كشفت الرسالة التي وجهها الرئيس إيمانويل ماكرون إلى الملك محمّد السادس رغبة واضحة في فتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين من منطلق التعاطي مع الواقع المتمثل في الاعتراف بـ“مغربيٌة الصحراء” و“استحالة تجاوز الدور المغربي أفريقيا ودوليا”.
ردّ العاهل المغربي على الرسالة بالمثل، بل بأحسن منها، بتوجيه دعوة إلى الرئيس الفرنسي لزيارة المغرب من جهة والإشادة بموقفه التاريخي من جهة أخرى. وهو موقف يعتبرُ بيان جزائري، يحتج على موقف باريس، أنّه لم يسبق لرئيس فرنسي أن تجرّأ على اتخاذه. قال محمّد السادس لماكرون “سأكون سعيدا باستقبالكم في المغرب في إطار زيارة دولة يتم تحديد تاريخها عبر القنوات الدبلوماسيّة. أقدّر عاليا الدعم الواضح الذي تقدّمه بلادكم لسيادة المغرب على هذا الجزء من أراضيه وثبات الدعم الفرنسي للحكم الذاتي تحت السيادة المغربية كحل لهذا النزاع الإقليمي”.
تبدو الرسالة الرئاسية الفرنسية، من ناحية الشكل وليس المضمون فقط، بمثابة تقديم أوراق اعتماد للمغرب واعترافا بما تحقّق في المملكة في السنوات الـ25 الماضية، منذ اعتلاء محمّد السادس العرش خلفا لوالده الحسن الثاني. كان الشكل في رسالة ماكرون مهمّا وفي حجم أهمّية المضمون السياسي، خصوصا إذا أخذنا في الاعتبار الأسلوب الراقي المستخدم في التوجه إلى ملك المغرب. يؤكّد الأسلوب مدى دقّة اللغة الفرنسيّة، التي تسمّى أيضا لغة موليير (Moliere) وقدرتها على أن تكون لغة الدبلوماسيّة العالميّة وأن تعبّر بالفعل عن الواقع بتفاصيله الدقيقة بعيدا عن أي مواربة.
كان الرئيس الفرنسي في غاية الوضوح. وضع وضوحه حدّا للبلبلة التي تميّز بها موقف قصر الإليزيه في السنوات الأخيرة التي شهدت محاولات عدّة لاسترضاء النظام الجزائري بكلّ الطرق الممكنة من دون تحقيق نتائج تذكر. اكتشفت فرنسا أخيرا أن لا أمل في ذلك وأن النظام الجزائري غير قابل للإصلاح ما دام تحت سيطرة العسكر وما دام رئيس الجمهوريّة مجرّد واجهة. عبّرت رسالة ماكرون عن يأس فرنسي من إمكان تحقيق انفتاح مع الجزائر في ظلّ إصرار النظام فيها على متابعة سياسة تحميل مرحلة الاستعمار الفرنسي كلّ مصائب البلد مع تجاهل تام لواقع أنّ هذا الاستعمار وراء رسم الحدود الراهنة لـ“الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية”.
عبّر اعتراف فرنسا بالواقع الجديد في شمال أفريقيا، وهو واقع عمل المغرب من أجل تكريسه طوال أقل بقليل من نصف قرن، عن تصالح فرنسا مع نفسها قبل تصالحها مع المغرب. تتصالح فرنسا مع واقع جاء ثمرة عمل دؤوب بدأ في مرحلة ما قبل “المسيرة الخضراء” في تشرين الثاني – نوفمبر 1975. أعدّ المغرب نفسه، في تلك المرحلة التي كانت إسبانيا تعيش فيها الأيام الأخيرة من عهد الجنرال فرانكو وتستعد للانسحاب من الصحراء، لاستعادة الأقاليم الصحراوية المحتلة. جاءت “المسيرة الخضراء” التي شارك فيها ما يزيد على 350 ألف مواطن مغربي تتويجا لجهود بذلها الحسن الثاني الذي فهم باكرا كيف تسير الأمور في إسبانيا وفي الصحراء. بدل مباركة النظام الجزائري للمغرب باستعادة أراضيه التي تحررت من الاستعمار عمد إلى شنّ حرب استنزاف على البلد الجار. باستثناء الرغبة في التوسّع والهيمنة لا وجود لأي مبرّر، يمت إلى المنطق بصلة، لتلك الحرب التي يشنها النظام الجزائري على المغرب مستخدما أداة اسمها “بوليساريو”.
لم يفت أوان قيام النظام في الجزائر بعملية مراجعة للذات تتناول المراحل التي مرّ بها البلد منذ حصوله على استقلاله في العام 1962. لماذا هذا الفشل الكبير على كلّ صعيد وكلّ المستويات. فشلت الثورة الزراعية في الجزائر، كذلك فشلت الثورة الصناعيّة. فشلت ثورة التعريب. لم يتعلّم معظم الجزائريين العربيّة وباتت قلّة قليلة تتقن الفرنسيّة. في كلّ ما قام به النظام الجزائري منذ الاستقلال، كان هناك ردّ فعل بدل أن يكون هناك فعل. رفع النظام شعارات كبيرة ذات مضمون فارغ لتبرير الفشل وصولا إلى الانتفاضة الشعبية في تشرين الأوّل – أكتوبر 1988، حين نزل الناس إلى الشارع معترضين على وجود نظام يسيطر عليه كبار الضباط ومسؤولو الأجهزة الأمنيّة.
خلاصة الأمر أنّ رسالة ماكرون إلى الملك محمّد السادس، التي هي عمليا رسالة مراجعة للموقف الفرنسي من المغرب من خلال النظرة المختلفة لموضوع الصحراء ومغربيتها، توفّر فرصة للجزائر أيضا. إنّها فرصة للقيام بمراجعة في العمق للموقف العدائي الذي لا مبرّر له من المغرب. لا فائدة من تحميل فرنسا والمرحلة الاستعمارية مسؤولية الفشل الجزائري الذي ليس بعده فشل. يظلّ أفضل تعبير عن هذا الفشل ما تحدّث عنه دبلوماسيون فرنسيون عملوا في الجزائر عن الازدواجية في مواقف المسؤولين الجزائريين. هؤلاء يهاجمون فرنسا في العلن ويطلبون، في الخفاء، تأشيرات من أجل الذهاب إليها ومن أجل إدخال أولادهم المدارسَ الفرنسية التي لا تزال تعمل في البلد.
لم يقدّم المغرب يوما سوى الخير للجزائر، خصوصا في مرحلة حرب التحرير التي توجت بحصول الجزائر على استقلالها. ليس سرا أن الحكام الجدد للجزائر ابتداء من العام 1965، أي بعد إطاحة أحمد بن بلة، كانوا يشكلون “مجموعة وجدة”. على رأس هذه المجموعة كان هواري بومدين وكانت تضمّ أيضا عبدالعزيز بوتفليقة. مثلما استطاعت فرنسا العودة إلى أرض الواقع، يفترض في الجزائر الاستفادة إلى أبعد ما يكون من رسالة إيمانويل ماكرون إلى محمّد السادس. هذه رسالة تعني الكثير سياسيا إضافة إلى أنّها تكشف حرص البلدين على حماية المصالح المشتركة بينهما. لماذا لا يسير النظام الجزائري على خطى فرنسا ويستفيد بدوره من الانفتاح على المغرب وما يوفره له ذلك من فرص للانتماء إلى المستقبل بدل البقاء في أسر الماضي والشعارات الفارغة… في عالم حضاري تستأهل الجزائر الانتماء إليه؟ لماذا الهرب من الواقع بدل التعاطي معه بشجاعة بعيدا عن الأوهام؟
خيرالله خيرالله
إعلامي لبناني