الدولة في الجزائر تعتريها حالة دَوْخة إستراتيجية حادّة، ولعلَّها مُزْمِنَة.. حواليْها، جنوبا وغربا، الدول منهمكة في النهوض بتحدّيات التنمية، تواجه أسئلتها وتتحمل قلقها، وتحفر فيها ممرات إلى المستقبل. دولة الجزائر، في المنطقة، الوحيدة المسكونة بالماضي، تعاني أوجاعا في الذاكرة، تحجُب عنها تبصُّر المستقبل. كل أساسات الدّوْلة وثقافتها مشدودة إلى أسطورة المِليون ونصف المِليون شهيد في حرب التّحرير من أجل استقلال الجزائر، وليس من أجل ما هي عليه دولةُ الجزائر اليوم وَهَب الشهداء حياتهم لها.
آخر أعراضِ حالة الدوخة الإستراتيجية للجزائر، ما أطلقته الدَّوْلة من غضْبَة “مضَرية” ضِدَّ دَوْلَة الإمارات العربية بكلّيتها، من خلال التلفزيون الرَّسمي، ليلة الجمعة، شنَّت الجهة الرسمية الجزائرية على الإمارات العربية غارة بمنسوب عال من الانفعال مع صرخات من الوعيد.
كان ذلك بسبب كلام لمؤرّخ جزائري في حوار مع صحفية جزائرية، في برنامج بقناة “سكاي نيوز”، تعرَّض لرأي مُتداول، من بين آراء وأطروحات، في الأصول الإنْسية والتَّوْصيفات الأنثروبولوجية للهوية الجزائرية، ضمن الأسئلة المُتَّصِلة بهوِّيات شعوب شمال أفريقيا. المؤرخ كان مُنْفعِلا وهو يُردِّدُ ما هو مَعروف به من آراء، يُعارضه فيها كثيرون ويسانُده آخرون. والأمر كلُّهُ مَحصور في برنامج تلفزي بقناة.
الرّجل كان على ثقة من أن ما قاله هو مجرد رأي وممارسة ثقافية، وغاب عنه أن ذلك ليس ممكنا في الدولة الجزائرية. صباح السبت، اعتُقل في الجزائر وتم تقديمه لقاضي التحقيق وهو الآن رهن الاعتقال في انتظار محاكمته بتهم سياسية قد تجر عليه أحكاما بالسجن لسنوات عديدة.
غارةُ الهِجَاء الجزائري للإمارات العربية، حوَّلت كلام المؤرخ في البرنامج التلفزي إلى هجوم إماراتي على الجزائر… موَجِّهُ الغضبة الجزائرية تجاوز حدودَ اعتراض على كلام المؤرخ وعتاب أو حتى غضبة على القناة التلفزية. قصفَ الإمارات العربية “بمجامعها”، ولم يترك في هجائه منفذا ولو بسيطا للتفاؤل الذي عمّ العلاقات الجزائرية – الإماراتية بعد المكالمة الهاتفية، بين الرئيسين الجزائري والإماراتي، والتي تبادلا فيها “تهاني العيد واتفقا فيها على لقاء قريب بينهما”.. تفعلها الدوخة الإستراتيجية.
العقل الموَجِّه للدّولة الجزائرية ضيّع البوصلة وانساق مع الانفعال إلى حدّ المرور من وضع تصفير العدّاد في العلاقات الجزائرية – الإماراتية إلى تحويل مؤشر التوتر فيها من الصفر إلى 180 درجة.. وها قد بدأت في حملة تجييش للقبائل ضدّ الإمارات في معركة لا تعنيهم ولا تفيدهم.
الجزائر اليوم تستنجد بالمليون ونصف المليون شهيد للتّخفيف عنها من ضيق عزلتها السياسية في محيطها الجغرافي. ضيّعت بصلف لا مبرر سياسيا له، علاقاتها، في جنوبها، والذي تعتبره “مجالا حيويا لأمنها القومي”، وحرضت بذلك على إنشاء “تحالف دول السّاحل” النافرة منها. دوختها الإستراتيجية هذه، أججت انفعالها، وهي الآن تقفز فوق فشلها الدبلوماسي إلى التهديد بالقوّة العسكرية. المناورات في الجنوب الشرقي للجزائر، هي نوع من قرع طبول الحرب، خاصة ضد مالي. وهي حرب إذا قاد “التشنج” الجزائرَ إليها ستكون حربا ضد الثلاثي الأفريقي وضدّ الميليشيات الروسية هناك، ولن تقف عند حدود عملية تأديبية لمالي على تنطّعها من “الهيمنة” الجزائرية.
التحالف الثلاثي لدول الساحل، انتفض ضدّ الهيمنة الفرنسية، وبالتبعية ضد “الحشَرِية” الجزائرية في أوضاع البلدان الثلاثة. وهو اليوم يرى في المغرب جدارةً ريادية لقَطْرِه، بقاعدة التشارك و”الترابُح” على “الطريق الأطلسي نحو التنمية الأفريقية”. والتحالف أصرّ على إشهار شكره لملك المغرب على مبادرته الأطلسية، والتي تؤمّن لدول التحالف الانفلات من العزلة الجغرافية، للعبور إلى المحيط الأطلسي ومعه العبور إلى تنمية جماعية، تفاعلية واقعية ومستدامة.
الاستقبال الملكي، في الرباط، لوزراء خارجية تحالف دول الساحل، انطلاقة فعلية للمبادرة الأطلسية التي أطلقها الملك محمد السادس في أكتوبر من سنة 2023، بمناسبة الذكرى الـ48 للمسيرة السلمية لتحرير الأقاليم الصحراوية من الاحتلال الإسباني. موريتانيا، الواقعة جغرافيا بين المغرب ودول الساحل، هي منخرطة في مشروع أنبوب الغاز نيجيريا المغرب، والذي لوحده قاطرةٌ تنموية أفريقية هامّة، موضوعيا مؤهلة، بقيادتها الحالية المتبصرِّة بواقعية لمصالحها، للاندماج في “الطريق الأطلسي للتنمية الأفريقية”، بما يحرّرها من الضغط الجزائري، ويوسّع آفاق تطلعاتها التنموية.
الدولة الجزائرية هي اليوم في حالة شرود عن التحولات الإستراتيجية الفاصلة التي تخترق محيطها الجغرافي والسياسي. وهو شرود يحول بينها وبين النظر الواقعي المُميّز للدولة. هي اليوم في مرحلة ما بين تجديد ذاتي واستمالة النّخب إليها والتصالح مع شعبها، وما بين المحافظة على بنيتها التقليدية، العسكرية المبنى والمعنى، والمتوسّلة بذاكرة حرب التحرير بالمليون ونصف المليون شهيد. قانون “التعبئة العامة” أو تقنين حالة الاستنفار، سيطلق للجيش يديه ورجليه في البلاد ويفرض الالتحام الشعبي بالدولة، أي يحقنها بالنفس الشعبي قسرا. وهذه علامة أخرى من علامات الدوخة الإستراتيجية، لأن الالتحام القوي والمنتج والدائم بين الدولة وشعبها، هو ذاك الطوعي، الواعي والذي حافزه الاشتراك في إنتاج الثروة الوطنية، والانتفاع المشترك بها.
الدولة في الجزائر، تسارع الخطى لإقرار قانون “التعبئة العامة”، وهو اليوم في البرلمان، قدّمه وزير العدل “حافظ الأختام” لطفي بوجمعة. نفس الوزير، سيصرح بأن قانونا تنظيميا سيصدر قريبا، يلزم المتقدمين لمباريات التوظيف في القطاع العام والمصالح شبه العمومية، “بشهادة سلبية تثبت عدم تعاطيهم للمخدرات والمؤثرات العقلية”. نفس الدولة تريد شعبها إلى جانبها، وتنادي فيه وعيه، وتخاطب فيه حماسه الوطني، بينما تعتبر شبابه مدمني مخدّرات وحشيش، إلى أن يتحصّل على شهادة طبية تثبت سلامته من تأثير المخدرات، ومن دوخته الطبيعية.. عجبا كيف تعكس الدولة دوختها على شعبها..
طالع السعود الأطلسي
كاتب مغربي