عبد اللطيف مجدوب
قراءة كرونولوجية
من خلال قراءة في كرونولوجيا (chronology) الانتخابات السياسية التي عرفها المغرب منذ عقود خلت، والخرائط الحزبية التي ترشح عنها، سواء على مستوى الجماعات المحلية أو المجالس الجهوية، أو على المستوى البرلماني والحكومي؛ سنلاحظ متغيرات عديدة ناظمة للمشهد السياسي العام، لعل من أبرزها دعم الحكومة المالي الذي تتلقاه هذه الأحزاب كأداة فاعلة في حملاتها الانتخابوية، فضلا عن استقطابها لناخبين من أوساط مالية واقتصادية، بغض النظر عن مؤهلاتهم الثقافية السياسية أو الحزبية.
كما نلاحظ، وفي حمأة البحث عن الأصوات الناخبة، حركية غير عادية تنشط داخل بنية الأحزاب؛ من خلال تكثيف اتصالاتها بأسماء نافذة في قطاعات المال والتجارة والصناعة، ناهيك عن الشركات الصغرى والكبرى التي لها وزن على المستوى الاستهلاكي العام. أما إذا حاولنا إجراء بحث قطاعي باعتبار المؤهلات العامة التي تفرزها النخب، فسنجد حتما أن مؤشر الثقافة السياسية منحط بقياسه مع مؤشر الحركية الاقتصادية، وفي رقعة جد محدودة لا تغطي كامل التراب الوطني. وفي هذا السياق وللتدليل على محدودية هذه الثقافة، نسوق مثال مادة الحليب التي تتقاسمها شركات منتجة وموزعة، فقد تجد لها اسما في الجنوب المغربي ولا تعثر له على أثر في شماله.
قراءة في دوافع المترشح للانتخابات
في زمن ولى، كانت هناك ترشيحات انتخابية حرة تتخلل المشهد السياسي العام، وإن كانت الحزبية تظل الورقة الفاصلة في التشكيلات السياسية ونفوذها. لذا، تكون هذه الترشيحات الحرة مجبرة على حسمها في اللون الحزبي الذي ستنضوي تحته، في إطار أولوية التقرير السياسي؛ بيد أن السؤال المؤرق يكمن في دوافع ولهث مترشحين، أحراراً ومنتمين، وراء هذه الانتخابات؟ أهو طموح لخدمة الصالح العام؟ أم هو سباق نحو نفوذ سياسي؟ ويصبح السؤال أكثر إلحاحا حينما نعلم بوجود أموال ضخمة ينزل بها مترشحون في ميادين حملاتهم، تصل أحيانا المليارات، وقد تمتد بنا قناعاتنا إلى العثور على أهداف من بينها على الأرجح بلوغ “الحصانة البرلمانية” التي كثيرا ما يحتمي من ورائها هؤلاء للسعي نحو اقتناص مزيد من الامتيازات والنفوذ الاقتصادي، أو الوصول إلى مواقع نافذة تمكنهم من عقد شراكات وتعاون مع رساميل أخرى موظفة في استدرار مزيد من المكاسب والأرباح والنفوذ؛ وهي مساع، وفي جميع الأحوال، لا تخرج عن نطاق “بزنس انتخابي” Electoral Business ، وليس بذات صلة قطعا بالمصلحة الوطنية العامة.
أحزاب أم مواقع لاقتناص الفرص؟
حري بنا الإشارة إلى أن ليس لدينا أحزاب بالمفهوم السياسي، كتنظيمات سياسية مساهمة في تأطير الرأي العام ومراقبة النشاط الحكومي، بقدر ما هي مواقع أو بالأحرى متاجر “سياسية” يخمد نشاطها مواسم سياسية كاملة ولا تنشط إلا عند اقتراب موعد الانتخابات. كما أن هياكلها وتنظيماتها الداخلية مخترقة من طرف جهات نافذة ومتحكمة في انتقاء هذا الأمين العام وتنحية ذاك، علاوة على أن أنشطتها لا تواكب المستجدات؛ فتظل مواقفها من القضايا المركزية والولائية مبهمة وغائبة في جل الحالات، لا سيما إن كانت طرفا في الحكومة. وإذا أجرينا مقطعا في استطلاع عام عن مؤهلاتها السياسية وجدناه بالكاد منعدمة؛ ذلك أن نسبة المؤهلات الجامعية ضئيلة بقياسها مع ذوي المال الذين لهم الأسبقية في اعتلاء كراسي أماناتها العامة، وهي ظاهرة حزبية مشتركة بينها؛ تقضي بإقصاء الكفاءات العلمية.. لذا وجدنا أن معظم هذه الأحزاب، وتقديرا منها لخطورة هذه الحالة، توصي أعضاءها بالإحجام عن الإدلاء بأي موقف أو رأي تجاه القضايا الآنية والمستقبلية، مخافة انزلاقات كثيرا ما تقع فيها ألسنتهم، لا سيما نحو قضايا تمس دول الجوار.
وأخيرا وبعد تشكيل الحكومة والمجالس؟
يلاحظ، وعلى امتداد عقود، أن الصورية (formalism) تظل الطابع الرئيسي في عمل أي حكومة. وبمنأى عن أي برنامج لها، فهناك “سياسة التعليمات” ما زالت المهيمنة على عملها وتدبيرها للشأن العام. لا تتحرك إلا بإيعاز من هذا الطرف أو ذاك من وراء الكواليس، حتى إن مبادراتها باتجاه القضايا الراهنة أو العالقة دوما تظل في انتظار الضوء الأخضر. وغني عن البيان، وفي السياق ذاته، أن هناك كوارث اجتماعية بضحايا عديدة، فقط تسترعي “حوقلة ” الحكومة وطمس الملف بعدها، دون وجود مساع ميدانية لتقييم حجم الحادث، أو البعث بلجان التقصي إلى عين الأمكنة، حتى إن استقبالاتها وزياراتها الدبلوماسية داخل الوطن وخارجه يُعين لها أشخاص خارج صلاحيات الحكومة.
وليس واردا إطلاقا في قاموس العمل الحكومي بند من قبيل: “جلسة طارئة”، “خلية عمل”، “جلسة استثنائية”.. مما يؤشر بوضوح أن الجهاز الحكومي برمته يندرج ضمن “العمل الصوري” الشكلي الخالي من كل فعالية وحيوية؛ أو لنقل إن أنشطة بعض وزاراتها تتحكم فيها “المناسباتية” occasionalism؛ كأن يخرج مثلا وزير في الفلاحة والصيد… مع اقتراب شهر رمضان أو عيد الأضحى، ليدلي بتصريح بأن “جميع المواد” متوفرة أو أن “رؤوس الأغنام” بالوفرة اللازمة لتغطية حاجيات المواطنين من الأضاحي؛ لكن إذا تعلق الأمر بعطل مستديم في شبكة الأنترنيت مثلا فلا تكترث الحكومة ولا الوزارة بهذا العطب. وبخصوص تعاطيها مع جائحة “كورونا”، فلا نلمس منها إلا الصمت المطبق تجاه سعير أسعار المواد، ولا الضائقة المالية التي أصابت شرائح اجتماعية عديدة.. فقط تترصد تحركات المواطنين لتعلن امتداد حجر التجوال، أو عودة الساعة الإضافية التي إذا نحن حاولنا انتزاع تصريح السيد سعد الدين العثماني، رئيس الحكومة، بخصوصها لقال بالحرف: “والله ما عندي فيها لا ناقة ولا جمل!”.
خلاصة القول إن موسم الانتخابات لا يعدو مناسبة لاستعادة بعض الوجوه لمقاعدها؛ في البرلمان والمجالس المحلية خاصة، وأن الدعم الحكومي للأحزاب إشارة إلى “كل واسكت”، وقد تندرج ضمن خانة تبذير المال العام. وفي هذا السياق، ما زال المغاربة يتذكرون تصريحا للسيد أحمد عصمان، رئيس التجمع الوطني للأحرار سابقا، حينما قال: “ما جدوى الانتخابات.. ما دامت الدولة هي التي تخطط وتنفذ”؛ وهي إشارة قديمة/ حديثة إلى وجود حكومة الكواليس “وراء الظل”، هي التي تمسك بخيوط اللعبة.