المسلمين والغربيين.