د. محمد حماس
لا أعتقد أنه بالإمكان الإلمام بمحطات النضال الوطني من أجل الاستقلال، في بضع صفحات، أو كتب مؤلفة، لأسباب منها غياب الكثير من الشهادات التي حتما ماتت وأقبرت مع أصحابها، أو تلك الحوادث التي لم يرد لها أن ترى النور، حيث خصوم التاريخ كثر. أو تلك الوقائع التي تم تحريفها ليستفيد منها غير أهلها. لأن المقاومين الحقيقيين ظلوا بعيدين عن الأضواء الكاشفة. ولأن أصحابها عانقوا الكفاح وألبسوه لبوس دين، فأضحى جهادا يبتغون من ورائه حظوة عند الله، ومفازة بالجنة. هكذا ضاعت صفحات كثيرة من تاريخ هذا الجهاد. ونحن إذ نذكر ذلك، فليس من باب النفي وإسقاط تاريخ الكفاح الوطني برمته، بل نبغي مقاربته وفق شروط جديدة، وقراءة متأنية غير منحازة لما بين الحوادث والوقائع لاستكشاف ما خفي منها، ومدى استيعاب فكرنا لها. فنحن لسنا بصدد فانطازيا حكائية، بقد ما نحن أمام تاريخ شعب عانى كغيره من براثين الاحتلال، كغيره من دول الجنوب. احتلال استنزف خيرات الوطن، وذبح أبناءه، واستباح أعراضه، وعمل على طمس هويته وثقافته، وأوقعه في ذل التبعية.
كتابة التاريخ محفوفة بالكثير من المغالطات تتطلب توخي الحذر من ألغامها. لأن من حرف التاريخ وزوره قادر على الزج بأجيال لاحقة في سرداب الوهم، والاستلاب الثقافي. الحاجة إذن ملحة لكشف الحقائق مهما كان حجم هولها، لأن التاريخ أسرار من حق الشعب الاطلاع عليها. شعب بدون تاريخ لا مستقبل له.
ثم إن الكتابات التاريخية نفسها تبقى رهن التمحيص، ومنها اليوميات، وما يتم تداوله على صفحات الجرائد، والمواقع، أو المؤلفات، خاصة إذا كانت اليومية تروي وقائع أبطالها قضوا نحبهم، ودون سند وثائقي، أو متكئ علمي سديد ومنهج واضح، يضمن مصداقية المادة التاريخية، بعيدا عن التمجيد.
يبقى طرق مبحث دور العلماء والفقهاء في الكفاح الوطني، ذا أهمية بالغة، لأنه لم يكتب عنهم غير النزر القليل. عبارة عن شذرات متناثرة بين مقالات أو مؤلف غير محبوك. والحقيقة أنه لم يصلنا عن هذه الفئة من المناضلين المغاربة، أو المجاهدين، بكل ما تحمله التسمية من حمولة دينية، إلا شذرات، وهو تاريخ ينضاف إلى التاريخ الذي لم تطلع عليه أجيال من المغاربة داخل المؤسسة التعليمية. ثم إنه تاريخ لا يمكن فصله عن حركة التحرير الوطني، لأنها كل لا يتجزأ. يخشى المحتل المقاومة المسلحة كما يخشى كلمة العلماء والفقهاء التي تعتمد الوازع الديني مرجية لها، باعتبار أن الدين الإسلامي يحث على الجهاد، والمستعمر محتل كافر.
لا غرابة إذن، إذا استهدف المحتل العمق الثقافي المغربي، لأن الثروات المادية هيأ لها شروط الاستغلال والنهب، لكن الغرض من احتلال الأرض لم يكن لهذا الهدف، بل استئصال حضارة الشعب المغربي من جذورها، وطمس هويته، بداية من العقيدة الإسلامية التي تمثل لحمة ائتلاف المغاربة. عمد المحتل الفرنسي للقضاء على الكتاتيب القرآنية التي ظلت منتشرة في الأحياء والمداشر، وفرض الالتحاق بالمدارس الفرنسية التي كانت تقدم برنامجا دراسيا يخدم طموحاتها الاستعمارية. فالمحتل يعي تمام الوعي ما يمثله الإسلام بالنسبة لساكنة الشمال الإفريقي، ومرجعه في ذلك تاريخ الدول التي سادت بهذه الأرض، من مرابطون، وموحدون، ومرينيون، وغيرها من الدول التي شكل الإسلام بالنسبة لها صلب بناء الدولة، ولا يزال. يستحضر المحتل تاريخ هذه الدول بالأندلس لثمانية قرون، فهو يعلم أنه كلما استتب أمر الملك لهذه الأنظمة إلا واتجهت أنظارهم إلى ما وراء المتوسط لنشر العقيدة. مقابل هذا التوجس فإن المغاربة أيضا لن ينسوا تاريخهم بالأندلس والاندحار على عهد ملوك الطوائف، وما أعقب ذلك من تنكيل وتقتيل للمسلمين، والمد الصليبي الذي جاوز كل الحدود.
إنه التاريخ المرير بين حضارتين، شمال جنوب. تاريخ يستمر إلى الزمن الراهن وفق أشكال جديدة، أو ما يمكن اختصاره في التبعية. حيث توفق المستعمر إلى حد كبير في طمس الكثير من معالم ثقافة الشمال الإفريقي، ومنها المغرب.
لأسباب منهجية، أملتها المناسبة وشروط كتابة هذه الورقة، سوف نعرض لبعض رموز هذه المقاومة من فقهاء وعلماء ارتبط تاريخهم بالنضال ضد الاحتلال الفرنسي للتراب المغربي، ليس بالفرنسيين وحدهم، بل كل من كان له نصيب من كعكعة بلاد المغرب وفق المعاهدات المبرمة بين دول الشمال المتسابقة لاحتلال دول الجنوب. وجدير بالتذكير أنه لابد من وضع الأحداث في سياقها: كي لا ننسى، لأن التاريخ لا يحتمل النسيان، والنسيان مفسدة له. دول أوروبا تاريخها استعماري دموي، فلا مجال للتناسي وتمجيد تاريخها وأفضالها وديمقراطياتها. لإنها صانعة المآسي بالعالم على امتداد تراب الأرض وبحارها، ولا تزال على تلك الحال. الجرائم المرتكبة في حق شعوب دول جنوب كوكب الأرض تلغي صفة الإنسانية عن دول أوروبا. فالذاكرة غير قابلة للنسيان. لقد عمدوا لإقبار حضارة وارفة الظلال. وقاموا بتقتيل الشعوب، زمنهم العلماء، في مجالات الفقه والعلوم الإنسانية، ليس لشيء سوى أنهم قاوموا الخطط الاستعماري الشمولي، وانتفضوا ضد الغطرسة والاحتلال، واستماتوا دفاعا عن الأرض والعرض.
نذكر هنا بعضا من هؤلاء المجاهدين، المقاومين:
- الشريف محند أمزيان قائد ثورة الريف ضد الإسبان
في بلاد الريف ظهر المقاوم الشريف محند أمزيان بن أحمد عبد السلام القلعي الريفي الأمازيغي، من مواليد سنة 1859م. كانت تربيته دينية خالصة. تلقى تعليمه بالمسجد، وحفظ القرآن، وتعاليم الدين الإسلامي. ترعرع داخل زاوية ” أولاد أحمد عبد السلام القلعي” بازغنغان قرب الناظور. ثم اشتغل بالتجارة. انعكست هذه التنشئة على سلوكه وتعامله الحميد مع الناس، فاتصف بالأمانة، والاستقامة، والصدق، فكان محترما بين الناس يعودون إليه لتسوية نزاعاتهم، ويتولى كشف طريق ارتحالهم بين المغرب والجزائر، وعند نهر ملوية. كما حظي بثقة زعماء القبائل الريفية. لم يكن لهذه الشخصية أن تتوانى عن خوض غمار الحرب ضد الاحتلال الإسباني، وما كان يلحقه من تنكيل بأهل الريف، فانخرط في خضم هذه المعركة، خاصة بعد إنزال الجيلالي الزرهوني الملقب ب”بوحمارة”، بأرض الريف. وقد عمل الشريف أمزيان مع جنوده على توقيف حركة بوحمارة وفضح أكاذيبه وخيانته، وبيع مناجم الحديد. هكذا عمل الشريف أمزيان على توحيد قبائل الريف تحت راية الجهاد المسلح بدلاية من سنة 1909م، دون دعم من السلطة المركزية، فخرب مسكنه، وصادر المستعمر الإسباني ممتلكاته، فألحق الهزائم بالإسبان المحتلين إلى أن استشهد بسبب خيانة بعض الأهالي …
لقد كانت ثورة الشريف أمزيان الشرارة الأولى للمقاومة الريفية، والتي سوف تستمر بالريف الشرقي مع من جاء من بعده باسم الجهاد، لأن المقومة التي بثها الشريف أمزيان بين قبائل الريف كانت باسم الجهاد بحمولة دينية، حيث يبتغي المقاومون الشهادة مقابل تحرير أراضيهم من المحتل. لقد كان الشريف أمزيان شخصية ذات رمزية دينية. قاوم المستعمر باسم الجهاد حتى الشهادة، دون أن تكون له خلفيات أخرى غير التحرر.
- محمد لعتابي الفقيه الثائر، والديبلوماسي المهاجر ..
ظهر الفقيه العالم محمد لعتابي زمن السلطان مولاي عبد الحفيظ، حين اشتغل كاتبا خاصا لوزير العدل آنذاك، الشيخ أبي شعيب الدكالي. لكنه سيرتحل إلى المشرق سنة 1913م بعد عزل شيخه الدكالي. فتوجه نحو تركيا، واشتغل على قضية تحرير المغرب من براثين الاستعمار الفرنسي، فانضم إلى الجامعة الإسلامية، حيث سيتعرف على الأمير شكيب أرسلان، والوطني التونسي علي باشا حامية، الشيء الذي سيمكنه من التواصل بعدة جهات رسمية من أجل مساعدة المغرب لينال استقلاله.
ينتمي الشيخ لعتابي لقبيلة آيث عتاب بأزيلال، وهي القبيلة التي وسمت تاريخها بمقاومة الاستعمار الفرنسي بشراسة. خريج جامعة القرويين وأحد علمائها. عمد إلى فضح المستعمر الفرنسي في المحافل الدولية، وحث المقاومين على الجهاد، لأن السبيل للاستقلال هو العمل المسلح. غادر تركيا نحو مصر ليستقر بها حتى وافته المنية هناك في خمسينيات القرن الماضي
- محمد القري الفقيه الشاعر الذي عانى التعذيب بسجون المستعمر الفرنسي
تعود أصول الشيخ محمد القري إلى تاونات في قرية بني قرة سنة 1900م. عالم مقتدر. أنشأ “الزاوية الخضراء. دافع عن القيم بواسطة أشعاره وكتاباته. حرض على مقاومة المستعمر، وشارك في التظاهر ضده. جمع بين العلم والدعوة إلى العمل السياسي داخل حزب وطني، ثم للمقاومة لطرد المحتل. فاستحق أن يكون أحد القادة الوطنيين البارزين الذين سيطاردهم المستعمر، ليزج به في في سجن أغبالو نكردوس رفقة زمرة من الوطنيين سنة 1937م، ويمارس عليه شتى أنواع التعذيب حتى الموت. فمعاناة القري يرويها الكتاني في كتابه عن سجن كلميمة، بتفاصيل تدمي القلب، ” تفننوا في تعذيبه والتمثيل به بدعوى إرغامه على الوقوف والسير، فمن ذلك أنهم كانوا يوقفونه بين شخصين ويجعلون الهراوة تحت ذقنه، ثم يزيلون الهراوة من تحت ذقنه فيهوي -رحمه الله – بقوة … وقد تكررت هذه العملية منهم هذه العشية أكثر من عشرين مرة …. و (القوم) يتبارون في ضربه على رأسه وظهره بهراويهم الغليظة حتى وصلوا به للمعتقل” ثم قال متحدثا عن وفاته “وفي هذا اليوم أسلم الروح الشهيد محمد القري رحمه الله، بعدما غاب خمسة ليال وأربعة أيام لا نعلم ماذا جرى له فيها، زيادة على ما وقع بمرأى منا.. فكان موته رحمه الله خسارة لا تعوض ورزية وطنية عظمى ،إذ كان مؤمنا سلفيا صادق الإيمان ،وشاعرا مكثرا ،وكاتبا وخطيبا مؤثرا ،وعلامة لغويا مطلعا متبحرا… إنها ضريبة الحرية والاستقلال التي أداها هؤلاء المناضلون أثناء هذا الاعتقال وقبله وبعده لينعم الوطن بالحرية و الكرامة”. فاستشهد يوم الأربعاء 8 دجنبر 1937م.
د. محمد حماس
(باحث في التراث والتاريخ)