عبد اللطيف مجدوب
وضعية جد متقادمة
أولاً يجب الإقرار بألا وجود، في الساحة، لهيئة أو جمعية ذات طابع رسمي مخول لها التحدث باسم الفئة المتقاعدة (المحالة على المعاش)، إذا استثنينا بعض الجمعيات المحلية ذات الطابع الاجتماعي الصرف، وقد يكون هذا التشييء واللامبالاة الممارسة في حق هذه الفئة أبرز الأسباب في تهميشها “وإقصائها” من كل خطاب أو بالأحرى حوار رسمي يروم إعادة النظر في معاشات فئة المتقاعدين، واستحضار خدماتهم وما أبلوه من تضحيات جسام في بناء صرح المغرب على أكثر من صعيد.
والخوض في هذا الموضوع، ومحاولة الكشف عن حجم معاناة المتقاعدين حديث ذو شجون، وفي آن يحيل القارئ على الصدمات التي يتعرض لها هذا “الجسم الإداري البالي” والآلام التي يتجرعها في صمت. لكن سنكتفي فقط بإيراد بعض الأرقام الصادمة التي يمكن أن تخِز وتحرك المارد داخل قمقمه.
ذلك أن الفئة العريضة من هذا “الجسم الإداري المتقاعد” لا يتجاوز معاشها 1200،00 د/ش، لم يطرأ عليه تغيير منذ عشرين سنة، والحال أن نسبة ارتفاع تكلفة العيش وأسعار المواد عرفت زيادة بنسب هندسية تكاد تصل إلى 500%، منذ سنة 2000 وحتى الآن 2020، وهي إشارة كافية لرصد مقدار الضائقة المادية والاجتماعية التي تعانيها هذه الفئة. والمفارقة التي يجب أن يستوعبها الجميع هي أن خطاب الحكومات المتعاقبة كان دوما يتوجه بسهام “التهديدات” إلى فئة المتقاعدين عامة، متعللة بأن “صناديق التقاعد” أوشكت على الإفلاس، أو قد نخرها “النمل الأبيض”، حتى أضحى معاشه، في الوقت الراهن، محفوفا بعدة “ظرفيات” غامضة، يتوصل به عبر سياجات من الأسلاك الشائكة، تارة بالإدلاء بـ”شهادة الحياة” وأخرى بحضوره الشخصي، وكأن الحكومة باتت تنظر إليه متنكرة من وراء ستار، ولسان حالها يقول “واشْ مازال عايش؟!”.
كما يتبجح “الصندوق المغربي للتقاعد” ببطاقة المتقاعد، وهي، في واقع الحال، لا تمنح لحاملها حتى ولو شربة ماء، في حين إن الدول الديمقراطية التي تعترف بحقوق هذه الفئة تمنحه بطاقة بامتيازات يسيل لها اللعاب عندنا: تخفيضات هائلة في التسوق والاستشفاء والتنقل… عدا المنح المالية التي تصرفها له الدولة في المناسبات والأعياد، فضلا عن تمتيعه بحق الزيادة في المعاشات إسوة بالفئات النشطة في الأسلاك الإدارية، وتشريفه بالحضور في كل المناسبات الرسمية.
متقاعدون مغاربة في الخارج
يلاحظ المراقبون، لا سيما عند حلول كل مناسبة وطنية بفرنسا، طوابير من المتقاعدين المغاربة زّينت صدورهم بنياشين تم توشيحهم بها على إثر بلائهم في عدة معارك ضمن الجيوش الفرنسية، يتمتعون بحقوق وامتيازات لا مثيل لها في بلدهم الأم، ومتشبثون بالإقامة هناك بالنظر إلى الرعاية الاجتماعية والصحية التي يتمتعون بها، ومنهم من شارف على أعمار متقدمة، ما كان لهم بلوغها لو اختاروا الإقامة في المغرب.
كما يلاحظ المرء، وما أكثر الملاحظات والمفارقات في حق المتقاعدين، أن الأسواق في كندا، على سبيل المثال، تتعامل مع فئة المتقدمين في السن بشكل استثنائي ملحوظ في التخفيض من فواتير الأداء، حتى ولو كان لا يحمل أي بطاقة، مواطنا كنديا كان أو سائحا أجنبيا.
الفكر النقابي المغربي
هناك دراسات وأفكار تراكمية تشير إلى أن حيازة السلطة لدى المواطن المغربي تٌعد أمراً ذا بال، أحياناً يزهو بها داخل دواليب الإدارة ومرافقها، فإذا خسرها أو فقدها لسبب ما كإحالته على المعاش، أُصيب بالاكتئاب.
والفكر السلطوي متجذر بين السواد الأعظم من المغاربة، كنتيجة طبيعية للموروث الاستعماري الفرنسي أولاً ولنموذج التنشئة داخل الأسر المغربية ثانياً، نموذج يقوم على السلطة “الأبوسية”، فيترعرع الطفل داخلها، تواقا لأن يصبح كأبيه، يسود ويحكم داخل الأسرة من غير وجود معارض، لذا وجدنا، وعبر أجيال، أن المواطن يخنع لمقدم الحومة وقائد الدائرة وكل مسؤول يقعد خلف الأبواب الزجاجية!
هذه الرواسب السلطوية مازالت المحرك لكل متعاط لنشاط ودادياتي وجمعوي يروم الإشراف على تنظيم مرفق معين، ويجده تجار الانتخابات إحدى الركائز التي يستندون إليها في جلب أصوات الناخبين، يكلفهم فقط الاتصال برؤساء هذه الوداديات والجمعيات، لما لديهم من سلطة على المنخرطين.
وقد كان إلى عهد قريب التعاطي لنشاط نقابي عادة ما كان يشمل العناصر المشاغبة والمتقاعسة عن أداء عملها الرسمي، تجمعهم، قبل تفرغهم النقابي، صفة مشتركة على اختلاف ألوانهم وانتماءاتهم، هي ” الهدرا وبلا بلا.. والشفوي والغميق”، إذا ما قعدوا إلى جوار مسؤول نافذ في السلطة تذللوا وطأطأوا رؤوسهم، لاسيما إذا ما كانوا يعلمون مسبقا أن امتيازا ما يلوح لهم في الأفق.
ونكاد نجزم بأن المكاتب النقابية، سواء الإقليمية منها أو المركزية، تتحدث بخطاب حماسي فوق العادة، بينما رؤساؤها وأمناؤها العامون إذا ما اجتمعوا في، جلسة تفاوضية، أمام المسؤول رب العمل كوزير أو رئيس الحكومة، فسيكونون مشحونين بالممالأة والانتهازية، ويجد هؤلاء النقابيون أنفسهم مخيرين بين القبول بعرض رب الشغل مقابل امتيازات خاصة لهم، أو التشبث بـ”مطالب الشغيلة”، وفي هذه الحالة لا ينالون لا ناقة ولا جملا، ويبقى التفاوض ماراطونيا بين الطرفين.
فتوقيع الاتفاق الأخير بين الطرفين، الحكومة والنقابات، من المحتم أن يكون حاملا لبذور هذا الفكر السلطوي المتسيب الذي هو في ظاهره “كفاح ونضال الطبقة الشغيلة”، ولكن في جوهره “هادي دْيالك.. وْهادي دْيالي”.