خالد الشرقاوي السموني
الملك محمد الخامس، طيب الله ثراه، قاوم من أجل التحرير واستقلال المغرب، والملك الحسن الثاني، طيب الله ثراه، قام بتثبيت ركائز دولة المؤسسات والحق والقانون وتحقيق الوحدة الترابية للمملكة، والملك محمد السادس، قائد ثورة البناء والتنمية، وضع المغرب على سكة القرن الواحد والعشرين، مع ما يتطلب ذلك من عصرنة وتحديث وإطلاق الأوراش التنموية الكبرى والمشاريع المستدامة من أجل النهوض بالعنصر البشري وتوطيد مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان وتعزيز مغربية الصحراء.
ورغم ما حققه المغرب من إنجازات ومكتسبات، تنتظره تحديات الآمال والانتظارات كبيرة، والتحديات كثيرة ومعقدة.
ولذلك، ففي يوم 13 أكتوبر 2017، بمناسبة افتتاح الدورة البرلمانية الأولى من السنة التشريعية الأولى، دعا جلالة الملك محمد السادس في خطابه إلى اعتماد نموذج تنموي جديد، من خلال إعادة تقييم النموذج التنموي الوطني الحالي، ووضع نهج جديد يركز على تلبية احتياجات المواطنين، والقدرة على إيجاد حلول عملية للمشاكل الحقيقية، والقدرة على الحد من الفوارق المجالية وعدم المساواة. وأكد ذلك خلال الخطاب الموجه إلى الأمة، في يوم 29 يوليوز 2018، بمناسبة ذكرى عيد العرش. ثم عاد ليؤكد ذلك في افتتاحه الدورة البرلمانية الأولى من السنة التشريعية الثانية يوم 12 أكتوبر 2018. وفي نونبر من سنة 2019، عين الملك لجنة خاصة، كلفها بالعمل على مشروع النموذج التنموي الجديد في إطار منظور استراتيجي شامل ومندمج.
وفي يوم الثلاثاء 25 مايو من العام الجاري قدمت اللجنة تقريرها أمام جلالة الملك يتضمن خلاصاتها وتوصياتها الخاصة بالنموذج التنموي.
في هذا الباب لن أناقش ما جاء في التقرير من خلاصات مهمة وتوصيات جديرة بالاعتبار، تعكس جهود أعضاء اللجنة من أجل وضع تصور لمغرب المستقبل، مغرب مزدهر، من خلال تشخيص ورصد الواقع المغربي في كافة المجالات، وإبراز مكامن الخلل والنواقص واقتراح الحلول بغية تحقيق التغيير للوصول إلى النموذج المنشود.
فالآن أمامنا وثيقة، تعد خارطة الطريق للنموذج التنموي المنشود ورؤية استراتيجية لبلادنا في أفق 2035، تحتاج إلى تنزيل وترجمة إلى إجراءات وأهداف قابلة للتنفيذ، وفق منهجية يمكن من خلالها وضع برامج ومؤشرات الأداء، وتحديد من الجهات المسؤولة عن عملية التنفيذ والمتابعة الفاعلة، وتحديد الجداول الزمنية، ورصد الميزانيات، وتحديد آلية واضحة للمساءلة عن كل هدف من الأهداف (ربط المسؤولية بالمحاسبة).
فالنموذج التنموي الجديد يقتضي مقاربة تشاركية بانخراط كافة الفاعلين من هيئات حكومية وجماعات ترابية وأحزاب سياسية ومجتمع مدني ومؤسسات عمومية ومقاولات خاصة وكل مكونات المجتمع وحتى المواطنون. لكن تبقى الحكومات القادمة معنية أكثر بهذا النموذج، باعتبارها مسؤولة عن تحديد السياسات العامة وتنفيذها حسب ما يقتضيه الدستور، وأيضا من منطلق مسؤوليتها أمام الملك والشعب، ما يستوجب تكييف برامجها مع أهم الخلاصات التي وردت في التقرير.
فالحكومات، وإن كانت مستقلة في إعداد برامجها انطلاقا من برامج أحزاب الأغلبية المشكلة لها، التي على إثرها تحظى بالتنصيب البرلماني مباشرة بعد تعيينها من قبل الملك، فإنه من الناحية السياسية ينبغي على البرامج الحكومية أن تكون مستوحاة من النموذج التنموي الجديد. فلا يمكن تنزيل ما جاء في التقرير بدون سياسات عامة ومشاريع قانونية ومراسيم تحددها الحكومات القادمة وتعمل على تنفيذها في إطار المساءلة.
هذه المساءلة أو المحاسبة تحتاج إلى إحداث آلية تحت سلطة الملك مباشرة لتتبع النموذج التنموي الجديد وحفز الأوراش الاستراتيجية ودعم إدارة التغيير، من خلال السهر على الانسجام العام والملاءمة الاستراتيجية وحفز ودعم الإصلاحات المولدة للتحولات. وهذا ما أوصت به اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي.
فبدون ربط المسؤولية بالمحاسبة لن يحقق تقرير اللجنة المذكورة أهدافه المستقبلية. فكم من تقارير سابقة، أذكر على سبيل المثال تقارير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي والمندوبية السامية للتخطيط، تضمنت توصيات مهمة لم ينفذ الكثير منها، وكم من دراسات وأبحاث لمراكز التفكير وأطروحات جامعية جاءت بخلاصات ونتائج في غاية الأهمية، لكنها وضعت في الرفوف وصارت منسية.
علينا أن لا نضيع الفرص، لأن تقرير اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي فرصة لإعادة النظر في تدبير وترشيد السياسات العمومية وتقييمها، وفق أهداف محددة وفي إطار التتبع والمساءلة، ما يستوجب تعبئة كل إمكانيات البلاد، وبالأساس وضع العنصر البشري في صلب أولويات السياسات العمومية.
أستاذ بكلية الحقوق بالرباط وبالمعهد العالي للإعلام والاتصال