نزار بولحية
«عاش
الشعب».. لن يتنازع اثنان في ذلك. لكن كيف سيحصل الأمر؟ ربما كانت تلك هي المشكلة
في كل الأقطار العربية بلا استثناء. أما في بلد مثل المغرب فإن ذلك السؤال الحارق
عاد ليطرح نفسه من جديد، بعد أن تراكم على مدى السنوات كم هائل من الأزمات، رافقه
اتساع في الفجوة الاجتماعية والاقتصادية، ليلوح معها جليا نوع من التعكر والقلق في
المزاج العام المغربي، زاده حدة حدثان حصلا قبل أيام، في وقت كانت فيه المؤشرات
تدل على العكس تماما، مع صدور قرار من مجلس الأمن الدولي الاربعاء الماضي بالتمديد
في عمل بعثة الامم المتحدة في الصحراء والمعروفة بالـ«مينورسو» لمدة عام كامل،
بدلا من ستة شهور، كما كان يحصل في السابق، ما عد نصرا دبلوماسيا للرباط في نزاعها
المرير من أجل إثبات مغربية الصحراء، وشكّل «انتكاسة لأعداء الوحدة الترابية
للمغرب، الذين يروجون أكاذيب حول وضعية حقوق الإنسان واحترام الحريات العامة في
الصحراء المغربية»، بحسب ما جاء في تصريحات إعلامية للسفير والممثل الدائم المغربي
في الأمم المتحدة.
وما جعل ذلك المزاج يبدو الآن على ذلك النحو، وغطى بالمقابل على كل مظاهر الفرح
والاستبشار بالقرار الأممي، هو مشهد حرق العلم المغربي في باريس، خلال مسيرة نظمها
ناشطون دعما لحراك الريف، ثم الضجة التي خلفها ظهور اغنية راب حملت عنوان «عاش
الشعب» وأداها ثلاثة شبان لتحوز في ظرف قصير على سبعة ملايين متابع في موقع يوتيوب
وحده، وتسبب حرجا وارتباكا في بعض دوائر السلطة المغربية. فطوال السنوات الثلاث
التي مرت على اشتعال ما عرف بحراك الريف على أثر حادثة دهس شاحنة نفايات لبائع
الأسماك محسن فكري، لم يسجل ولو في أقوى التظاهرات والمسيرات، التي شهدها الشمال
المغربي، أي حرق للعلم، وحتى حين رفع البعض راية الريف القديم إلى جانب العلم
المغربي، سارع من كانوا حينها قادة الحراك إلى التبرؤ من أي دعوة، أو بادرة
للانفصال، ولم تحمل شعاراتهم ومطالبهم ما يوحي أو يدل على رغبتهم في الاستقلال عن
المغرب، أو إنكار الانتماء له.
هناك من يريد أن يخرج الحركات الاحتجاجية، شمال المغرب، وحتى في أجزاء من الجزائر عن مسارها الأصلي ويحولها إلى حركات انفصالية واستقلالية، قد تهدد وحدة البلدين
ولاجل ذلك فقد كان مشهد حرق العلم المغربي في باريس بالذات، شاذا وغريبا وخارج السياق، والأغرب منه كان تصريح حليمة زين، السيدة التي اقدمت مع آخرين على فعل ذلك، إلى محطة «بي بي سي عربي» التلفزيونية، الذي قالت فيه لتبرير الفعلة، أن الريف لم يكن أبدا مغربيا. ولا شك بأن مثل تلك المواقف لم تكن فريدة من نوعها فقد ترددت سابقا من بعض الأوساط، إلا أن خروجها الآن من جديد، وفي وقت يسجل فيه المغرب تقدما، وربما حتى نجاحا في ملف الصحراء، يثير قدرا واسعا من التساؤلات عن الغاية الحقيقية من ورائها، وما الذي يريد من سعوا إلى تصوير، ثم تسويق مشهد حرق العلم، والتذكير معه مجددا بالتطلع لفصل الريف عن المغرب. فهل يكون الأمر تقدمة وتمهيدا لترتيبات يجري التحضير لها الآن للمرحلة التي ستلي الحل المرتقب لملف الصحراء؟ أم أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد استفزاز، أو إشارة عابرة من بعض الأطراف والقوى الإقليمية، وربما الدولية، التي لا يرضيها مثل ذلك الحل المتوقع، هدفها الضغط على الرباط وتوجيه رسالة إلى المغاربة، بأن عليكم أن لا تطمئنوا كثيرا إلى انتصارهم الدبلوماسي الظرفي، لأنها أي تلك الأطراف، تملك ملفات وازنة تخص الوحدة الترابية، وربما حتى شؤونا مغربية اخرى، وتستطيع أن تخرجها في الوقت الذي تراه مناسبا، حتى تخلط الأوراق، وتبقي على نوع من التهديد الجدي والمستمر لأي استقرار في المنطقة؟
سيكون من غير المستبعد أن يكون هناك خيط ولو رفيع يربط بين الأمرين، أي بين تلك الإشارة الرمزية لحرق العلم وتعالي الأصوات المطالبة بانفصال الريف عن المغرب، وما تحققه الرباط من تقدم في ملف الصحراء، وما يلوح من بوادر لنجاحها المرتقب في التوصل لصيغة حل للمعضلة الشائكة، المؤكد أن هناك من يريد أن يخرج الحركات الاحتجاجية، خصوصا في شمال المغرب، وحتى في أجزاء من الجزائر عن مسارها الأصلي ويحولها إلى حركات انفصالية واستقلالية، قد تهدد وحدة البلدين، وربما تضعهما في مواجهة مفتوحة مع جزء من شعبيهما، في ما يهيء الرأي العام المحلي والدولي للنظر إلى اي رد فعل عنيف، أو قوي من جانب السلطات على ذلك، على أنه انتهاك صارخ للحريات وحقوق الإنسان، وربما يمضي لأبعد من ذلك فيفتح باسم بعض المبادئ كحق الشعب في تقرير مصيره مثلا، أبواب البلد على المجهول. ومع أنه لا أحد قال إن المغرب قد تحول إلى ديمقراطية مثالية، وصار ينعم بحرية فريدة لا نظير لها في محيطه العربي، أو حتى الافريقي على الاقل، إلا أنه سيكون من الإجحاف أن ينظر إلى سجله في ذلك الميدان على انه مظلم ومعتم وخال تماما من أي نقطة مضيئة أو بيضاء. فمن المؤكد أن المغرب اليوم ليس تشيلي بينوشيه ولا هو ايضا مملكة السويد أو النرويج، فلا يعيش المغاربة بعد في ملكية دستورية، كتلك التي يطالب بها الأمير هشام ابن عم الملك وآخرون غيره، مثلما أنهم لا يعيشون ايضا في عصر سنوات الرصاص.
ولأجل ذلك فإن الحدث الثاني وهو الضجة التي تلت ظهور أغنية الراب «عاش الشعب» كانت مضخمة ومبالغة بعض الشيء. فما الذي كان سيزعج السلطات لو أنها تجاهلت الأمر تماما، ولم تقم باعتقال واحد من المغنين الثلاثة تحت مبرر تهجمه على رجال الشرطة في أغنية سابقة؟ وهل أنها وقعت في فخ ما؟ أم أنها أوقعت نفسها فيه؟ ثم هل أن هناك اطرافا داخلية، وربما حتى خارجية سعت، أو أرادت أن تورط المغرب في ملف الحريات لغايات أخرى بعيدة تماما عن الأصل؟ لقد كانت الكلمة المفتاح في الاغنية هي عاش الشعب، بدل الشعار التقليدي للملكة وهوعاش الملك. ولكن هل سيكون من الضروري أن ينفي هذا ذاك؟ وهل أن مشكل المغاربة مع الملكية كنظام؟ أم أن مشكلهم مع منظومات كرست الظلم والفساد والتفاوت الطبقي الكبير الذي يعم البلاد؟ ليس معروفا حتى الآن أي مسار ستتبعه السلطات في تعاملها مع ارتدادات الأغنية، أو ما الذي يمكن أن تحشده من وعي بالمشاكل والازمات الاجتماعية والاقتصادية العميقة للبلد، غير أن خبرتها والتجارب التي حصلت من حولها، تعطيها أمثلة وأدلة قوية على أن اسلوب القبضة الحديدية لم يكن ولن يكون مجديا.
لكن هل أن الحل الوحيد هو ان «يجمع صاحب الجلالة المغاربة من جديد» كما اقترح الوزير السابق محمد زيان ويطلق مبادرة ما نحو شعبه؟ أم انه لا بد اولا من الانصات إلى صوت الشباب مثلما اقترح الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية؟ وحده الشعب المغربي من سيقرر ويختار كيف يعيش في دولة حرة وعادلة.
كاتب وصحافي من تونس