عبد اللطيف مجدوب
كانت الكلمة…
لكم خامرتني أسئلة مضنية حول العبثية التي أضحت العديد من الأقلام العربية تغرف منها أو تصدر عنها، وأنا أمني النفس بالحنين إلى زمن كان فيه القلم مرادفا للسيف، والكلمة أشبه بقوة سحرية.. صادفناها في قرطاس بقارعة الطريق أو التقطناها وأسكناها بشق حائط، والأمر سيان بين أن تكون كلمة من الوحي السماوي أو مجرد كلمة من إفرازات المنابر الإعلامية؛ فقد كانت محل تجلة وتقدير حتى.. إننا مررنا بمرحلة كان المكتوب والمطبوع فيها لا يمكن للشك أن يرقى إليه…
لكن اليوم، ولتراكم السقط والابتذال، أصبحت الكلمة المطبوعة أحيانا تطاردنا حتى ونحن نهم بـ”ترحيض” أمعائنا… ومن يدري فقد يأتي يوم، سنلفي فيه صاحب “الزريعة” يستخدم ورق تقارير حكومة العثماني في تلفيف الحمص أو الكاوكاو .. !
حول هذا الموضوع والسياق، دار حديث لي مع صديق، سخّر قلمه لعقود خلت في أشهر الجرائد والمجلات الغربية ذات الأرقام القياسية في المبيعات:
° حول ماذا تكتب؟
* أنت تلاحظ، معظم كتاباتي تذهب في اتجاهات الرأي وبنائه وتقويمه..
° حتى ولو كان يضر بمؤسسة معينة، اقتصادية أو سياسية؟
* منهم من عرض حلوانا مقابل تصويب اعوجاج سياسته داخل مرفق عام أو شركة متعددة الجنسيات.
° لكنك رفضت، فمن أي منظور؟
* مع تراكم كتاباتك ستصبح حيوانا مدجنا، ولربما عافوك.
° هل شعرت يوما بتهديد من جهة مجهولة، أو رفضت مجرد مقابلة؟
* يقع هذا كثيرا، لكن القانون يقف بالمرصاد لهؤلاء؛ فهناك شرطة حماية الرأي، فتوصيك بتحاشي كل اللقاءات والبرامج المبرمة على الهاتف، ما لم يكن ممثل عن هذه القوى الحمائية حاضرا إلى جانبك.
الحق في المعلومة
° كيف هي مصادرك ومرجعياتك في الكتابة؟
* أصونها ولا يمكن، تحت أي ضغط، الكشف عنها أو القبول بمساومتها، وإلا صرت خائنا للمعلومة.
° من التيمات التي تروج لها حقوق الإنسان وحرية التعبير “الحق في المعلومة”، هل الطريق إليها مفروش بالورود؟
* الأمر يختلف بين معلومة ومعلومة.. فهناك معلومة تعد من أسرار كيان سياسي، فلا يمكنك اقتحامها، على سبيل المثال الملف النووي، وشبكات الاستخبارات العامة، وملف رهائن سياسية…
° هل تشعر بأنك تساهم، من موقعك، في بناء الرأي العام أم أن الاقتصاد جرف الجميع؟
* المواطن في أوروبا، والغرب عموما، يبني مواقفه وقناعاته اعتمادا على متغيرات عديدة؛ منها الميديا والاقتصاد والسياسة والمال.. لكن تمسكه بالميديا يبقى الأقوى بوصفها الكاشفة عن الخط الناظم بين هذه القطاعات كلها.
° اسمح لي باقتحام خصوصياتك.. أأنت متزوج؟
* نعم ولي ثلاثة أطفال.
° وهل نفقاتك تتعايش مع عائداتك من الكتابة؟
* نعم هناك نفقات، ولكن يجب القول إن هناك جمعيات ومقاولات ومنظمات غير حكومية الانخراط فيها يمنح لك امتيازات هائلة..
° أسمع بكتاب طبقت شهرتهم الآفاق، فتربعوا على قلوب الملايين من عشاقهم كباولو كويلو وقبله غارسيا ماركيز..
* شيء عاديّ، هناك نقاد مختصون يقيمون كل منتوج أدبي، فضلا عن دور النشر التي تتولى طبع أو إعادة طبع عمل أدبي كلما لاحظت تزايد القراء على اقتنائه، وفوق هذا وذاك وجود مخرجين سينمائيين يبحثون عن قصص وسيناريوهات.
واقعنا الثقافي وموقع الكلمة العربية
° هل لك اهتمام بالواقع الثقافي العربي، وهل لدينا ثقافة؟
* صراحة لا أجد فيه ما يغري بالاطلاع، لأنها تكاد تكون نمطية.
° هل لكون الثقافة لا تشكل نسيجا للتنمية؟
*الثقافة أو الكتابة بوجه خاص لم تعد تستهوي الأغلبية المطلقة من الجماهير التي لا تقرأ في عمومها، تفضل تعبئة 50 دولارا شهريا للهاتف بدلا من اقتناء كتاب أو مجلة بـ1 دولار واحد.
° هناك كتّاب ضحوا وحاولوا طرق جدار الصمت لقضايا حقوق الإنسان.
* هناك كتاب تساومهم السلطة فيروّجون لأطروحاتها؛ لكنها بالمرصاد لفئة أخرى، تريد أن تجعل منها كبش الفداء. يحدث هذا في النظام العربي؛ فلا تخلو ملفات كل دولة من متابعة صحافي أو مجموعة من الصحافيين.
° الصحافة الورقية عندنا تعيش في احتضار..
* طبيعي، ما دمتم تعانون من التصحر الثقافي، كما أن القطاعات الحيوية بأيادٍ فاسدة، رسخوا الجهل في عقول الشباب وقابلوه باليأس في كل خطواته.
° ما رأيك في التركيبة الجينية العربية؟
* هم كانوا عبر حقب تاريخية وما زالوا يحملون صفة البدائية؛ قدموا بها من مجاهل في الصحراء، مجرد اختلاف طفيف في الكلام أو سوء فهم يحول صاحبه إلى عدو لدود وجب إسقاطه من خشبة المسرح.
° هل يعني هذا وجود “أزمة ثقة”؟
* نعم، تماما هي نتاج طبيعي لسياسة فرق تسد ولأساليب التربية البالية التي تركز كل السلطات بيد الأب.
“كل ما تكتبونه هراء !”
° ما رأيك فيما نكتبه؟
* غير مهتم بها أصلا، لكن ما زالت لديّ قناعة بأن كل ما تكتبونه هراء؛ لا يخرج عن إعادة توصيف الواقع كما تتناوله وسائل التواصل الاجتماعي.
° على ذكر هذه الوسائل، ما رأيك فيها؟
* كانت في عافية؛ لكن من يوم اقتحمتها أجهزة الدولة أصبحت بخطابات ملفقة ومتضاربة تنحو في كل الاتجاهات، كما لو كانت تعتمل داخل دويلات عديدة وليست دولة واحدة.
° برأيك الأولوية التي تراها كفيلة بتجاوز هذه المرحلة العسيرة؟
* هناك قبل كل شيء وحدة بناء المواطن وإعداده لمستقبل تذوب فيه كل الحساسيات السياسية والثقافية والعرقية، مستقبل يكفل الحقوق للمواطن ويجعل منه المادة الأولية لكل نهضة وتنمية.
“العرب ليسوا مؤهلين للاستئناس بأبجديات الديمقراطية”
° ألا ترى في القوى الاستعمارية التي احتلت بالأمس معظم هذه البلدان أنها ما زالت متمسكة بحبل القرارات؟
* نعم إلى حد ما.. فالقوى الاستعمارية ما زالت لها الصدارة واليد الطولى في خيرات هذه الشعوب والقبول بهذه السياسة أو تلك تبعا لمصالحها.
° تلاحظ هناك ما يشبه تناحر بين تنظيمات وجماعات حول السلطة؛ في اليمن وسوريا أو ليبيا …
* هذا ما أكدته آنفا حينما قلت بأن العرب ليسوا مؤهلين لحكم أنفسهم بأنفسهم، إنهم بعيدون عن الأخذ بأبجديات الديمقراطية؛ لكنهم أقرب إلى إبادة بعضهم البعض. لذا، نجد الدول الاستعمارية تراقب المشهد عن كثب، طمعا في خيراته وليس حبا فيهم .
° قضية الفساد، انفجرت أولا بانفجار بيروت، تلته بلاد العراق وتونس والجزائر، فهل هي جديدة قديمة؟
* يصح القول بأن الفساد الهرمي هو المهيمن على كل الأنظمة العربية، والمتحكم في دواليبها، وبمباركة من كائنات سياسية تدور في فلكها، فالفساد هو عنوان الواقع العربي.
° يبدو أني أثقلت عليك، فلتسمح لي بسؤالي الأخير حول ما إذا كان يلوح في الأفق تطهير لهذه الأوضاع المزرية مع دخول فيروس كورونا على الخط؟
* مفاتيح الإصلاح الحقيقية هي بيد هذه الدول الراقدة على خيرات هذه الشعوب، كما أن الإصلاح الجذري يستدعي بالدرجة الأولى إعادة النظر في المواطن باعتباره الخلية الأولى في منظومة كل إصلاح، فضلا عن تطهير دواليب الإدارة، وهو أمر من الصعب تحقيقه دون تضافر مساعٍ إقليمية ودولية.