بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
يعترف الإسرائيليون أنفسهم أن كيانهم لم يعد فيلا داخل الغابة، ولا واحةً وسط الصحراء، ولا حلماً جميلاً بين كوابيس مخيفة، وأنهم باتوا يفقدون الصفات التي تحلوا بها، والمناقب التي تفاخروا بها، وبات كيانهم في مهب الرياح حيناً، وتحت العواصف دائماً، وكل شيءٍ حولهم جعل الأرض تهتز تحت أقدامهم، والنيران الحارقة تحيط بهم، والفيلا التي ضحوا من أجلها قد بدأت تخرب من داخلها، إذ فسد حكامها ويأس سكانها، واشتبك قادتها واختلفوا، وقدموا مصالحهم الشخصية على مكاسب “دولتهم” القومية، ولم يعد تهمهم صورتهم الخارجية، ولا هيبتهم العسكرية، بقدر ما يعنيهم إقصاء بعضهم، وتشكيل ائتلافٍ يحكم مكان غيرهم، ولعلهم جميعاً يجرون ويتسابقون نحو الهاوية التي تنتظرهم، والقعر الذي سيكون خاتمتهم.
يعرب رئيس الكيان الصهيوني رؤوفين ريفلين عن قلقه الشديد على مستقبل كيانه، الذي بدأ يتفكك سياسياً ويضطرب اقتصادياً، في الوقت الذي يواجه فيه تحدياتٍ أمنية واستراتيجية حقيقية، وقد بُحَ صوته وهو يحذر النخبة السياسية، وفي المقدمة منهم بنيامين نتنياهو وبيني غانتس وحزبهما الليكود وأزرق أبيض، من مغبة التمادي في الخلاف، والعناد على عدم الاتفاق، والإصرار على رفض تقديم تنازلاتٍ مسؤولة في سبيل تشكيل حكومة وحدة وطنية، تتمتع بالاستقرار والتأييد البرلماني الواسع، لتتمكن من مواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية التي تهز أركان الكيان.
أما نتنياهو القلق الخائف على مستقبله، فلا يجد وسيلةً للحفاظ على مكانته، وتأخير محاسبته ومحاكمته، سوى التهويل بالأخطار الخارجية، والتركيز على الاستعدادات الإيرانية، وتزايد مستوى الخطر في الجنوب انطلاقاً من غزة، وفي الشمال حيث حزب الله يشكل قاعدة إيرانية متقدمة، ويمتلك ترسانة عسكرية ضخمة، وعشرات آلاف الصواريخ الدقيقة الموجهة، والتي ستكون جزءً رئيساً من أي معركةٍ قادمةٍ، ويضيف إليها مؤشرات تغير الواقع في اليمن الذي قد يصبح أهم قاعدة صواريخ معادية، تستطيع أن تطال أي هدفٍ بدقةٍ في منطقة الشرق الأوسط.
عزز نتنياهو مخاوفه بتعيين آفي ديختر رئيس جهاز الشين بيت الإسرائيلي الأسبق نائباً لوزير الحرب، بديلاً عن الحاخام إيلي دحام، وسمح له بالمشاركة في اجتماعات الكابينت، وذلك بالنظر إلى خبرته الأمنية ومعلوماته الواسعة وتجربته السابقة، وبتعيينه وحضوره يؤكد نتنياهو مخاوفه، ويعزز موقعه الداعي إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية برئاسته، للتصدي لهذه الأخطار المجتمعة، وإحباط أي جهود معادية لكيانه في المنطقة، ويشيع أن الظرف الحالي المحيط ببلاده لا يسمح بالفراغ السياسي، ولا بالكيدية الحزبية والشخصية، حيث هناك أولويات أمنية وعسكرية متعلقة بالجيش، تتطلب موازناتٍ مالية خاصة، وسيكون من المتعذر في ظل الظروف الراهنة تمرير هذه الميزانيات الملحة للجيش دون وجود حكومة قوية ومستقرة برئاسته.
ويبالغ نتنياهو في تحذيراته ويسلط الضوء أكثر على التحديات التي يواجهها كيانه، لكن عينه على البقاء في منصبه، والاتفاق على حكومةٍ برئاسته، فيشير إلى أن مؤسسة القضاء تعاني من اختلالاتٍ بنيوية وأزماتٍ قانونية، وأنه لا بد من استقرار الأوضاع لتتمكن مؤسسة القضاء من ترميم هيئاتها وإعادة بناء مؤسساتها وملء الشواغر في مناصبها، ويضيف أن الإعلام ليس بمنأى عن هذه الفوضى التي تعاني منها البلاد، فقد اصطفت وسائل الإعلام وأصبحت جزءً من حالة الفوضى والاضطراب، وبات أداؤها يرتبط بأجنداتٍ سياسية وحساباتٍ حزبية، بعيدة كلياً عن الصالح العام لشعب إسرائيل.
ويضيف محذراً من مغبة ركود الاقتصاد الإسرائيلي، إذ لا موازنة ولا قرارات صرف، في الوقت الذي بدأت فيه قطاعات عمالية واسعة بالمطالبة بحقوقها وتحسين شروطها، ولعل ما يعانيه القطاع الطبي وحالة العجز العامة التي تمر بها المستشفيات، حيث لا تحويلات حيوية ولا صناديق صحية قادرة، دليلٌ واضح على أن الأزمات الاقتصادية الأخرى قادمة، ما لم تكن هناك حكومة وحدة وطنية ثابتة ومستقرة، تمارس دورها وتتصدى للمهام العاجلة، وإلا فإن الحراك الشعبي المحيط بالكيان سينتقل إلى الشارع الإسرائيلي، الذي سبق أن انتفض وتحرك ضد التقلبات الاقتصادية السابقة.
أما رئيس أركان جيش الاحتلال أفيف كوخافي الذي خالف السياسات العامة لرؤساء الأركان، وأطلق الصرخة بتصريحاتٍ سياسية غير مألوفةٍ، ورفع الصوت عالياً بقوله “أن غيوماً سوداء تقتحم سماء إسرائيل”، واتفق مع رئيس حكومته نتنياهو بقوله “موجة تهديد تنذر بتحطيم جنة عدنٍ لدينا”، فاختلافات السياسيين وعجزهم عن تشكيل حكومة وحدة وطنية، أو حكومة مستقرة وقوية، تعطي إشاراتٍ واضحة وترسل رسائل مباشرة إلى أعداء “إسرائيل”، أن بلادنا مشقوقة، وأن الأزمة التي تواجهها حقيقية، الأمر الذي يجعل من ساعة الحسم وتنفيذ “المؤامرة” قريبة، ويصرخ كوخافي في وجه الزعماء السياسيين بأن الوضع في الشمال والجنوب هشٌ جداً، وقد يتدهور إلى مواجهة شاملة، مطالباً إياهم بالاتفاق على حكومة قادرة على اتخاذ قراراتٍ مسؤولةٍ، وتستطيع أن تخصص ميزانيات كافية للجيش والأمن.
الإسرائيليون قلقون فعلاً، ويدركون قطعاً أن الأزمة السياسية قد تخلق أزمةً أمنيةً، وأن خصومهم في المنطقة والجوار يدركون مأزقهم ويعرفون ضائقتهم، ويحسنون قراءة الأحداث التي يمر بها كيانهم، ويعرفون أن الصراع القائم بين النخب السياسية ليس صراعاً من أجل صالح شعب إسرائيل، بل هو صراعٌ شخصي ومنفعي، حيث لم يعد في “الأرض الموعودة” آباءٌ حقيقيون لمشروع “إسرائيل”، فهل تشتعل النيران حقاً في الفيلا الإسرائيلية، وتهب العواصف على الواحة المزعومة، وتسقط سارية الخيمة المزروعة عنوةً، وينزع خنجرها المغروس في صدر الأمة، وتنعم الدنيا بدونهم، ويسود الاستقرار والهدوء والأمن والسلام بعد رحيلهم.
بيروت في 30/10/2019
يمكنكم التواصل مع الدكتور اللداوي عبر الإيميل التالي: moustafa.leddawi@gmail.com