فن الراي …. زواج الأغنية المغاربية بالعالمية بنجاح..

admin
2024-05-10T12:16:40+02:00
كتاب واراء
admin10 مايو 2024آخر تحديث : منذ 7 أشهر
فن الراي …. زواج الأغنية المغاربية بالعالمية بنجاح..


سعيد سونا – باحث في الفكر المعاصر
لاشك أن الأنفاس الحرة في الجزائر الشقيقة ، والذين لهم قدم راسخة في البحث العلمي ، بدون خلفيات نزواتية ، يسعون إلى تقزيم مساحة الاصطدام واللاتفاهم مع المغرب ، وتوسيع رقعة الانسجام والتكامل بين الجارتين الشقيقتين  ،،،،، في جميع الميادين وعلى جميع المستويات  ، فتراهم ينحازون إلى الطرح الذي يؤكد ، أن التقارب بين البلدين ، حتمية تاريخية وضرورة مستقبلية … ولازال هذا الجناح الممتد في كل فئات الشعب الجزائري ،  يواجه مقاومة  خبيثة من الذين يصرون على إبقاء منطقة المغرب العربي منطقة توتر دائمة …. رغم أن دائرة المشترك ووحدة المصير ، هي الحل الوحيد ، لتحقيق تجمع قومي اقتصادي ، يتغدى من وحدة اللغة والدين والتاريخ والتقاليد ، ووحدة المصير …

يقولون أهل الفقه أن الشيء بالشيء يذكر ، وان المناسبة شرط — لذلك اخترنا أن ننحاز إلى الثقافة والفن ، باعتبارهما جسرا لتحقيق المبتغى والغاية ،،،، لذلك فإن الأكاديمي الرصين المسلح بحسن النوايا وبأليات تفكيك المستصعب ، يؤكد بكل أريحية أن الغرب الجزائري والشرق المغربية ، عبارة عن وحدة ثقافية متكاملة من أبسط الجزئيات إلى كل مناحي الحياة ،  ففن الراي بالإجماع هو أبرز عنوان لهاته اللحمة الثقافية بالإضافة إلى باقي الفنون وطباع العيش …


وبالتالي فإن فن الراي فن مغربي جزائري،  أو العكس ، بل أن العالم لازال ينظر إلينا باستغراب شديد ، لكوننا لم نستثمر الى حد الان فيما يجمع البلدين في تحقيق نهضة ، تبدأ بتوحيد الهوية إلى التعاون السياسي والاقتصادي والعسكري ، لكون جلالة الملك نصره الله، له قناعة قارة بأن عودة المياه إلى مجاريها والانصهار في حلم المغرب العربي خيار استراتجي لايمكن التنازل عليه ، لكل عاقل يقرأ المستقبل بعيون واقعية …. في المقابل تجد عصابة العسكر تقف في وجه كل تقارب بين الشعبين ،  عبر تسميم النقاش العمومي في البلدين ، بمعطيات سخيفة ، ذات نفس قصير ، الأمر الذي أكدته كل دول العالم عبر تحيزها للمملكة المغربية العظيمة ، في كل نقاط الخلاف بين البلدين ، مع إشادتها برزانة العاهل المغربي ، وسياسة ضبط النفس التي ميزت مسار الدبلوماسية المغربية …


كان لابد من هذا الاستهلال حتى يدرك الباحث الحصيف ، أن عصابة حكام الجزائر ، يسيسون كل نقاش ، ويشيطنون كل ماهو مغربي ، عكس الشعب الجزائري العظيم ، الذي يعول عليه المغاربة لقلب الطاولة على العصابة ، لمحاربة هدر الوقت ، بغية تحقيق الأهداف التي ينتظرهما الشعبين في عالم متشنج ، لامكان له إلا للقوى المتكثلة ….

إن الدولة المغرب دولة سلم وسلام ، دولة مدنية état civil  ، وليست دولة ذات خلفية دكتاتورية شمولية etat théocratique…. ولهذا تجدها تحتفل مع الشعب الجزائري في كل شيء يفرحه بكل صدق ومحبة ، فالمملكة الشريفة    اعتبرت الغزوة المغربية المونديالية غزوة إسلامية عربية مغاربية … تقوي رصيد الإنجازات العربية في كل المجالات.

ففي الوقت الذي تواصل فيه عصابة العسكر ، الترامي على الخصوصية المغربية ، وبالخصوص الكسكس والزليخ المغربي ، والفن الغرناطي والاندليس ، وكذا فن الراي ، الذي حسم فيه التاريخ ، وممتهنيه من شيوخ وشبان ، من وجدة ووهران مرورا بكل المدن والقرى والمداشر المجاورة لهاته المدينتين ، اللتان شهدتا النسخة الأولى لفن الراي ، في طبعته البدوية ، ففن الراي ابن شرعي بار ، للأغنية البدوية ، وأن اي نشاز ، قد يؤثر على روحانية هذا الفن الذي أسسه شيوخ وقامات فنية كبيرة ، إلى حدود هاته اللحظة ، التي تشهد اقبالا كبيرا ، على التراث الجبلي والبدوي ،،،، فكل نجوم الراي العالميين والمحليين يرددون هاته المقولة ” نحن بدون الفن البدوي المبني على الكصبة wlglal لاشيء ” … سنعود للموضوع  ….

وبعدما استكملت حلقات نجاح فن الراي ، ودقت ساعة ذروته ،،   قرر العديد من نجومه  نقله إلى  العالمية ، عبر الاعتماد على الدارجة المغربية الجزائرية، وبعض الألحان التي تنحذر من البلدين ، خصوصا الشرق المغربي والغرب الجزائري، ودمجهما مع آلات وايقاعات غربية ، مما جعل الراي الفن العربي الوحيد الذي وصل إلى العالمية ….

وتتجلى خلفية فن الراي،  في شخصية الشاب خالد الذي يحمل الجنسية المغربية والجزائرية ، ويقود فرقته العالمية الذي تضم جميع القرات عازف العود المغربي الفنان العبقري عبد الواحد البيضاوي …. حسبكم فأم  أبناء الشاب خالد تنحذر من مدينة وجدة ، فخالد اختزل حقيقة فن الراي ،،،، كما هو الشأن بالنسبة للعديد من فناني الراي الذي تزوجوا من الجزائر والعكس صحيح ….. كما أن جل الفنانين المغاربة والجزائريين ، تشهد فرقهم الموسيقية تواجد خليط منسجم من المغاربة والجزائريين، مما يؤكد أن هذا الفن رمز للتعايش بين الشعبين الشقيقين معا….

—– لكن هناك من يطرح ذلك السؤال الذي يستفز كل المتتبعين لهذا الفن عبر العالم — ماهي الخاصيات التي جعلت هذا الفن يدخل لنادي الفنون العالمية الكبرى ؟؟؟

– في الواقع يتميز فن الراي بخاصيتين أساسيين:


– أما الخاصية الأولى :

فن الراي فن شعبي :

فهو فن متاح للجميع ، فتجد جمهور الراي متكون من الملوك والرؤساء والوزراء والفقراء والفلاحيين وكل الفئات الإجتماعية ، فهذا سر قوته  وتوسعه ، لأنه فن غير نخبوي ، فقد صرح صاحب الجلالة ، لجريدة الشرق الأوسط ، إبان اعتلاءه عرش أسلافه الميامين ، أنه من عشاق فن الراي ،،،، ولهذا لاغرابة أن يسعى فنانو الجزائر للحصول على الجنسية المغربية ، ضف إلى ذلك أن كل الفنانين الجزائريون،  يعتبرون المغرب مصدر قوتهم ، نظرا للمعاملة التي يتلقونها في بلدهم الثاني ، والمقابل المادي المحترم الذين يشتغلون به ….

– الخاصية الثانية :


خاصية العالمية : إن فن الراي كما ذكرنا سابقا،  هو الفن العربي الوحيد ، الذي له صفة العالمية ، نظرا لمرونته واستعداده للانصهار مع أي لون غنائي عالمي ،،،، كما أن خصوبته وثراءه ،  تجعله لذيذا على الأذن العربية والعالمية …


إن حطاب الليل الجزائريين ، يرتطمون بالصداقة التي جمعت ولازالت تجمع الشيوخ الجزائريين بالمغاربة ، فقد اشتغلوا ولازالوا يتعاونون بمحبة في الشرق المغربي والغرب الجزائري ،،،، منذ زمن سحيق إلى اليوم ، بداية بحمادة ، والمماشي ، وعبد المولى وبلخياطي ، والمازوني ، والشيخ لوكيلي ، والتنيساني ، ورمضان ولد جرادة ، والشيخ اليونسي وأحمد ليو ، والشيخ شعيب الذهبي ،  والشيخ النمس ، ولمهري ، وولد ملال ، والصادق الكيلي ، ومنعم ولد القايد والبناظري الشيخ السباعي ، وسعيد الجابري ،  وعبد الرزاق نكادي، والطاحونة ، وحميد المطهري وعمر الجني ، والعيد التاوريرتي  والحطاب ، وبوطيبة ، وزنكار ، والشيخ محمد الصغير الكيلي ، وعبد الوافي الطويل ، والشاعر لخضر الناصري ، عيسى الكيلي ، والطاهر ولد المرحوم والشيخ ابراهيم ، وعدة أسماء أخرى من هنا وهناك ، شكلت تلك اللحمة الحميمية والاخوة بين الشعبين ، فإذا بدأ أحدهم الغناء في وجدة يجيبه الآخر في مغنية أو وهران ، فالمسافة قصيرة وقلوب عصابة العسكر عسيرة ….


لابد أن نبدأ بالشيخ حمادة، مغني جزائري يؤدي الراي البدوي القديم والمعروف بالوهراني ولد في 1889 في مستغانم وتوفي في 9 أفريل 1968 بنفس الولاية. بالتحديد في قرية الطواهرية ويوجد لحد الآن قاعة الحفلات باسمه موجودة في ذات القرية …

يحظى بشعبية كبيرة واحترام من الفنانين ويستمع له شريحة هامة من الشيوخ وكبار السن والمثقفون، ويؤدي القصائد والشعر الملحون والبدوي الذي فية النصائح والعبر عاش فترة من الزمن في باريس وبرلين أين كان يسجل أغانيه وألبوماته هناك. غنى لكبار شعراء الملحون أمثال عبد الله بن كريوْ الاغواطي، وعبد القادر الخالدي، وغيرهما، ومن أشهر أغانيه يوم العيد الوشام الحمام قاضي ناس الغرام قمر الليل …..



1 —– هكذا نشأ «الراي» وهذا هو سرّ تطوّره ….



الموسيقى عندما تنغلق على نفسها ستموت حتما ، هذه علاقة يهود وهران بالأغنية الرايوية
في هذا الحوار الذي لم يسبق نشره يحدّد الباحث والناقد الثقافي في موسيقى الراي، الراحل حديثا، الحاج ملياني نشأة موسيقى الراي بسنة 1975، ويتكلّم في هذا الحوار عن سرّ قوتها واستمراريتها بعد أكثر من أربعين سنة من ذلك التاريخ، رغم أن المراقبين في كل مرة كانوا يقولون بأنها مجرّد طفرة مؤقتة ستزول سريعا.
والحاج ملياني الذي وافته المنية بداية هذا الشهر، كان أستاذا في اللغة والأدب الفرنسي بجامعة «عبد الحميد ابن باديس» بمستغانم، ومن أبرز الباحثين في مجال الثقافات المحلية بمركز «كراسك» بوهران.


– أغنية الراي كان تعريفها واضح إلى حدّ ما، لكنه امتزج بأنواع موسيقية أخرى حتى بدا أنها فقدت هويتها؟
هذا هو الراي، وتلك هي خصوصيته. كثير من الناس يتساءلون لماذا هذا الخلط المستمر بين مختلف الطبوع في أغنية الراي. فهذا النوع من الموسيقى تجد فيه البدوي، ممزوجا مع العصري، وحتى الشرقي والاسباني. في البداية مع سبعينيات القرن الماضي، عندما ظهر ما سمي «البوب راي»، كان هناك هذا المزيج الذي صنع أغنية الراي، أما اليوم ومع التطوّر التكنولوجي حيث يمكنك عن طريق الانترنت الاستماع إلى أنواع موسيقية لم تكن تخطر على بالك قد تجد أثارا لتلك الأنواع الموسيقية في الراي. هذه هي خصوصية الراي، في كل مرة يتمّ إدخال أنواع موسيقية جديدة وكل ذلك في إطار طابع أصلي يعطي لموسيقى الراي خصوصيتها.
– أغنية الراي إذن ليست لها هوية ثابتة؟
الموسيقى عندما تنغلق على نفسها ستموت حتما، أعطيك مثلا، الأندلسي معروف منذ قرون لكنها موسيقى مغلقة، لا يمكن تطويرها وتبدو بلا جديد. لكن الأمر يختلف مع الراي، عندما يأخذ من الأنواع الموسيقية التي تظهر في كل مرة ويعطيها طابعه الخاص، وفي كل مرة يتخلّص من أنواع من الموسيقى لصالح أنواع أخرى تسود في تلك المرحلة، وهنا أشير إلى مسألة أساسية وهي البُعد التجاري في العملية.
وأعتقد أن الراي منذ ظهوره، إلى اليوم عندما أصبح الناس على اطلاع مستمر على الجديد، بعد أن كان الأمر محصورا في زمن «الكاسيت» ما يزال الراي يحافظ على طابعه في إطار أخذه من مختلف الانواع الموسيقية كما أسلفت ذكره.
الأنواع الموسيقية في الجزائر كانت معروفة مثل الشاوي والبدوي والشعبي العاصمي وغيرها، وكانت تلك الطبوع منفصلة عن بعضها إلى أن جاء الراي ومزجها في إطار قالب موسيقي جديد ومختلف.
– أعتقد أن الأمر تجاوز الاستفادة من مختلف الطبوع والأنواع الموسيقية إلى القرصنة. أعطيك مثلا: الشاب حسني يأتي بأغنية لخوليو ويمنحنها كلمات بالعامية الجزائرية، ثم ذهب إلى جورج وسوف ويعمل معه الشيء نفسه دون أي اجتهاد في الموسيقى، كيف نتحدث عن هذه الخصوصية؟
هي قرصنة فعلا، لكن أين المشكلة؟ المشكلة فيمن يستمع ويحكم هل هو الذي يشتري الكاسيت أو السي دي، أم الصحفي والباحث والمتخصّص عموما. الجمهور هو الذي يحكم على الأمر في النهاية. هؤلاء الذين يدفعون مالا في سبيل الحصول على أشرطة أو حضور حفلات، هل يمكن الحكم عليهم بالجهل؟ ما أريد فهمه لماذا الناس يحبذون هذا الأمر مع أن الباحث والمتخصّص يقول بأنه قرصنة؟ حتى الراي في صيغته الأولى الذي ظهر مع خالد وغيره والذي يعتمد على البدوي وبعض القصائد المعروفة، لم يعد يسمعه الجمهور الجديد، هل الأمر يتعلّق بالمغنين الذي لا يعرفون الطابع الأول للراي؟


أعتقد أنهم على معرفة بذلك، لكن الجيل الجديد هو الذي فرض هذا التحوّل. وهنا نصل إلى مسألة مهمة جدا وتتعلّق بتطوّر أغنية الراي دون غيرها من الطبوع الموسيقية الجزائرية، لأن الراي مستمر في اتباع الموضة مع حرصه على قالبه المميز والذي لولاها لما أصبحت أغنية الراي تسمى بهذا الاسم بعد كل هذا التحوّل الذي حدث ويحدث. إنها الخصوصية التي تجعل حسني مثلا يطبع كل الاغاني التي أخذها عن خوليو وغيره بطابعه وببصمته الصوتية، وتجعلني أنا عندما استمع أفرق بين هذا وذاك وأقول هذا راي وهذا ليس براي، أعرف أن هذا ليس راي ولكني أعجز عن إيجاب تبرير لذلك، فقد تجد مثلا أغنية بالاسبانية وأقول هذا راي، وبالمقابل أجد أغنية بالعربية وأقول هذا ليس راي.
– الآن لم يعد الراي واحد، أصبح هناك رأي عاصمي وآخر من الشلف وضواحيها ورأي من الشرق الجزائري، إضافة إلى الراي الوهراني والعباسي؟
هذا هو الشيء الجميل في الراي، لقد أصبح وطنيا، عندما خرج من إطاره المحلي جدا.
– وما السر في الأزمة التي يتكلّم عنها الجميع التي مسّت أغنية الراي، رغم تكيفها المستمر مع عصرها؟
هناك أزمة كبيرة في الأغنية العالمية، ولعبت القرصنة دورا كبيرا في ذلك، كان لنا في السابق حوالي ستين ناشرا موسيقيا.
والراي هو الذي استفاد أكثر من غيره من وجود ذلك العدد من الناشرين لأنه كان يحقّق مداخيل مادية كبيرة، إضافة إلى الأزمة الملحوظة في الأصوات مع طغيان التكنولوجية التي غطّت على فقر المواهب في هذا المجال، ولم نعد نسمع الآن إلا الدي جي.
– الراي عندما اكتسح الساحة في الثمانينات، كان الخطاب الرسمي ينعته ب»الفقّاعة الفارغة» التي سرعان ما تزول، ولكن تلك «الطفرة» استمرت طويلا، لماذا في رأيك؟
أنا عندما بدأت دراستي لهذا النوع من الموسيقى سنة 1981، ساعتها أذكر أن الناس تعجّبوا وقال لي بعضهم، ألم تجد ما تفعله؟ لماذا تهتم بنوع موسيقى سيختفي بسرعة، والآن وبعد ثلاثين سنة من ذلك التاريخ أقول لزملائي الذين انتقدوني في ذلك الوقت: هذه الموضة يبدو انها لن تختفي، وأعتقد أن الأمر متعلّق بتطور الأنواع الموسيقية الاخرى.
وفي بلادنا نلاحظ أن الأغنية الشعبية لم تعد إلا في السنين الأخيرة بقوة بعد تراجع استمر طويلا، فالأمر يتعلّق بالسوق الوطني والراي هو يبيع أكثر من غيره في كل الظروف.
في سنة 1983 تمكن الشاب خالد من تسويق 500 ألف شريط كاسيت. لقد أنجزت دراسة عن المستفيد من الراي، وجد في نهاية التسعينيات 300 مغني يشتغل كل يوم، كانت الكباريهات منشرة بكثرة ويعيش الكثير من خلالها بمساهمة مغانيي الراي الذين كانوا ينشطون هناك، واليوم بدأ عدد الكباريهات في التناقص الملحوظ، هناك فئات اجتماعية معتبرة تعيش من أغنية الراي، فحتى الذي يمارس القرصنة فهو يعيش من خلالها، واليوم نعيش بداية مرحلة جديدة تراجع فيها عدد الناشرين وتراجع فيها عدد الكباريهات وظهرت فيها ملامح جديدة، إنها بداية مرحلة جديدة.
– بقدر ما بدا مفهوم الراي فضفاضا ومتكيفا مع كل مستجد، بدا أيضا اختلاف في نشأة الراي، متى نشأت هذه الأغنية بالضبط؟
نشأت سنة 1975 عندما وضع أحد الناشرين على غلاف شريط عبارة «بوب راي» (pop ray) والشريط كان حينها للشاب خالد. هذه هي النشأة الرسمية، أما عن أصولها فهي متنوعة من البدوي إلى الوهراني وغيرها.
– هناك من يقول إن الراي موسيقى حضرية بحكم نشأتها في المدن، وهناك من يرجعها إلى البدوي بحكم أصول مغنيها وهم «انصاف حضريين»؟
الأصول مختلفة، من البدوي إلى الأندلسي، فعندما تسمع قصيدة في إطار البدوي ثم تسمعها في إطار الراي، فالأمر مختلف تماما.
– وماذا عن مساهمة اليهودي موريس المديوني في نشأة الراي والبعض يؤكد على هذا الأمر؟
كان موريس يعمل مع بعض الموسيقيين من أمثال بلاوي الهواري في إطار القالب العصري، لكن خارج العمل يقول البعض «هيا نقصرو. نجيبو شوي راي»، وقبل موريس المدويني عمه سعود المتخصّص في الموسيقى الأندلسية، وهو الذي أشرف على الفنانة رينات الوهرانية (سلطانة داوود)، وبالموازاة مع اشتغاله على الأندلسي، كان يمارس موسيقى خفيفة وكان يذهب عند الشيخ حمادة ويمارس عنده هذا النوع الخفيف من الغناء.
– من هذا المنطلق تكلّم البعض عن «أصول» يهودية الراي؟
لا، الأمر لا يتعلق بأصول يهودية، الموسيقى الأندلسية في الجزائر العاصمة وفي قسنطينة مارسها اليهود دون أن نتكلم عن أصول يهودية للموسيقية الاندلسية، مع أنهم ابتكروا نوعا خفيفا مستنبطا من الموسيقى الأندلسية والسبب يرجع لأنهم كانوا يعانون من مشكلة في اللغة مع أنهم كانوا متحكمين في الموسيقى الاندلسية، ومن هنا ظهرت الموسيقى المسماة «فرنكو عربية»، وهي مزيج بين الفرنسية والعربية.
وأعود إلى موسيقى الراي لأقول، إن الأمر معقّد ويتجاوز هذا الاصل أو ذاك، وعندما نسمع إلى بعض «خانات» خالد نجدها تتجاوز البدوي إلى الشرقين والاستخبار على طريقة خالد هو شرقي….



2 —- “الراي من النشأة إلى العالمية”.. فن الفقراء الذي ترعرع في المغرب والجزائر …


نبحر في عالم فن الراي لنكتشف أعماقه ورحلته من المحلية إلى العالمية، فهو -كما يصفه القائمون عليه- “فن الشعب والفقراء”، ولسان حالهم وقناتهم لإرسال رسائلهم لمن يعنيهم الأمر، وملاذهم للتعبير عما يختلج في صدورهم.

يأخذنا فيلم “الراي من النشأة إلى العالمية” من إنتاج الجزيرة الوثائقية في رحلة تُعرفنا على نشأة هذا الفن وتطوره، وكلمات الأغاني البدوية القادمة من اللهجة العامية القريبة للعربية البدوية، وتأخذ جُلّ مواضيعها من المديح الديني والمشاكل الاجتماعية.


ويُعد الراي حركة موسيقية غنائية نشأت بالغرب الجزائري في مدينة سيدي بلعباس أولا، وتطورت في مدينة وهران، وتعود أصولها إلى شيوخ الأغنية البدوية التي يعتبر من روادها الشيخ حمادة وعبد القادر الخالدي، وتعود جذورها القديمة إلى ما يسمى بالشيوخ بالجزائر.

كما ركزت هذه الأغاني اهتمامها إبان فترة الاستعمار الفرنسي على سرد مآسي السكان من صعوبة المعيشة، وآفات اجتماعية تحاول من خلالها تنبيه أو توعية المستمعين ….



– “الراي زرع، إذا أحسنت زراعته تكون الثمار جيدة” …

يقول الشيخ صنهاجي أحد مغني الراي القديم: إن الراي يقول هذا رأيك، بمعنى آخر كان لديه رأي جيد، لأنه في ذلك الوقت كان هناك راي ممتاز…


عندما بدأتُ كان ذلك في الخمسينيات، وكنت أغني فقط في حفلات الزفاف هنا وهناك، ثم بعدها قدمت عروضا في برنامج “ألحان وشباب” الذي نلت فيه المرتبة الأولى دون منافس، وذلك لأنني حينما دخلت البرنامج لأول مرة على مسرح “الخضرة” كنت أرتجف من الخوف، وعندما فتحت الستارة، كان الجمهور -وقتها- من النساء، وكانت الحفلة في وضح النهار، وعندما ظهرت على المسرح، بدأت النساء بالتشجيع والزغردة، لأنهن يعرفنني من الأعراس.

الراي زرع، إذا أحسنت زراعته تكون الثمار جيدة، ومن لا يعرف الزراعة يبقى يلف ويدور معيدا ومكررا نفس الكلمات، حتى لو حاول لليلة كاملة، فالمعرفة والبراعة في الأداء هي موهبة من الله عز وجل.

ليس للراي أساس أبدا، فقد انطلق من الجبال، إذ أن الراعي أخذ عصا ونحتها لتصبح نايا، وأخذ يتعلم العزف عليها حتى أصبح مغنيا، ومن هنا كانت نقطة البداية، ولا يصح القول إن الراي نشأ في بلعباس أو في وهران أو في الجزائر.


يقول الشيخ صنهاجي: كلمات راي الزمن الماضي توضع بقدر وحياء دون استعمال كلمات قبيحة، لكن اليوم يُقال أي شيء، ولا يمكنك سماعه في بيتك ومع أبنائك، لذلك لا يمكن إدخال راي اليوم إلى منزلك.

ميزة الشاب خالد أنه لم يتوقف وتخطى العقبات، حتى لو كسروا البوق أو ضربوه فسيغني من دونه، لأنه لديه قدرات صوتية هائلة، وهذا لا يتوفر عند كثير من المغنين الحاليين، فأصحاب الكلام الجيد الذين نشروا الراي اختفوا، وبقى هؤلاء المختلفون بينهم، كل يحسب نفسه أفضل من الآخر، رغم أن الكلمات المغناة لا قافية لها ولا معنى لها في المدح والغناء….

أستاذ الثقافة الشعبية مصطفى رمضاني يُعرّف بـ”الغيوان” وهي المترددات الغنائية المنفصلة عن بعضها …


“لغة الراي تمثل لسان حال الناس”.. إبحار في هموم الذات

يقول مصطفى رمضاني أستاذ الثقافة الشعبية: ظهر الراي ضمن إطار ما يسمى بالغيوان، وهو مصطلح عامي يعني “مترددات غنائية منفصلة عن بعضها”، وهذا من أهم سمات الراي.

لغة الراي تمثل لسان حال الناس، وكأن المغني ينوب عنهم فيما يقوله يعبر عن ذواتهم، ونجد أحيانا أن الراي يتحدث أحيانا باللغة الفصحى وأخرى بالعامية أو باللغة الأجنبية، وأصبح الراي بصفة عامة متخصصا في هموم الذات سواء كانت فردية أم جماعية، وأهم هذه الهموم هي العلاقة بين الرجل والمرأة والتعبير عن الحب والغزل.


وهو في الأصل عبارة عن غناء ينطلق من أبيات متفرقة، ومصدره هو مصطلح آخر يطلق عليه الزرعية (أي عملية زرع الأبيات)، ولا يكون هناك ترابط بين مقاطع الأغنية، فنقول أول بيت ثم يأتي التالي، ولا يكون له أي علاقة بالبيت السابق، والإيقاع الرئيسي في الراي هو الركادة، وهو أيضا نوع من الرقص موجود في المنطقة الشرقية بالمغرب وغرب الجزائر، ولهذا معظم مغني الراي يعتمدون على هذا الإيقاع.

ويعتبر مصطفى رمضاني أن الشاب خالد يتميز بأنه يستطيع أن يؤدي على كل الطبقات الموسيقية وأغانيه تشهد على التنوع الموسيقي والقدرات الصوتية، والشاب خالد طاقة قد لا تتكرر قريبا في الراي، وكذلك الشاب مامي من المطربين الكبار.



الموسيقي ومغني الراي رشيد برياح يغني في أحد أعراس مدينة وجدة المغربية



“جاء الراي من منطقة الشرق من وجدة حتى وهران”

يعود الموسيقي ومغني الراي رشيد برياح بالذاكرة إلى كيفية تعرفه على الراي قائلا: بدأت من أعراس مدينة وجدة، ووقتها كانوا يُحضرون الشيوخ فقط لغناء الراي، وكنت أستمتع بأدائهم وسط العائلة، وخلال هذه الفترة كان حفل الزفاف يمتد لأسبوع كامل، وكنت أنصت للشيوخ وأتعلم منهم، وعندما كبرت بدأت أسمع الراي بطريقة جديدة قريبة من الشباب في مدينتي وهران وتلمسان الجزائريتين، وأدخلوا عليها موسيقى عصرية وآلات موسيقية جديدة.

جاء الراي من منطقة الشرق من وجدة حتى وهران، لأنه في السابق لم يكن هناك حدود تفصل الجزائر عن المغرب، وكان شيوخ الجزائر يشاركون في حفلات الأعراس التي تقام في مدينة وجدة المغربية، وشيوخ المغرب يحيون حفلات الأعراس في مدينتي تلمسان ووهران الجزائريتين.


الراي بحر، فيه أنواع من الإيقاع، فهناك الهلاوي والمنكوشي وأحيدروس، وثمة أيضا نوع من الركادة يدخل في نطاق الراي، ويرجع الفضل في انتشار الراي عالميا إلى الشاب خالد والشاب مامي اللذين فتحا أبواب أوروبا وأميركا لإيصال الراي إلى هذه المكانة، مثل جميع الأنماط الموسيقية الباقية، كالروك والبوب والريكي.



لطفي العطار من فرقة “راينا راي” التي تعد من أشهر الفرق في هذا المجال يقول إن الراي كان في السيتينيات موسيقى الفقراء


‘ “الراي وقتها كان موسيقى الفقراء” …


يقول لطفي العطار من فرقة “راينا راي” التي تعد من أشهر الفرق في هذا المجال: إن ولادة موسيقى الراي كانت عام 1969، وكانت في البداية تعزف في الأفراح في عهد أغنية زينة، وخاصة في القرى، وقتها كنا محبوبين ومقبولين كأبناء البلد، كنت معروفا لدى سكان البلد ومقدما في عروض الأعراس ابتداء من 1969 حتى نهاية السبعينيات، الراي وقتها كان موسيقى الفقراء، وفي عام 1969 كانت معيشة الناس بائسة نوعا ما، لذلك اختير الراي كوسيلة للبحث عن بعض المال، ووقتها عندما نشاهد الراي نشاهد الفقراء، فقراء تجرؤوا على اختيار هذا النوع من الموسيقى، إما عن وعي أو من غير وعي، المهم أنهم أحبوا القيام بذلك.

في الماضي، طُرحت مسألة تحديد التصنيف الموسيقي، خاصة عند تسجيل ألبوم وتسويقه، مثلا “بوب مارلي” وفنه الريكي، والآخر يؤدي البلوز، وهذا يغني الروك، وبعدها قال صناع الراي: “نحن الراي”، وهذا هو التعريف الجديد والعصري للراي الجزائري، ما حدث هو أن الاسم انبثق خلال تلك الفترة.

استطاع الشاب خالد أن يجدد الموروث الثقافي، وأعاد غناءه على طريقته، وكذلك فعلت فرقة “راينا راي” التي أعادت غناء الموروث، وبفضلهم وفضل غيرهم وصلت الأغاني القديمة إلى الجيل الحالي، وهذه الأغاني لن تموت وستبقى حية دائما، فالشابان خالد ومامي طبعا أغنية الراي وأوصلاها للعالمية.


وختم لطفي العطار قائلا: في السابق لم نكن نختار الكلمات غير اللائقة، بل البسيطة والجميلة والنابعة من القلب….

ولادة موسيقى الراي كانت عام 1969، وكانت في البداية تعزف في الأفراح في عهد أغنية زينة

“اللحن عبارة عن مزج بين عدة أنواع موسيقى”


تقول الموسيقية ومغنية الراي الشابة حميدة: في بدايات الراي، لم نكن نتحدث عن موسيقاه، بل عن كلماته التي هي تحديدا الشعر الذي سيُغنى، لأن اللحن عبارة عن مزج بين عدة أنواع موسيقى، ويتضمن شيئا من التصوف، مما يعني أن ثمة نبوءة وراء كل ذلك، بعد ذلك أطر بلحن وأطلق عليه الراي، جاء لتأطير نص يُعبر عن آلام والمعاناة أو الفرح، وهو ما يستوجب تقديره ومنحه مكانا أوسع من الموقع الذي هو عليه.

وبالموازاة مع الراي، كان هناك فن الراب الذي كان يُعرض في الساحات العمومية متضمنا رسائل إيقاعية يعرفها الجميع، خاصة خلال زمن الثورة الذي قدم فيها الراب خدمة كبيرة، ومنذ ذاك التاريخ بقي الراي بنفس المنهج، واستمر المغنون في تبليغ رسائل تحكي عن الماضي وأحداثه، وتروي ظواهر اجتماعية وأحوال معيشية منشودة، وبعد ذلك جاءت الموسيقى.. كل هذه الدينامية التي دفعت هذه الظاهرة هي الموسيقى، في البداية كان اللحن، ثم جاءت الكلمات لتُغنى، غير أن اللحن كان مهما جدا في ظاهرة الراي …

أول ما يشد الأطفال والشباب والسيدات في الراي هو اللحن، ثم تأتي الكلمات لتنسج حوله بأي معنى، وطبعا تطورت النصوص مع الوقت وحصلت فيما بعد على صيت واسع، وهذه الكلمات مستوحاة من نصوص الشعر الملحون.. الجانب النسائي كان مطروحا في الماضي، ولكن لم يعد واردا في هذه الأيام، وباتت النساء تشغل فضاءات جديدة، وتعتمد على نفسها دون إشراف رجل …

،- الشابة دليلة ترى أنه من غير الممكن أن يعبر عن المرأة إلا المرأة نفسها ….


“لا يمكن أن تعبر عن حاجتي إلا المرأة لأنها تحس بي”.. الشابة دليلة

تقول مغنية الراي الشابة دليلة: إن للراي كلاما تسمعه طوعا أو كرها، لأن كلماته متداولة بين الناس، فالراي هو عاميتنا ولا يجب القول أن راينا غير مناسب، فهذا الفن جميل وشبابي وأجواؤه ساحرة. هي كلمات الأحاسيس، وهي كلمات من القلب، وهي حكايات ماضية والوقت الذي نعيشه اليوم، هو زمن الشباب والأمهات اللاتي فقدن أبناءهن، كلمات الراي دائما في تآلف وانسجام، وكلما تغنى المطرب بتلك المواضيع فسيشعر بها المتلقي، وأنا إذا لم أشعر بالأغنية وأتوقع نجاحها فإنني لا أختارها أصلا …


وتابعت: أصبحنا نسمع الراي في أنواع مختلفة من الموسيقى كالهاوس والراغا والتكنو، حيث دخلت عليه عدة أنماط موسيقية وهذا طبعا أمر جيد، وبدأ الراي بالطريقة الوهرانية، وحين جاء الشاب خالد أدخل عليه أشياء جديدة، ووصل ابن مدينة وهران بالراي إلى العالمية، وهذا الجميع يقر به ولا أحد ينكره، ولست الشخص الأول الذي يقول هذا، ولن أكون الأخيرة …

ترى الشابة دليلة أنه لا يمكن لأحد أن يعبر عن المرأة إلا المرأة نفسها، إذ تقول: لا يمكن أن تعبر عن حاجتي إلا المرأة لأنها تحس بي، وكما يقول المثل “لا يحس بالجمر إلا من كوي به”، فغناء الرجل لن يعبر عن هموم المرأة، لكن إذا قلت للمرأة ما عشته ورأيته، أو هذا الشخص لن يكون من نصيبك أو قصص أخرى تمر بها الفتيات في بلادي؛ فالرسالة تصل أسرع.. هناك مغنيات لم يستطعن الاستمرار بسبب الصعوبات التي واجهتهن في مسيرتهن، ولم يجدن الدعم والمساندة، كما أن الجانبين المادي والمعنوي يلعبان دورا كبيرا، وأنا -والحمد الله- وجدت مساندة ودعما من زوجي الذي هو مدير أعمالي، وجعلني أتعمق أكثر في الراي.

وختمت: قيل إن المرأة التي تغني ليس لديها أب يحكمها، ومن الذي يتزوجها؟ فهؤلاء كانوا يرون الراي شيئا أسود وانحرافا، ورغم ذلك فإن حفلاتنا والأعراس ومناسبات العقيقة والأمسيات لا تتوقف. الراي ليس لأصحاب الواي واي والإي إي، لأنه موروث ثقافي ويجب المحافظة عليه….


الباحثة أسماء الهلالي تقول إن مسقط رأس فن الراي هو المنطقة الشرقية والحدود بين الجزائر والمغرب


فن الراي.. تراث مشترك بين الجزائر والمغرب

تقول الباحثة أسماء الهلالي: إن فن الراي ليس له انتماء لمكان محدد أو منطقة معينة، فمنهم من يقول إنها جزائرية وآخرون إنها مغربية، لكن مسقط رأسها في المنطقة الشرقية والحدود بين الجزائر والمغرب.


ويقول مغني الراي مجيد حاج إبراهيم: خرج الراي من المجتمع كفن الراب، فقد تجد من يتغنى به ويغني عليه، الراي ليس موضوعا يغنى فقط، فهو يمنحك أشياء من المجتمع، وكيف هي رؤية الناس للأشياء، فالراي ليست له بنية معينة يمكن أداؤها بشكل مباشر، لكنه كالنبتة إذا زرعتها تكبر، تقول كلمة فتعاود نفسها، كلمات فيها نوع من الكوميديا لكنها تحمل رسالة.

وتابع بالحديث إن الراي خرج من الجزائر، من مدن وهران والجديدة والطحطاحة، وفي الأخيرة كان هناك الشعر المغنى، ويلتقي الشعراء مع الناس ويقيمون مهرجانا صغيرا، هذه هي روعة الراي، البندير والقلال هي أدوات رقص، ونحن من أصول أفريقية ونحب الرقص، إذن فالراي إيقاع وكلمات، وهناك من يعجبهم هذا النوع من الفن وآخرون لا يستسيغونه، ولكن الحقيقة أن الراي يعجب الكل أحببنا أم كرهنا.

يقول مجيد: عندما ذهبت إلى الشرق الأوسط وجدت أن الكل هناك يحب الراي، والذين لا يعجبهم فهم لا يفهمونه، والناس عندما كانوا يشاهدون فيديوهات الشاب خالد لم يكن يفهموها في البداية، لكن كان هناك شيئا مميزا في راينا، راي وهران وراي الجزائر تشعر فيه برائحة الأجداد، وتحس فيه بروح مثل الفنين الشعبي والأندلسي، ككل الموسيقى التي لدينا في الجزائر، كل نمط موسيقي لديه ميزة خاصة، باستثناء الراي لأنه فن الشعب.


وعن مساهمة المرأة في الراي يتحدث المغني مجيد قائلا: المرأة كالرجل أيضا لديها راي تغنيه، وكانت الشابة فضيلة في كورال الشيخ بوطيبة الصغير، ولهذا لديها الحق أن تغني ما تراه مناسبا لها، فالنساء لديهن هموم يردن التعبير عنها، وهذا أمر صعب لأن الرجل قد يروي حالته وما يحصل معه، ويعبر عن غضبه وانفعالاته، على عكس المرأة التي تحافظ على خصوصية وسرية حياتها….



مغني الراي مجيد حاج إبراهيم يقول إن الراي خرج من الجزائر، من مدن وهران والجديدة والطحطاحة !!!!


– وليد المشيخة والناي.. تراث مشترك بين المغرب والجزائر …

يقول الموسيقي هواري سليماني: فن الراي هو وليد المشيخة والناي، انطلق من المشايخ القدامى بالناي، أمثال الشيخ بوطيبة والشيخ لماشي والشيخ الخالدي، وإذا أردنا معرفة ما هو الراي؟ فعلينا معرفة مكان خريطة الناي التي كانت موجودة من مدينة تاوريرت حتى مدينة وهران، وأيضا هذه هي خريطة المشيخة، ومن هذه المنطقة انطلق الراي، وهذا ما يعني أن الراي مغربي- جزائري، أي أنه تراث مشترك بين البلدين.

وقد لعبت المدن التي توجد غرب الجزائر دورا كبيرا لكي يصل الراي إلى مكانته اليوم، وبطريقة حية وبشكل مستمر، لهذا تجد في هذه المنطقة موسيقيين مهرة يساهمون في مسيرة الراي الذي جرى تجميعه من غرب الجزائر، واليوم انتشرت موسيقى الراي، لهذا أصبح الراي اليوم فنا وطنيا.

ويرى سليماني أن مواضيع أغاني الماضي تختلف تماما عن مواضيع اليوم، لأنها تغيرت في عهد الشاب حسني رحمه الله، إذ أن انشغال الناس وقتها كان في الحب والعشق، واليوم هو المقابل تماما وهو الطلاق، وأصبح موضوع الغناء عنيفا، وهو ما يعكس حالة مجتمعنا، المواضيع التي يهتم بها الراي هي مواضيع الشعب، ومواضيع اجتماعية ومواضيع سياسية ومواضيع الحب والإحساس، الراي جاء للشعب بلغة عامية يفهمها الجميع، وطالما تفهمها الأغلبية، فإن الراي قريب من الشعب وحالته الاجتماعية.



–  مرونة الراي.. فن يتمازج مع كل الموسيقى العالمية …


يقول سليماني: بدأ الراي بالقصبة والقلال، ثم جاء الجيل الموالي باتجاهين، اتجاه بلمو وبوطيبة الصغير ثم بلقاسم بوثلجة، فهؤلاء عزفوا الراي بآلات تقليدية، أما الاتجاه الآخر فهو اتجاه أحمد وهبي رحمه الله، وبلاوي أطال الله بعمره، فهؤلاء الأشخاص استخدموه بطريقة مغايرة، موظفين في ذلك العود كأغنية وهرانية، وبعد ذلك جاء الاتجاه الثالث الذي طور الأداء باستعمال الآلات الموسيقية الغربية، وهو ما أعطى صيغة جديدة شدت إقبال الشباب عليه، ثم جاء بعدها الراي في شكل غناء رومانسي، واستمر بالتطور والانتشار حتى وصل إلى العالمية عن طريق الشاب خالد والشاب مامي اللذين أديا الراي بإيقاعات البوب والروك، وهذا التحول الغربي حقق العالمية للراي.

كانت بداية الشاب خالد كارثية وتعرض للسخرية، لكن ذلك لم يوقفه، بل واصل في طريقه شغوفا بالعمل والإنتاج، نفس الأمر بالنسبة للشاب حسني الذي تعرض للانتقاد الشديد، ووصول الراي إلى هنا هو بفضل الذين يشتغلون به، وأوصلوه للعالمية، وليس كل من غنى كلمتين يعني أنه حقق العالمية للراي، لأن هذا يتطلب عملا كبيرا وبذل جهد مضاعف، بالنسبة لنا، “نحن نقوم بعمل صغير لأننا في الجزائر لم نحقق تفاهما بيننا بعد بخصوص هذا الفن وجودته وأهميته. وبالنسبة للشاب خالد فقد كان محظوظا لأنه تعاون مع كبار المنتجين في أوروبا، وهذا يعني أننا أيضا قادرون على الوصول لأشياء عظيمة في الراي هنا دون الذهاب للخارج”.

يرى رواد الراي أنه يلبي كل الأذواق ويتكيف مع الظروف، وهو مفتوح لكل أنواع الآلات الموسيقية ويقبلها وينجح في إدخالها إلى المنازل وإيصالها للجماهير، وهذا سبب وصوله للعالمية، لأنه قابل للدمج مع أي موسيقى، فليس هناك في الراي فارق بين مغن ومغنية، فالمرأة لديها طريقة للتعبير عن مشاكلها، ومن بين المغنيات نذكر الشابة الزهوانية والشابات فضيلة ودليلة وخيرة وجنات وغيرهن.


وختم سليماني بقوله: تراجع مستوى الراي بسبب استخدام كلمات غير لائقة، وهذا انعكاس للمجتمع وتدني ذوقه.


رقصة الركادة التي تُعرف بمعناها الأصلي هو الانتماء إلى الأرض، فالرقصة وعدد ضرباته للأرض لها دلالة

فن الرُّحل.. موسيقى شعبية تُعبر عن محيطها

يقول الموزع الموسيقي رميلي مصطفى: تنحدر أصول المشيخة من منطقة المغرب الشرقي والغرب الجزائري، والناس الذين عمروه كانوا قادمين من المشرق، وهذه القبائل كانت تتفاعل فيما بينها، وفي الغالب كانت هذه القبائل رحلا، وهذا التفاعل ولّد موسيقى شعبية وشعرا يعبر عن البيئة والمحيط.

الراي ينبني على الركادة، ورقصة الركادة هي كما نقول بالعامية الحساب، وهذا الحساب فيه نوع من تصميم الرقص، ومعناه الأصلي هو الانتماء إلى الأرض، فرقصه وعدد ضرباته للأرض لها دلالة.

أما المغني الشيخ شعيب الذهبي، فيقول: إن هذا الفن مشترك بين الجزائر والمغرب، والشيخ الطيب هو الأول وكان في سبعينيات القرن الماضي، وكان مغنيا وكبير الشعراء، واليوم يوجد شعراء في شرق المغرب يكتبون كلاما جيدا، لكنهم لا يؤدون.

“ما باليد حيلة”.. تقلبات الراي في موطنه الوهراني

يقول الموسيقي سفيان بن عمار: هناك من يقول إن الراي بدأ في بلعباس وانتهى فيها، لكنه اليوم ولد من جديد في وهران، وربما قد يتوقف فيها، ثم يظهر في مدن أخرى، ولهذا يفرض عليك الراي أن تكون فنانا مرنا، وتعمل على نشر ألبومك بغض النظر عن كونك قدمت من البادية أو لا، وأن تكون فنانا قادرا على التعامل مع متطلبات وحاجات السوق الفني اليوم، وهذا ما سيضمن نجاح ألبومك، لأنه إن لم يكن الفن يسري في دمك فإنك لن تنجح.

واعتبر أن الشاب خالد مستوى خاص خرج عن الراي، وحين تستمع إلى ألبوماته تجده يعمل على الصوت لوحده وعلى الآلات الموسيقية وحدها، فهو يعمل على الآلات في الأستديو، ثم يأتي لوضع صوته على الأغنية ويضع النموذج، ثم يأتي من يقوم بالتوزيع الموسيقي، خالد يشتغل بالطريقة الأوروبية، وهو ارتقى بعيدا في عالم الموسيقى، ولديه مديرة أعمال على مستوى عال من الاحترافية، وهي زوجته المغربية. إضافة إلى التغطية الإعلامية الكبيرة والاتفاقات لبث حفلاته، والأهم من كل شيء أنه موهوب ولديه حنجرة رائعة.

وختم حديثه بكلامه عن ظروف الفن المتقلبة في وهران قائلا: أما نحن، فما زلنا هنا في وهران، ما زلنا نحاول تطوير أنفسنا وفننا، هنا عندنا ما زال الشعب يقبل على الواي واي وإي إي، وهذا مشكل بالنسبة لي، لكن ما باليد حيلة، لأن الشباب يحبون هذا الغناء، فإذا رفضت القيام بما يريده سيختار أستديو آخر، لذا عليك تحمل كل شيء. اليوم ليس كما في الماضي، وإذا أردنا الحقيقة، فقد تبدلت الحياة.



مغنية الراي الشابة نوال مع زوجها عازف البيانو، حيث تحدثت عن غناء المرأة للراي والصعوبات التي تواجهها


“في رأيي أن تؤدي المرأة الراي بشكل عادي”

تقول مغنية الراي الشابة نوال: إن الراي عالمي ومعروف في كل مكان، وهو فن شعبي مثل الركادة، ولديهما نفس الكلمات، أحيانا قد تجد كلمات غير مقبولة، لكن مع مرور الوقت أصبح الراي طبيعيا، لأن كل الناس باتت تستمع للأغاني، وبعض الأغاني تنجح رغم تضمنها لكلمات قبيحة. هناك عدة أنواع من الراي مثل العاطفي، ويكون الموضوع وجدانيا وموسيقاه هادئة، وهناك الراي الوهراني والراي البدوي.

وتحدثت عن غناء المرأة للراي وما يواجهها من صعوبات قائلة: في رأيي أن تؤدي المرأة الراي بشكل عادي، والرجل والمرأة متشابهان في هذا الموضوع، وبالنسبة للمشاكل، فمثلا أنا زوجة، ورغم أنني نشأت في أسرة فنية، وبحكم أن زوجي عازف (بيانو) فلا شيء يمنعني من الغناء، لكن قد يعترضك عائق كما حدث عندما كنت حاملا، ولم أستطع السفر لبلجيكا للمشاركة في إحدى الحفلات هناك، وبعد الحمل لم أعمل في شهر رمضان لأنني كنت نفساء وقتها.

وختمت متحدثة عن معاناة الفنانين في ظل القرصنة بقولها: لم يعد هناك تسجيل للأغاني وإصدار ألبومات، لأن القرصنة قضت علينا، وحين نعد عملا جديدا نقوم برفعه على مواقع الإنترنت والتواصل الاجتماعي لضمان انتشاره.



–  الشاب خالد هو من كان له الفضل في تطور فن الراي ووصوله إلى أوروبا …

“كان تطور فن الراي بفضل الشاب خالد”.. رحلة النجاح في فرنسا

يقول مغني الراي الشاب أمير: إن المواضيع التي كانت تشد الشباب حين بدأنا مسارنا أغلبها هي عن الهجرة، والكل يتحدث عنها ويريد السفر إلى أوروبا، وتقريبا كان هو أساس القاعدة التي كنا نبني عليها اختياراتنا، كأغاني أناس يعيشون في الغربة، وآخرون يرغبون بها، وأناس يعيشون البؤس والبطالة.

في السياق نفسه يتحدث مغني الراي الشاب طارق قائلا: كنت أول من مزج بين الراي والراب، وواصلت في هذه الاتجاه حتى أصدرت ألبوما من هذه الأغاني، لكن الأمر الصعب هو النجاح في هذا الدمج، مع الحفاظ على هيكل الراي، دون تنفير آذان المستمع.

من جهته يقول الموزع الموسيقي قادة: لدى الشاب حسني رحمه الله أغان عاطفية، وعندما مات ازداد الإعجاب به، لأنه كان يغني بإحساس وصدق ومن أعماق قلبه، أما الشاب خالد فيمكن القول إنه الرجل الأكثر شغفا في الغناء، ورغم أنهم ضيقوا عليه وعزلوه فقد رحل إلى فرنسا ووصل للعالمية.

ويروي أنه قدم عليه أحد المغنيين بكلمات سوقية، وطلب منه أن يسجلها له مبررا الكلمات بقوله إنها راي اليوم، فأجبتُه: أنا لم أفهم شيئا من هذه الكلمات، وقلت هذا ليس الراي.

ويقول المغني والموسيقي الشاب حسين: كان تطور فن الراي بفضل الشاب خالد، في اليوم الذي خرج فيه ألبومه “دي دي” حقق نجاحا باهرا، مما فتح الباب لدراسة فن الراي، وبعدها جاء الديو مع الفرنسي “جون جاك غولدمان”، وحققت الأغنية الشهيرة “عايشة” نجاحات عالمية، وهكذا وجد الراي مكانه في عالم الموسيقى.

حول هذه القصة
“وهران يا حسرا”.. عشية بكت عين الجزائر الساحرة على وقع الراي
حكاية وهران وتاريخها الذي ضم العديد من المحتلين من الإسبان والفرنسيين الذين تركوا بصمتهم في المدينة حتى تحولت إلى باريس صغيرة ….


3 —- فنّانين عرب نقلوا فنّ الراي من الهامش إلى العالمية ….





ليست شهرة الراي الحالية وتجاوزه إطار المحلية الوهرانية أو الجزائرية الضيقة سوى ثمرة مجهودات ثلة جيل من الشباب والشابات المتحمسين لهذا اللون المهمّش حينها، ليكونوا له سفراء حقيقيين خرجوا به إلى الفضاء المغاربي والعربي والأوروبي ليبلغوا به العالمية التي لم تعرفها الأغنية العربية….


فن الراي الذي خاض في المواضيع المحرمة بكلمات الناس وعواطفهم الصادقة ورغباتهم وأحلامهم وتصوراتهم، لم يكن مرحباً به في الأوساط الرسمية، غير أنّ روح التحدي عند الشباب دفعتهم إلى مواصلة مسيرتهم، متأثرين بمن سبقوهم مثل الشيخة “ريميتي” ومسعود بلمو، وغيرهما من الرواد الأوائل….


كان التاسع والعشرون من أيلول (سبتمبر) 1994 يوماً أسوداً في حيّ “غومبيطا” بوهران الجزائرية. ذلك أن رصاصات إرهابية غادرة توجهت إلى فنان الجزائر الأول حينها فأردته قتيلاً.

حسني شقرون المولود في الأول من شباط (فبراير) 1968 منح الساحة الفنية مئات الأغاني وعاش موته مرتين؛ كانت الأولى لما انتشرت إشاعة موته في الجزائر وجاء الناس باكين ليودّعوا جثمانه فوجدوه في استقبالهم حياً. ردّ على ذلك بأغنية من أجمل أغاني الراي على الإطلاق: “قالوا حسني مات”. أما الثانية فلم تكن تحتمل التكذيب.



– الشاب حسني الملقلب بـ ” بلبل أغنية  الراي العاطفية “

لقّب حسني بـ”ملك الراي العاطفي ” و”عندليب الرّاي” الجزائري وذلك لتربّعه على عرش هذا النوع الموسيقي. حقق رقماً قياسياً من حيث مبيعات أشرطة الكاسيت التي أنتجها.

وخلال مسيرته مثل حسني منافساً حقيقياً لأكبر نجوم الراي بـ 175 ألبوماً خلال مسيرته التي دامت سبعة أعوام فقط. وكان يجمع بين إعادة الأغاني القديمة وكتابة أغان جديدة وتلحينها وغنائها….

حسني الذي بدأ شبابه لاعب كرة قدم حرم من متابعة مسيرته الكروية بسبب إصابة أبعدته عن الملاعب، فكان صوته الجميل بديلاً لقدميه. غنى مع شبان آخرين وشابات أخريات مثل الشابة “الزهوانية”، التي تروي أنّ الجمهور نام في الملعب منتظراً صعود حسني للغناء، مُعرضاً عن بقية الفنانين الذين صعدوا على المسرح قبل أن يحين دوره في السادسة صباحاً. كان ذلك في الخامس من تموز (يوليو) 1993 قبل اغتياله بأشهر، تاركاً توجهاً واضح المعالم كان قد تميز فيه وأسس له بكلماته وألحانه وصوته: الراي العاطفي. ومن أشهر ألبوماته: “البرّاكة” وهو أول ألبوم له بالشراكة مع الشابة الزهوانية في 1986، و”لي درتيه” (1987) و”مازال الـsouvenir (الذكرى) عندي” (1988)، و”ما نديرش الأمان” و”البيضاء mon amour” (1989) وغيرها من الألبومات الناجحة التي طاف بها بلداناً عديدة في الغرب كأمريكا وفرنسا والنرويج والسويد.

يقول عنه الكاتب الجزائري الكبير أمين الزاوي في تصريح إعلامي لقناة جزائرية: “استطاع الشاب حسني أن يؤنسن الأغنية.. وأعتقد أنّ الشاب حسني استطاع أن يخلق الصوت الداخليّ لأغنية الراي”.

–   الشاب خالد.. الملك الضّاحك …

يلقّب بـ “ملك الراي” ولنسمِّهِ “الملك الضاحك” لضحكته التي لا تفارق وجهه. خالد حاج إبراهيم، مواليد عام 1960 الّذي بدأت رحلته مع الموسيقى باكراً لم يكن يعلم أنّ أغنية الراي ستطير به إلى العالمية بعد أن حقق شهرة واسعة في الجزائر بأغنية من أولى أغانيه “طريق اللّيسي” (طريق الثانوية).

أهدته مدينته وهران نهراً من الفن تلتقي فيه ألوان موسيقية متعددة منها الفلامينكو والموشحات والغربي والشرقي والجزائري، فخلّد اسمها مدينةً ولاّدة للنّجوم في فنّ الراي الذي أحدث رجة قوية في المقامات العربية والكلمات والإيقاعات والألحان، بل في الأذن العربية وطريقة تلقيها للموسيقى.

عرفت الشابة الزهوانية بأغانيها الجريئة التي مايزال بعضها محظوراً في التلفزيون الجزائري لتضمّنه كلمات جنسية أو إيحاءات مثيرة …

في 1974 أسس الشاب خالد فرقة “5 نجوم” وهو في الرابعة عشرة من العمر. تأثر بالآلات الإلكترونية فكان من أوائل الفنانين الذين أدخلوا الأورج على موسيقى الراي، وتلته آلات أخرى عصرية محدثة نقلة نوعية في الموسيقى.

كانت أغنيته “دي دي.. الزين دي” (التي تعني: خذ الجمال باللهجة الجزائرية) الأغنية الحدث التي جعلته يجتاح أمريكا وأوروبا بصوته ولحنه وإيقاعاته، وفتحت له أبواب الشهرة كما لم تفتح لفنان عربي قبله.

دعم ذلك بلقائه بعملاق الأغنية الفرنسية “جون جاك غولدمان” الذي لحن له أغنيته الشهيرة “عايشة” التي صدرت في ألبوم “صحراء” عام 1996، وتناقلتها لغات العالم فيما بعد محافظة على لحنها. وقبلها كان ألبوم “نسي نسي” (اِنْسَيْ انسي) وألبوم “كوتشي” مع الموسيقار صافي بوتلّة….

أسس الشاب خالد فرقة من النجوم وهو في الرابعة عشرة من العمر …
أسس الشاب خالد فرقة “5 نجوم” وهو في الرابعة عشرة من العمر

في العام 1999، انضم الراحل رشيد طه وفوضيل للشاب خالد في حفل موسيقي بعنوان “الشموس 1 و2 و3″، الذي صدر لاحقاً ألبوماً حقق مبيعات كبيرة في فرنسا وأمريكا والوطن العربي باع أكثر من خمسة ملايين نسخة.

شارك الشاب خالد في حفل افتتاح نهائيات كأس العالم 2010 بجنوب إفريقيا، وحصل على جوائز عربية وعالمية عديدة منها جائزة أحسن أغنية في فرنسا عن أغنيته (يا شابة)، وجائزة سيزار لأفضل موسيقى تصويرية، وجائزة “انتصارات الموسيقى” عن أغنيته “عائشة” التي اختيرت أفضل أغنية في سنة إصدارها، وجائزة مهرجان مونتريال الدولي لموسيقى الجاز، وجائزة مهرجان البحر الأبيض المتوسط للإبداع، وجائزة أفضل فنان عربي مبيعاً في أمريكا.

– الشاب مامي.. من صانع لحّام إلى أمير للراي …


كانت مشاركته في برنامج “ألحان وشباب” في التلفزيون الجزائري العام 1982 بأغنية “ياد المرسم” لحظة فارقة. إذ أذهل الكثيرين بصوته الاستثنائي الجميل وأدائه البارع لأغنية صعبة وهو بعد طفل في السادسة عشرة من العمر.


مهّدت له تلك المشاركة طريق تسجيل الألبومات التي حقق بها شهرة واسعة في الجزائر، خصوصاً بين الشباب. وصار محمّد خليفاتي (مامي)، صانع اللحام سابقاً، أميراً للراي كما يلقّب، لما سطع نجمه مع الشاب خالد في مهرجان الراي الأول في وهران، ثم في مهرجان “بوبيني” في فرنسا العام 1986. وكان أول مغني راي يصعد على مسرح أولمبيا الشهير.

أنتج الشاب مامي عديد الألبومات التي بلغ بها العالمية ومنها “وردة الصحراء” مع الفنان “ستينغ”، و”cosi celeste” مع زوكيرو، كما أبدع في أغان كثيرة مثل “let le cry” و “ادوها عليّ البوليسية.. وجاوزت شهرته الجزائر والمغرب العربي إلى أوروبا وأمريكا والدول العربية، حيث أقام عديد الحفلات الناجحة.


– الشاب نصرو.. ملك الراي العاطفي …

هو نصر الدين سويدي ابن مدينة عين تموشنت التي تبعد عن وهران 90 كيلومتراً، بها ولد سنة 1969، غير أنه تربى في وهران عاصمة الراي وعاش فيها شبابه. بدأت رحلته الموسيقية بإحياء الحفلات الخاصة بتشجيع من الشاب الزهواني. وفي التاسعة عشرة من العمر سجّل أول ألبوم له بعنوان “متقوليش كلمة نبغيك” عام 1988، ويحمل في رصيده الفني منذ ذلك الوقت أكثر من 130 ألبوماً غنائياً ركّز فيه على الأغنية العاطفية حتى لقّب بـ”ملك الراي العاطفي”.

يعرف الشاب نصرو بصوته الجميل المميز الذي يؤدّي الأغاني العاطفية ببراعة نادرة لا يزاحمه فيها سوى الراحل العملاق الشاب حسني الذي كان أحد أقرب أصدقائه، وتركت حادثة اغتياله في 1994 غصة في قلب نصرو واضطرته إلى مغادرة الجزائر للاستقرار في مدينة ميامي الأمريكية لمدة 21 عاماً.

اغتيل الشاب حسني في التاسع والعشرين من أيلول (سبتمبر) 1994 في وهران الجزائرية

غنى نصرو في أشهر المسارح وفي أغلب البلدان الأوروبية وأمريكا. عاد مؤخراً إلى الجزائر بعد غربة طويلة، وأكد في تصريح صحفي أنّ غيابه “كان لأسباب قهرية تتعلق بالظروف الأمنية الصعبة التي عاشتها الجزائر في التسعينيات من القرن الماضي”، التي تعرف بـ “العشرية السوداء”، والتي طالت فيها يد الإرهاب عشرات الفنانين والصحفيين وآلاف الجزائريين من الأبرياء.

ويعد الشاب نصرو بالعودة بقوة إلى الساحة الغنائية بثنائيات ستجمعه بالشاب بلال وبالشاب كادير. هو الذي عرف بأغان لم تمح من ذاكرة الأجيال مثل “ما بقاش أمان في بحر الحب”، و”خسَّارين لقلوب”، و”اللي بيني وبينها”، وكان آخرها ألبوم سجله الشاب نصرو العام 2008 بعنوان “أوف من الغربة”، وسجل أغنية أخرى العام 2009 بعنوان “حرموني”.

–  ركز الشاب نصرو في ألبوماته على الأغنية العاطفية ….

الشابة الزهوانية.. الجريئة

عرفت الشابة الزهوانية، المولودة بمدينة وهران في العام 1959 لأب جزائري وأم مغربية، بأغانيها الجريئة التي مازيال بعضها محظوراً في التلفزيون الجزائري لتضمّنه كلمات جنسية أو إيحاءات مثيرة. غنّت مع الكثير من المطربين واشتهرت بثنائيات شاركها فيها فنانون من ألمع نجوم الراي مثل الشاب حسني في أغنية “البرّاكة” التي حققت بها نجاحاً منقطع النّظير العام 1986، بالإضافة إلى أغنية مع الشاب حميد الّذي شاركها “خالي يا خالي”، كما غنت مع الشاب خالد ومامي، وغيرهما من نجوم الراي.


الشابة الزهوانية -واسمها الحقيقي حليمة مازي- بدأت مغنية في فرقة نسائية تسمّى “المدّاحات” التي تحيي حفلات الزواج والختان وبعض المناسبات الدّينية، ولكن شغفها بالغناء حملها بعيداً عن التقيّد بالمديح، فكانت صوتاً حمل فنّ الراي إلى أوروبا وأمريكا بعشرات الحفلات والألبومات المتنوّعة، مركّزة على ثيمتي العاطفي والاجتماعي.


– اشتهرت الشابة الزهوانية بثنائيات شاركها فيها ألمع نجوم الراي

– الشاب صحراوي والشابة فضيلة.. الثّنائيّ الذّهبي …

شكل الفنانان صحراوي وفضيلة ثنائياً مبدعاً بثنائيات عديدة بدأت بـ”نسال فيك” التي صدرت العام 1983، و”ما عندي زهر معاك”. كان لقاؤه بالشابة فضيلة -التي سيقضي معها رحلة زواج استمرت عشرين عاماً تقريباً قبل أن ينفصلا- نقطة تحول في مسيرته الفنية.

أهدت مدينة وهران الشاب خالد نهراً من ألوان موسيقية متعددة كالفلامينكو والموشحات والغربي والشرقي فخلّد اسمها مدينةً ولاّدة للنّجوم ….

تعلم الشاب صحراوي الموسيقى أربعة أعوام في معهد في وهران ليكون واحداً من ألمع عازفي البيانو، إضافة إلى قدرته على كتابة الكلمات وتلحينها وصوته المميز.

كان صحراوي أول فنان يحمل فن الراي إلى أمريكا؛ إذ قام بجولة غنائية في أمريكا الشمالية، وعرفه الجمهور الأوروبي في جولة غنائية مع الشاب خالد في مهرجان “بوبيني” في فرنسا العام 1986.

قدم أول ألبوماته العام 1979 بعنوان “يا الوالدين”، ومن أشهر ألبوماته نذكر: “نسال فيك”، و”ما عندي زهر معاك”، ثم “نعشق فيها ونموت”، “نعطيك قلبي”، “وايلي”، “AIME MOI”.

كان الشاب صحراوي أول فنان يحمل فن الراي إلى أمريكا
كان الشاب صحراوي أول فنان يحمل فن الراي إلى أمريكا

بعد اغتيال الشاب حسني غادر صحراوي إلى فرنسا، وانفصل عن زوجته في نهاية التسعينيات من القرن الماضي، ليبدأ رحلة الغناء منفرداً، قبل أن يعلن اعتزاله في 2014 وهو في عمر 53 عاماً….




4 —– موسيقى “الراي” من مقاومة الاستعمار إلى السقوط التجاري ….



جمعت بين المقهورين في المغرب والجزائر وانتشرت على ألسنة “الشيخات” و”الشباب” أدخلوها طور الصخب الذي استأصل ….
   

انتقال الراي من الأغنية البدوية إلى الحداثة بدأ مع إطلاق وصف “الشاب” أو “الشابة” كتمييز عن جيل الشيوخ  (غيتي)

لا يوجد دليل قاطع على أن موسيقى الراي مغربية ولا العكس أيضاً. لكن ما هو متعارف عليه بحسب بعض الدارسين الفنيين أنها موسيقي بدوية نشأت على الحدود الشرقية بين المغرب والجزائر بعدما ظل العديد من الثوار يتغنون بها في الجبال والقرى. لذلك فإن مرجعية موسيقى الراي تستوجب أبحاثاً تاريخية عميقة تنقب عن جذورها وبدايات تشكلها على أيدي “الشيخات” (المغنيات الشعبيات) اللواتي عملن على أداء هذه الأغاني في البوادي والقرى البعيدة داخل كل من مدينتي وجدة ووهران، إضافة إلى مدى تأثيرها في المغرب العربي.

– شرعية التأسيس …

تجدر الإشارة إلى أن هذه الموسيقى لم تكن جديدة، بل خرجت من شكل تعبيري موسيقي آخر يتمثل في الموسيقى الشعبية. ويرى الكثير من المغنيين أن هذا اللون الموسيقى يعد “حداثة” الفن الشعبي، مع أنه حافظ على الكثير من ملامح وجماليات الأغنية الشعبية. فجاءت أغانيه الأولى عبارة عن تكليل لتطور الموروث لذلك لم يشكل الراي قطيعة مع الموسيقى القديمة، بل استمد منها جوهرها الشعبي، فجدد “الشيوخ” (الرواد) البحث عن لغة موسيقية جديدة لهذا الفن. لم يكن هؤلاء الشيوخ وهم ينسجون هذه المواويل الحزينة جراء الاستعمار وسط الجبال البعيدة من مدن المركز يدركون آنذاك أنها ستغدو ذات يوماً علامة موسيقية ستكتسح العالم ككل.

ثمة روايات متناقضة تطرح نفسها حين نكون بصدد الحديث عن الراي، الأولى مغربية وترى أنه تأثر بالأغنية البدوية، التي تأثرت بنصوص فن الملحون، بالتالي، فقد كانت نشأته مغربية. مع أن هذا الرأي غير دقيق لكون الملحون أثر وتأثر أيضاً بالكثير من الأنماط الغنائية والقوالب الموسيقية خلال فترات تاريخية مختلفة. لهذا يرى بعض الباحثين أن نشأته كانت على الحدود بين البلدين ويصعب الحسم ما إذا كان مغربياً أم جزائرياً. في حين يذهب الباحث الجزائري سعيد خطيبي أن الراي “موسيقى تستمد بعض جذورها من الأغنية الوهرانية”. بالتالي، فإنه “جزء من التراث الشعبي لمدينة وهران التي نظمت في 1985 أول مهرجان للراي، تلاه مهرجانان دوليان في مدينتي وجدة المغربية وطبرقة التونسية. أما أول مهرجان لموسيقى الراي في الخارج، فعقد في ضاحية العاصمة الفرنسية باريس عام 1987”.

– ملامح الموسيقى الشعبية …

يرى ثلة من الباحثين أن مظاهر انتقال الراي من تأثره بالأغنية البدوية صوب حداثة غنائية، تبدأ من اللحظة التي بدأ فيها يطلق كلمة “الشاب” أو “الشابة” كتمييز دقيق عن جيل الرواد (الشيوخ). فهذا الانتقال من طور الشعبية إلى حداثة غنائية أسهمت فيها عوامل عدة تتعلق بالاستعمار والتحديث الذي طاول الموسيقى المغاربية ككل.

تأتي عبارة “الراي” من كلمة “الرأي” أيْ الإدلاء برأي خاص. فلا غرابة أن تكون أغانيه أشبه ببوح ذاتي في موضوعات تتعلق بالحب والقهر والألم والضياع. فهي تظل عموماً ذا صبغة ذاتية اجتماعية لا علاقة لها بالفعل السياسي، كما هي الحال مع الفرق الشعبية في المغرب خلال السبعينيات. لكن في الجزائر لم يلب الراي بجرأته وجمالياته نداء السلطة وأوهامها، بل ظلت أغانيه منفية وبعيدة تغنى في البوادي وترصد سيرة المحزونين والمنكوبين، غير منتبهة للسلطة وخطابها التقليدي ….


عبر عدد من شيخات الراي طوال مسيرتهم عن أوجاع الناس متمسكين بلهجتهن البدوية (وسائل التواصل الاجتماعي)


– ولادة الراي الأصيل ….

تأتي أغاني “الراي” على لسان الشيخة ريميتي (1923-2006) على شكل ثورة وجرح، فهذه الفنانة الجزائرية عاشت سنوات من القهر والمنع، ما جعل سيرتها تراجيدية بامتياز. وتشكل اليوم أيقونة غنائية للراي الأصيل الذي يعتمد في آلاته الموسيقية بدرجة أولى على “الناي”. مثل هذا النوع من الأغاني ثورة غنائية حقيقية في الجزائر، لكون الكثير من العائلات التقليدية كانت تأبى الاستماع إلى هذا النمط من الراي، بسبب شعبيته وجرأته في طرح موضوعات محرمة، لم تستسغها بعض العائلات الجزائرية ولا تلفزيوناتها الرسمية. وهذا السبب جعل أغانيها مشهورة وتغنى فقط في المدن المقهورة البعيدة داخل الحفلات والمقاهي والملاهي والمواخير.

هذا الأمر جعل الكثير من المتخصصين يعتبرون صاحبة أغنية “دابري” استثناء حقيقياً لكونها الشيخة التي أسهمت بشكل أكبر في ذيوع الراي الأصيل وحررته من المعتقدات المسبقة التي أصبغتها عنه السلطة. فكانت ريميتي الشيخة الوحيدة التي تحملت عناء هذه الدعوة الغنائية التجديدية وخرجت به من البادية صوب المدن.

وجد المواطن الجزائري نفسه مرغماً على عشق هذا الراي الجريح الذي يرصد سيرة الناس مع أجسادهم. فمجمل أغاني الشيخة ريميتي، لم تكن لها علاقة بتحرر الجزائر، ولا باستعادة كواليس التاريخ والذاكرة، بل ظلت تعبر بصوتها الجهوري الموجوع عن حالات إنسانية تتعلق بالفرح والحب والأبناء والعشق والرغبة والهجرة. هذه الموضوعات ستشكل تيجاناً قوياً للجيل السبعيني مع خالد ومامي وغيرهم، إذ سينطلق منها بعد استقلال البلد، حيث سيضيف من جهته لمسة فنية خاصة على “الراي” داخل المنطقة المغاربية….

ويرى بعض المغنيين أن أغاني من قبيل: “نوار”، و”آوليدي”، و”سعيدة”، و”نخلة” تعتبر تراثاً غنائياً مغاربياً، لأن صداها خرج من الجزائر ووصل شرق المغرب واخترق أكثر المدن التونسية.

وعلى رغم بساطة التوزيع الموسيقي في أغاني ريميتي، فإن جرأتها وبراعة صوتها سيجعلانها أيقونة مؤثرة في طبيعة الراي المغاربي. لقد حررت الأصوات من جمودها وجعلتها تخرج الراي صوب المدن للالتحام أكثر بالناس ومشاغلهم اليومية. يقول الباحث الجزائري سعيد خطيبي الذي كتب أول كتاب عن فن الراي “على رغم نجاحها الموسيقي الواسع، لم تكن ريميتي تحب الأضواء كثيراً. امتنعت عن الظهور في التلفزيون والصحف والمحطات الإذاعية إلا نادراً. وحين تكلمت، كان حديثها يقتصر على الموسيقى، وأصرت صاحبة ألبوم “هاك السرة هاك” (أول أغنية إيروتيكية في الراي الأصيل) طوال حياتها على الاحتفاظ بلهجتها الوهرانية المميزة وبنبرتها الهادئة. عرفت حياة البؤس صغيرة. يوميات الغجر والسفر والترحال، علمتها الإصغاء المديد والاكتفاء بما قل من الكلام”….

الراي البوب

إذا كانت موسيقى الراي امتداداً عميقاً للموسيقى الشعبية، وقد تخلت عن بعض من إيقاعها السريع والمندفع. فإنها ستغدو مع الجيل الجديد الذي يمثله كل من الشاب خالد والشاب مامي وميمون الوجدي والشاب حسني والشاب نصرو وسعيد فكري ورشيد طه، مجرد أساس تاريخي لا أكثر. وذلك لأن أغانيهم استفادت بشكل أقوى من الموسيقى الغربية ومؤسساتها الإنتاجية. حيث غابت جمالية الكلمة وقوتها في محاكاة يوميات العزل الاجتماعي والاضطهاد السياسي.

هكذا بدت الأغاني تلهث وراء الإيقاع الصاخب وما يرافقه من طموح تجاري عالمي. وكان استقرار بعض وجوه الأغنية الرايوية الجزائرية بفرنسا، يمثل صورة مصغرة عن الإرهاصات الأولى لنشوء الراي الجديد الذي امتزج مع موسيقى البوب. لكن هذه الأجيال السبعينية والثمانينية، ستنقل الراي المغاربي صوب منعطفات فنية قوية أصبح بموجبها في عداد الموسيقى العربية العالمية. والسبب هنا، لا يتعلق فقط بطبيعة التحول الموسيقي للراي، ولكن أيضاً بسبب المؤسسات الإنتاجية الفرنسية الكبيرة التي تبنت هذا اللون الموسيقي وعرفت به. بحيث استفاد كل من خالد ومامي من جودة هذه المؤسسات الراديكالية الموسيقية مع تنامي موجات اليسار الفرنسي….


لم يكن شيوخ الراى وهم ينسجون مواويلهم الحزينة جراء الاستعمار يدركون أن موسيقاها ستغدو علامة فنية ستكتسح العالم  (وسائل التواصل الاجتماعي)


ويذهب الباحث مصطفى رمضاني إلى أن من خصائص موسيقى الراي أنها عبارة عن “مترددات غنائية منفصلة عن بعضها البعض”. فهذه الفراغات تشغلها الموسيقي وتحاول اللعب بأنغامها. وقد شكلت هذه الخصائص ميزة جمالية بالنسبة للراي، بحكم أن الكثير من الشيوخ الجزائريين كانوا يشاركون في أعراس مغربية والعكس أيضاً. فهذا التلاقح الموسيقي يرجح عدد من الباحثين والمغنيين أنه السبب في نشأة جذور الراي، لكن لا أحد يعرف مع هذا من الأسبق في اكتشاف الراي.

الراي الرومانسي

لعل أهم تحول شهدته موسيقى الراي تمثل في “الراي الرومانسي” مع الشاب حسني (1968-1994) الذي سيقوم بثورة حقيقة في هذا المجال. فأغلب الناس الذي يستمعون إلى الراي داخل العالم العربي يتعرفون إليه أكثر من خلال صوت حسني. فهذا الفنان الشاب الذي تم اغتياله خلال التسعينيات، ظل أكثر توهجاً في الذاكرة الموسيقية العربية. ذلك أن صعوبة المرحلة السياسية في الجزائر (العشرية السوداء) وتزايد حجم الخطابات الدينية ستسهم في منع الراي.

ففي هذه المرحلة التي كانت تشهد صراعاً سياسياً وأيديولوجياً دفع كبار الموسيقيين من الجزائر والمغرب وتونس إلى الهجرة خارج البلد والدخول في مسلسل التجريب الموسيقي، ظل حسني الصوت الأكثر تمثيلاً للراي الرومانسي. بحكم أنه المغني الوحيد الذي تشرب أحلام جيل بأكمله. هكذا أعاد من خلال الراي محاكاة تجارب الناس ورصد سيرة الخيبة التي ظللت سيرتهم في ذلك الإبان.

امتزاج الراي منذ الثمانينيات مع موسيقى البوب، حيث أصبحا معاً كتلتين موسيقيتين موحدتين، وجعل أيضاً أسماء مغاربية تحلق بعيداً في سماء الراي من خلال إقامة سهرات في فرنسا والتعريف بهذا النمط الغنائي، ومحاولة خلق شراكات فنية مع فرق أجنبية والتخلي عن الأوركسترات المغاربية والدخول صوب منعطف الموسيقى الإلكترونية التي أسهمت في شهرته أكثر. لكن في تأزيمه أيضاً وجعله مجرد سلعة تجارية تؤدى تحت الطلب، أكثر من كونه موسيقى نابعة من شغاف الجسد وجرح الناس المستضعفين والمقهورين داخل المغرب والجزائر ….


5  —- الراي من الصوفية إلى الشارع..مسار فن على درب الآلام والمعاناة …

 

تحظى أغاني الراي، اليوم، باهتمام متزايد وشهرة واسعة في كلّ أنحاء العالم، إذ لم تعد منحصرة في الجزائر وبلدان المغرب العربي، بل عبرت البحر إلى غرب أوروبا، لا سيّما فرنسا والبلدان، التي استقبلت الكثير من المهاجرين المغاربيين.
يكمن سرّ شعبية الراي في خصوبته وتنوّع مؤثّراته. فهو لون غنائي “مخضرم”، نشأ وترعرع في الحضرات الصوفية والزوايا، حيث يجتمع مريدو هذه الطرق في المدن والقرى الجزائرية، خصوصاً في وهران والمناطق الشرقية، التي تُعدّ منبع الراي. كانت مواضيع معظم هذه الأغاني دينية، اتخذت أسلوب “المدائح النبوية”، وكان يُطلَق عليها اسم “الملحون”.

إبّان الاحتلال الفرنسي للجزائر في عام 1830، وبعد أن تخلّى الأتراك عن حمايتها، أخذ الجزائريون على عاتقهم مسؤولية الدفاع عن أنفسهم، فأعلن شيوخ الطرق الصوفية التعبئة العامة، وانطلقت ثورة “الظهرة” في عام 1845 لمواجهة المحتلّين.

في تلك الفترة، بدأ الراي يتحوّل إلى لون من الأغنيات الشعبية، وكان لـ”الشيخ حمادة محمد السنوسي” وأتباعه، المناهضين للاحتلال الفرنسي، اليد الطولى في صناعة أغنيات الشارع في وهران وسيدي بلعباس. لم تقتصر موضوعاتها على المدائح النبوية، بل أخذت تتنوّع مضامينها لتعبّر عن أفكار الثورة ومعاناة السكان، من الفقر والبؤس والمرض، والاعتقالات التعسّفية ومضايقات الشرطة الاستعمارية، ولذلك حرّضت بشكل غير مباشر على الثورة. كان أتباع “الشيخ حمادة” يرتدون اللباس الأبيض الطويل والعمائم، ويغنّون مطلقين صيحاتهم الحماسية في الشارع: “راي، راي”، بمعنى طلب المدد الروحي وسداد الرأي.

اجتمع في حيّ “درب” اليهودي في وهران، موطن الموسيقى، مغنّون من أمثال “رينيت لورانيس” و”سعود الوهراني” و”العربي بن ساري”. إلى جوار الحيّ تمتدّ منطقة “سيدي الهواري” البحرية حيث منازل الصيادين، وهناك كان يتجمّع الباحثون عن اللهو من العمال والفلاحين الجزائريين، والمستوطنين الفرنسيين، واللاجئين الإسبان، ممن وفدوا إلى المدينة البحرية بحثاً عن الرزق، جالبين معهم مؤثّرات موسيقى جنوب إسبانيا.
إلى ذلك يشير المؤرخ الفرنسي مارسيل إيميري بقوله: “معظم الثورات التي وقعت في القرن 19 في الجزائر، أُعدّت ونُظّمت ونُفّذت بوحيٍ من الطرق الصوفية، فالأمير عبد القادر كان رئيساً لواحدة منها، وهي (الجمعية القادرية)”.
ومع صعود المنظمات الثورية في الجزائر خلال ثلاثينيّات القرن 20، كان الراي قد تلاقح ليرسو على مزيج هجين من الموسيقى البدوية وأغنيات الريف الجبلية، وخرج من خليط لون “الغناوا” الأفريقي، والفلامينكو الإسباني، وأغاني اللهو الفرنسية.
“الشيخ الهاشمي” كان أوّل من سجّل هذه الموسيقى في عام 1906، وأُدخِلَت إليها فيما بعد آلات جديدة مثل “السنثسيزر” و”الساكسو”. كما استخدم مغنّو الراي كلمات بذيئة في تلك الفترة، دون تحفّظ، فأطلق على فنّهم اسم “الفنّ الممنوع”، وتعرّض للقمع من الجهات الرسمية لاحقاً، بعد إعلان حكومة الاستقلال. والسبب هو تجرّؤ الراي على انتقاد النظام السياسي والواقع الاجتماعي. لقد عانى الموسيقيون من التضييق، بحجز جوازات سفرهم، كما تعرّض بعضهم للتهديد والخطف والاغتيال، على أيدي مناصرين للجماعة الإسلامية السلفية بالجزائر.

في 29 أيلول/سبتمبر 1994، اغتيل الشاب حسني، مغنّي الراي الأشهر في الجزائر، ثم اختطفت الجماعة نفسها المغني القبائلي معطوب الوناس، واغتيل منتج الراي، رشيد بابا أحمد، في مدينة وهران عام 1995.
كان المنع الرسمي والمحاربة غير الرسمية، من قبل الجماعة الإسلامية، من الأسباب الأساسية، التي ساهمت في تزايد شعبية الراي في الجزائر وخارجها. تضاعفت مبيعات أشرطته، ولقي اهتماماً متصاعداً من قبل الصحافة الأوروبية والعالمية.

بقي الراي على هذه الحالة حتى عهد الرئيس الشاذلي بن جديد، الذي أعلن انفتاحاً اقتصادياً ليبرالياً اجتماعياً في عام 1979، وكان من نتائج هذا الانفتاح أن اعترفت وزارة الثقافة الجزائرية بالراي كنوع غنائي فلكلوري، يعبّر عن ثقافة المكان. ثم أُقِيمِ أوّل مهرجان لأغنيات الراي في الجزائر في عام 1986، بمشاركة فرقة “راينا راي”، التي تأسّست في سبعينيّات القرن الماضي في مدينة بلعباس بعد استقلال الجزائر. وهي تُعتَبَر أوّل فرقة ذات طابع عالمي لهذا اللون الغنائي.

أما تلقيب مغني الراي بـ”الشاب” فهو “تقليعة” حديثة العهد، تعود إلى بداية الثمانينيّات، إذ أُقِيمَت مسابقة تلفزيونية للمغنّين الشباب في الجزائر، وتمّ تعريف المشاركين بلقب “الشاب”. وفاز في تلك المسابقة مغنّي الراي “الشاب مامي”، وانسحب اللقب على مغنّيي الراي جميعهم، في الجزائر والمنافي الأوروبية.

يمكن لمستمعي الراي أن يلاحظوا الأثر العميق للطرق الصوفية ورجالها على هذا اللون الموسيقي، فما زالت كلمات الراي تتغنّى بأقطاب ومشايخ الصوفية، كما هو الحال في أغنية الشاب خالد ذائعة الصيت، “عبد القادر يا بو علَام”، مناجياً المتصوّف الشهير “عبد القادر الجيلاني”. وفي الأغنية نفسها: “سيدي بو مدين” أي الشيخ الصوفي “أبو مدين التلمساني”، و”سيدي عبد الرحمن”، المقصود به “الشيخ محمد بن عبد الرحمن الأزهري” الشهير بـ”أبي قبرين”….



6 —– عميد الأغنية البدوية الشيخ حمادة ،،،،، الفنان الذي أحدث “ربيعا عربيا” في الأغنية البدوية …


من دوار أولاد طواهرية بمستغانم إلى مدينة الجن والملائكة فعاصمة ألمانيا برلين، كانت رحلة المغني البدوي الشهير باسم الشيخ حمادة، الذي دوّى صوته في الآفاق وسجّل اسمه بأحرف من ذهب في عالم الأغنية البدوية.. غنّى لكبار شعراء البدوي، وكان مدرسة لكل الأجيال التي لحقته سواء في مدرسة البدوي وحتى الشعبي..

في يوم 9 أفريل 1968 فقدت الساحة الفنية أحد أعمدة ورواد الأغنية البدوية ذات الطابع الوهراني، الشيخ حمادة، واسمه الحقيقي قوعيش محمد بن عبد اللّه، من مواليد 1889 ببلاد طواهرية ذات الطابع الفلاحي، التي تبعد عن مدينة مستغانم بحوالي 18 كلم.. عمل وهو صبي في مزارع المعمّرين بالمنطقة، وعانى الأمرّين من ظلم واضطهاد المعمرين للعمال الجزائريين، كما تحمّل المسؤولية العائلية بعد وفاة والده عبد اللّه وهو صبي، وكان يعبّر عن همومه وأحزانه وظروفه الاجتماعية العسيرة، أثناء ساعات العمل بمزارع المعمّرين، مرددا مقاطع من قصائد كبار شعراء البدوي، التي كان يتغنى بها كبار فناني ذلك العصر.

كما كان الشيخ حمادة سريع الحفظ وكثير التردد على الحفلات والسهرات والولائم التي كانت تقام هنا وهناك، وكانت بمثابة الخزّان الذي أثـرى به فيما بعد رصيده الفني، قبل أن يقرر الرحيل، سنة 1919، إلى مدينة مستغانم بعد أن سئم الحياة بمسقط رأسه والاستقرار بحي تيجيدت العتيق أو بالمدينة العربية، مثلما كان تسمى في عهد الاستعمار. وهناك ترعرع الشيخ حمادة بين أفراد عائلته وبين أصدقاء الحي، وكانت عائلته تقيم بالشارع رقم 21، الذي لا يزال شاهدا على تلك الحقبة التاريخية من حياة ومسار الشيخ. دخل في طفولته المدرسة الفرنسية وتتلمذ على يد معلمه الشيخ إبراهيم فاتح، وأخذ مبادئ اللغة العربية عن معلمه الشيخ بلقاسم بن طيفور.

– الولع بالفن الأصيل منذ نعومة الأظافر …

كان الشيخ حمادة منذ الصغر مولوعا بالفن البدوي، الذي تشتهر به المنطقة وأريافها، والحاضر بقوة في المناسبات الدينية والأفراح. أخذ الطفل حمادة أولى مبادئ فنه عن شيوخ كبار في الأغنية البدوية الأصيلة، عندما استقر بمستغانم، والتقى بهم ونسج علاقات محبة وطيدة معهم، على غرار الشيخ دحمان بوطرفة، الشيخ قدور ولد العجال والشيخ المنور ولد يخلف، الذي سجل أول أسطوانة 33 لفة سنة 1908.

تعرّف عن قرب على شعراء الأغنية الشعبية والأندلسية، منهم الشيخ سعيد لولو اليهوديى والشيخ عبد الرحمان، وكذا مشايخ الشعر الملحون الذين غنى الكثير من قصائدهم. كما غنى لأبرز شعراء تلك الفترة كمصطفى بن براهيم والخالدي وابن قانون وابن طبجي المستغانمي صاحب رائعة عبد القادر يا بوعلام. وصقل الشيخ حمادة موهبته الفنية بالنهل مما يسمعه في السويقة بحي تيجديت، عندما كان يلتقي سنويا مختلف شعراء المنطقة، بمن فيهم شعراء مازونة، حيث تلقى آخر ما جادت به قرائح هؤلاء، في جو تنافسي بين المبدعين في الشعر الملحون، وكان ذلك في مطلع سنة 1920.

–  غنى لأكبر شعراء البدوي …

كانت سنة 1920 بداية انطلاق المسار الفني للشيخ حمادة، رفقة الشيخ عبد اللّه بوطرفة رفيق دربه في أحياء الحفلات والأعراس. ويروي ابنه، الأستاذ قوعيش عبد اللّه رئيس بلدية مستغانم سابقا، وأحد أعيان المدينة حاليا، أن والده كان يغني إلى جانب الشيخ بوطرفة كلّما أتيحت له الفرصة في الأعراس، فبدأ يسطع نجمه. كما كان ذا صوت جميل شدّ الانتباه وقتها، فأسس فرقته الشخصية نهاية سنة 1923 وبداية سنة 1924، محدثا بذلك ثورة في الأغنية البدوية، بداية بالقصابة مشترطا انسجام صوت آلة النفخ ونغمة الصوت ونوعية القصيدة المغناة، حتى لا يفر المستمع.

ومن أشهر “قصابة” الشيخ حمادة الذي رافقه لمدة طويلة في مسيرته الفنية عدة ولد لكحل، الشارف بن ساسة، وسي بوعلام بن التكوك شقيق الشاعر عبد اللّه بن التكوك صاحب المدائح النبوية والتوسلات وبوديسة، وابن فريحة قدور الذي رافق الشيخ حمادة من سنة 1952 إلى سنة 1963. أما “القصابان” اللذان لازماه إلى آخر رحلة فنية قبل وفاته هما الحاج بوديسة وبلقاسم الخدوسي.

ومن أشهر “البراحين” بوحسيون والحبيب المعسكري، كما “برّح” له مشاهير أثناء تسجيلاته الكثيرة، منهم محي الدين بشطارزي، رشيد القسنطيني ورفيقته ماري سوزان، الشيخة يمينة بنت الحاج المهدي، والشيخة طيطمة التلمسانية. وقد صادف ذلك تواجدهم أثناء تسجيلاته.

ويسجل للشيخ حمادة، يقول أقاربه، أنه أول من اقتحم عالم القصيدة الشعبية وغناها بالطابع البدوي بـ«القصبة” و«الڤلال” والانتقال بذلك بالأغنية البدوية من عوالم الأرياف إلى عوالم المدينة والحضر، وذلك بشهادة الفنان الكبير عميد الأغنية الشعبية معزوز بوعجاج.

البداية الفنية للشيخ حمادة لم تختزل في مدينة مستغانم وضواحيها، فراح يبحث عن الشهرة والبروز في وهران، وبالذات في أكبر فضاء يلتقي فيه شعراء وفنانو الأغنية البدوية “الطحطاحة” بالمدينة الجديدة، وكان ذلك سنة 1925، حين التقى بالشاعر الكبير الخالدي عبد القادر، وغنيا معا لأول مرة أغنية “يا الميلود” في أداء ثنائي فريد من نوعه أبهر الحضور، ولم يتكرر بعدها ذلك الثنائي في مسيرة الشيخ. كما التقى بالشاعر والفنان القدير الشيخ المدني وآخرين.

من دوار “أولاد طواهرية” إلى باريس وبرلين

كانت بداية النجومية ودخول عالم الفن والشهرة من بابه الواسع. وجاء الرد سريعا بعد أن أصبح الشيخ حمادة نجما لامعا في مجال الأغنية البدوية، فانتشر خبره وبات محل اهتمام المعجبين به، فسارعت مؤسسات الإنتاج الأجنبية لاستغلاله فنيا، لا حبا في الأغنية البدوية الجزائرية كتراث وموروث حضاري، وإنما من أجل الربح المادي، فعرضت عليه التسجيل، منها غراموفون، فيليبس، وباتي، التي لا تملكةةة  أستوديوهات للتسجيل بالجزائر، فعرضت على الشيخ السفر إلى فرنسا وألمانيا للتسجيل هناك. وكانت الفرصة لإبراز الأغنية البدوية ونشرها في الوسط الشعبي، فسافر إلى العاصمة الفرنسية باريس سنة 1930 لتسجيل أول أسطوانة له، إلا أن القدر أراد عكس ذلك بسبب عطب تقني بالأستوديو فتنقل إلى عاصمة ألمانيا برلين، وهناك بأستوديوهات بوليفون سجّل أغنية “يا عودي اللّه” رفقة “القصابين” الشارف بن ساسة وسي بوعلام بن التكوك من شعر الحبيب بن قنون، التي لقيت نجاحا وشهرة واسعة في وسط محبي الفن البدوي.

وأثناء التسجيل التقى بالفنانة فضيلة الدزيرية وبالفنان المصري الكبير محمد عبد الوهاب، وحسب ابن الشيخ حمادة، الأستاذ عبد اللّه، فقد بلغ عدد الأسطوانات المسجلة، منذ سنة 1930 إلى غاية وفاته، 500 أسطوانة 78 و45 لفة، وأغلب عناوينها مدوّن بخزانة الإذاعة الوطنية.

–  عاشق المسرح وموسوعة الشعر …

كما كان للشيخ حمادة حضورا دائما في المناسبات والسهرات الفنية التي تحتوي على فصل أول خاص بالعروض المسرحية وعرض ثان خاص بمشاهير الطرب، كان من بينهم الشيخ حمادة، فربطته جراء ذلك علاقة وطيدة مع الكثير من فناني المسرح، على غرار كلثوم ومحي الدين بشطارزي وكاكي، لذا كان اهتمامه كبيرا بالمسرح والسينما، وكان عبارة عن موسوعة يحفظ العشرات من القصائد لكبار شعراء الجزائر، من الخالدي إلى مصطفى بن إبراهيم إلى ابن كريو إلى ابن ڤيطون والزناتي، وكان حفاظا يقصده الشعراء والفنانين لتصحيح القصائد الغنائية.

ومن الفنانين الذين استعانوا به المسرحي ولد عبد الرحمان كاكي، المبدع المجدد المسرحي الموظف للتراث في المسرح، على غرار الڤوال والحلقة والأهازيج الشعبية، وكذا الفنان الكبير معزوز بوعجاج عميد الأغنية البدوية. كما كان شيخ الأغنية الشعبية الحاج محمد العنقى والحاج منور وفضيلة دزيرية من ضيوف الشيخ حمادة، كلما حلّوا بمستغانم، حيث كان يزوّدهما بالقصائد والأشعار التي تزخر بها مستغانم.

–  غنى في عيد العرش الملكي ورفض القيام لتحية الباشا ….

أحيى الشيخ حمادة العديد من السهرات الفنية الخاصة بالطرب البدوي، في جهات مختلفة من المغرب الأقصى بداية من سنة 1942. وبدرجة خاصة كان يستدعى لأحياء الأعراس أثـرياء وأعيان مدينة وجدة المغربية. كما غنى في عيد العرش الملكي في عهد الملك محمد الخامس، بعد أن تلقى دعوة رسمية من الديوان الملكي، وهناك احتك بالفنانين والشعراء المغاربة، خاصة شعراء الملحون والأغنية الشعبية، وحمل معه مجموعة من القصائد المغربية التي نالت إعجابه، فلحّنها وغناها، منها ما نالت شهرة واسعة على غرار “هاجو لفكار”، “العيد الكبير”، “يا لوشام”، “بنات البهجة”، “يابوي كيراني”، و«يوم الخميس واش أداني”. الأغاني نفسها أعادها الفنان الشعبي الكبير محمد العنقى في الطابع الشعبي. وأحيى الشيخ حمادة سنة 1951 حفلا فنيا بمدينة وجدة أثناء السهرة الفنية، وفجأة قام الجميع من أماكنهم لتحية “الباشا”، إلا حمادة بقي جالسا في مكانه بوقار متربعا، فهمس أحدهم في أذن الشيخ “قم لتحيي سيادة الباشا”، فردّ عليه بجواب الواثق وبعزة نفس: “أنا جئت لأغني لشعب المغرب الذي يكنّ وأكنّ له الاحترام والتقدير الذين رفعوني إلى قمة السماء بكرمهم وحبهم لي وتذوّقهم الراقي إلى الأغنية البدوية الجزائرية الأصيلة، ليس لكي أقف وأنحني أمام الباشا لتحيته”.

وواصل الشيخ حمادة الغناء غير مبال بوجود الباشا الذي جلس يتأمل في حمادة وهو يؤدي أغنية “هاجو لفكار”، وما إن انتهى، طلب منه الباشا غناءها مرة ثانية، فرفض الشيخ وغادر المكان بكل أناقة واعتزاز بالنفس، غير مبال بوجود الباشا أمام حيرة ودهشة الحضور الذين بقوا في حزن بعد أن أفسد الباشا الحفل.

–  توقّف عن الغناء وجنّد أبناءه في ثورة التحرير …

كانت منطقة سيدي علي وضواحيها، عند اندلاع ثورة التحرير الكبرى في الفاتح من نوفمبر 1954، تحت قيادة البطل الشهيد ابن عبد المالك رمضان، مفجر الثورة بمستغانم وجبال الظهرة وأول شهيد يسقط في ساحة الشرف 4 أيام بعد اندلاعها، ثم الشهيد برجي مختار فيما بعد على موعد مع الحدث التاريخي الكبير في مسار ونضال الشعب الجزائري.

توقف الشيخ حمادة عن الغناء لمدة زمنية وتجنّد أبناؤه الثلاثة في صفوف جيش التحرير وهم الشارف، عبد القادر وأحمد. هذا الأخير نال الشهادة أثناء معركة ضارية بين ثوار جيش التحرير وعساكر العدو الفرنسي جرت بالحدود الجزائرية المغربية، وذلك سنة 1959، أما ابنه عبد القادر المغترب بفرنسا فكان مناضلا في صفوف جبهة التحرير الوطني “فيدرالية فرنسا”، ألقي عليه القبض وسجن بمدينة ليون سنة 1961 وأطلق سراحه في 19 مارس تاريخ توقيف القتال، إلا أنه اختُطف فيما بعد واختفى عن الأنظار إلى غاية اليوم.

–  توظيفه للأغنية البدوية في مختلف المجالات …

تناول عميد الأغنية البدوية الشيخ حمادة، في سجله الحافل، الأفراح والأحزان والحب، وكان مواكبا لأحداث عصره الكبرى في الجزائر، كزلزال الأصنام سنة 1954، وكان متفاعلا مع ثورة التحرير وكل ذلك مدوّن في أغانيه، التي تعد تراثا هاما أثـرى المكتبة الوطنية للأغنية البدوية الجزائرية الأصيلة وإنقاذها من الضياع، بقيت أغانيه إلى اليوم ذات صدى واسع تردّدها الأصوات في كل مكان، رغم رحيله ذات يوم أربعاء 9 أفريل 1968، بعد أن أدى فريضة الحج.. وكان يوما حزينا وكئيبا في تاريخ مدينة مستغانم، وفي تاريخ الأغنية البدوية الجزائرية.


الباحث المختص في الأشرطة الوثائقية مصطفى عبد الرحمان
مستغانم لم تعط الشيخ حمادة حقه …

قال مصطفى عبد الرحمان، الباحث في التاريخ والتراث المحلي، ومخرج العديد من الأشرطة الوثائقية التاريخية والثقافية ومن المهتمين بالحركة الثقافية والفنية بمستغانم، إن مستغانم لم تعط الرجل حقه إلى غاية اليوم بعد رحيله سنة 1968. كما لم يحظ من قِبل النخبة المستغانمية المثقفة بالبحث والكتابة، وكل ما أنجز عن الشيخ حمادة، حسبه، هو مسلسل من عدة حلقات في الثمانينيات من تأليف وإخراج الحاج أحمد منصوري، وإنتاج المحطة الجهوية للتلفرة الجزائرية بوهران، وهو العمل الوحيد. وأشار المتحدث إلى أن الوالي السابق، زوخ عبد القادر، أعاد الاعتبار إلى الشيخ حمادة، حيث كان من القائمين والمشرفين شخصيا على فعاليات “مهرجان الشيخ حمادة للأغنية البدوية”، بمسقط رأسه بأولاد طواهرية، مضيفا أنه أعاد الاعتبار من خلال الكم الهائل للفنانين والشعراء المشاركين من كل ربوع الجزائر، إلا أن التظاهرة أقبرت مباشرة بعد رحيله، ولا أحد اليوم يتذكر الشيخ حمادة، بل إن الكثير منهم لا يعرف حتى تاريخ وفاته. وأكد مصطفى عبد الرحمان أن الشيخ حمادة، الذي كان ينحني له الأوروبيون عندما يمرّون أمامه لتحيته بوسط المدينة، يعتبر من أعمدة مستغانم في الفن، إلى جانب المسرحي كاكي والفنان التشكيلي خدة، ومن الواجب أن يكونوا أحياء في الذاكرة، لأنهم جزء من تاريخ المدينة التي تعتز بهم ولو في صمت رهيب …..



7 — جزائري أم مغربي؟ أصول فن “الراي” تؤجج الجدل مجددًا — بعد الأصطدام في في فن الغرناطي والطرب الأندلسي …..
  

في أواخر 2020، أدرجت منظمة “اليونيسكو” طبق الكسكس ضمن التراث المغاربي، فأنهت بذلك جدلا بين المغرب والجزائر حول البلد الأجدر بأن تنسب إليه هذه الأكلة الشهيرة، لكن الجدل تواصل في مجالات أخرى؛ من بينها الفن.

وأصبح فن الراي، في قلب هذا “التجاذب” مجددا، بعدما قامت الجزائر، مؤخرا، بسحب ترشيحها من اليونيسكو، في خطوة أثارت ردود فعل متباينة.

وبادرت وزارة الثقافة الجزائرية إلى التوضيح، فأكدت أنها سحبت ملف ترشيح فن الراي، حتى تقوم بإيداعه مجددا في مارس الجاري، وعزت هذه الخطوة إلى الحرص على أن يكون الملف مكتملا.

ونقلت صحيفة “الشروق”، عن وزيرة الثقافة الجزائرية، سميرة بن دودة، أن الملف كان سيلقى رفضا من اليونيسكو، لو لم يجر سحبه من قبل الوزارة، والسبب هو عدم اكتماله.

وأشارت إلى أن الوزارة تفادت أن يتعرض للرفض، لأن ذلك كان سيضطر البلاد إلى انتظار ثلاث سنوات أخرى قبل تقديم الترشيح مجددا “سحبناه باحترام”.

وبينما تعزو وزارة الثقافة في الجزائر، هذا السحب إلى جانب إجرائي محض، ثمة جدل يدور على المنصات الاجتماعية، وبين المهتمين بالشأن الفني، حول أصول الراي.

على المستوى الرسمي، تؤكد بن دودة، حرصها على جزائرية فن الراي الذي بات يلقى إقبالا وإعجابا في مختلف دول العالم.

ويقول جزائريون، إن هذا الفن أصيل في بلادهم، وحتى النجوم الذين حملوا مشعله في الخارج انطلقوا من الجزائر إلى الخارج، أما الذين غنوه في دول أخرى، ففعلوا ذلك، في وقت لاحق، من باب التأثر….

إلى الجزء الثاني- يتبع

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.