نزار بولحية
بعيدا عن الجدل الدائر حول وضع الحريات وحقوق الإنسان في المنطقة المغاربية، وهو جدل قلما أخذته باريس بالاعتبار، كلما نظرت إلى مصالحها الوثيقة في الشمال الافريقي، فإن السؤال الآن هو ما الذي جعل فرنسا تصوب سهامها في الأسابيع الأخيرة نحو الجارتين المغاربيتين، في وقت بدأت فيه علامات الانفراج بينها وبينهم تلوح في الأفق؟ وهل أن السهام التي وجهتها إلى من تضعهم دوما في مصاف الأصدقاء التقليديين والاستراتيجيين قد صوبت على وجه الخطأ؟ أم أنها أطلقت مع سبق الإصرار والترصد؟
أسلوب ماكرون في التعامل مع ملفات الشمال الافريقي، يقوم على الحفاظ على حد أدنى من التوتر بين فرنسا والجزائر من جانب، وبينها وبين المغرب من الجانب الآخر
الفرنسيون ينفون وبشكل نهائي وجود أي مشكل لهم مع العاصمتين المغاربيتين الكبيرتين، بل يعتبرون الحديث حتى عن بوادر أزمة جديدة معهما، نوعا من المبالغة والتهويل غير المقبول، لكنهم في الجزائر يشيرون وبوضوح تام وبإصبع الاتهام إلى المخابرات والإعلام الفرنسيين ويعتبرونهما مسؤولين عن نسف «كل ما تم بناؤه بين الرئيسين تبون وماكرون، لفتح صفحة جديدة بين البلدين»، مثلما أشارت إلى ذلك وكالة الأنباء الرسمية الجزائرية، التي أضافت أيضا في تقريرها الخميس الماضي، أن «الجميع يعلم أنه توجد على مستوى المديرية العامة للأمن الخارجي الفرنسي خطة تقضي بتقويض العلاقات الجزائرية الفرنسية، يتم تنفيذها من قبل عملاء سريين و»خبارجية» وبعض المسؤولين على مستوى المديرية العامة للأمن الخارجي الفرنسي، ووزارة الخارجية الفرنسية، وكذا بعض المستشارين من أصل جزائري لا يخفون ولعهم وتبجيلهم للمخزن». غير أن وزير اتصالهم مضى أبعد ليتهم في مقابلة مع موقع «الجزائر الآن» الإعلام الفرنسي بالضلوع في ما يشبه المؤامرة، حين قال «نحن لم نتفاجأ بما قامت به الصحافة الفرنسية فكل شيء كان مكشوفا لنا من قبل اليوم، فقط أسقطت الأقنعة في قضية المدعوة والمهربة أميرة بوراوي»، إن جيرانهم المغاربة يشاطرونهم التأكيد في أن هناك مشكلا فعليا مع فرنسا، لكن تشخيصهم يبدو مختلفا عنهم بعض الشيء. فمع أن رئيس البرلمان المغربي لم يوجه اتهاما مباشرا وصريحا لباريس بوقوفها وراء قرار البرلمان الأوروبي الأخير حول المغرب، إلا أنه قال في كلمة له في السابع من الشهر الجاري إن «التموقع الجديد لبلادنا إقليميا وقاريا ودوليا يثير حنق جهات خارجية، تعبئ العديد من الإمكانيات ووسائل الإعلام واللوبيات، وتحشد الأصوات لمناهضة بلادنا لا لشيء، إلا لأنها تشق طريقها بثبات وعلى أساس القرار الوطني المستقل نحو تموقع دولي متقدم»، وذلك في تلميح واضح لفرنسا، لكن رئيس اللجنة البرلمانية المشتركة بين المغرب والاتحاد الاوروبي كان أكثر وضوحا حين قال في مؤتمر صحافي «أظن أن جزءا من الدولة العميقة في فرنسا تزعجه الانتصارات الأمنية والدبلوماسية للمغرب، واستغل هذه الأزمة ليحرك الليبراليين الفرنسيين لتبني هذا القرار»، قبل أن يشير وبالاسم إلى أن رئيس مجموعة رينو في البرلمان الأوروبي، الفرنسي ستيفان سيجورني وهو مقرب من الرئاسة الفرنسية لعب دورا كبيرا جدا، وكان من مهندسي القرار الأوروبي ضد بلاده. والنتيجة بعد ذلك أنه وفي ظرف أقل من شهر واحد، وفي حركة تحمل أبعادا رمزية لا تخفى، أعاد المغرب والجزائر سفيريهما المعتمدين في فرنسا. فقد أمر الرئيس الجزائري باستدعاء سفيره في باريس بشكل فوري للتشاور «على خلفية مشاركة دبلوماسيين وقنصليين ورجال أمن فرنسيين في تهريب رعية جزائرية بطريقة غير شرعية وغير رسمية، في حين يفترض أن تكون موجودة في الجزائر بناء على أوامر القضاء»، مثلما جاء في بيان رسمي أصدرته الرئاسة الجزائرية الاربعاء الماضي، فيما أعلنت وسائل الإعلام المغربية الجمعة الماضية أن المغرب قرر، حسبما نشرته الجريدة الرسمية، إنهاء مهام سفيره في باريس بداية من الثاني من الشهر الجاري، من دون أن يعلن عن تعيين خلف له. كما أن زيارة الرئيس الفرنسي إلى الرباط، التي أجلت أكثر من مرة قبل أن يعلن أخيرا عن أنها ستتم في الربع الأول من العام الجاري، وكذلك زيارة الرئيس الجزائري إلى باريس، التي تقرر رسمياً أن تكون في مايو المقبل، باتتا موضع شك، بل صار الكثيرون يرجحون أن يقع إلغاؤهما، أو في أفضل الأحوال إرجاؤهما إلى حين عودة الحرارة إلى علاقة الجارتين مع فرنسا. وما قد لا يفهمه الجزائريون والمغاربة هو كيف يتعامل الفرنسيون معهم بوجهين، إذ في الوقت الذي لم يجف فيه بعد توقيع رئيسهم في أغسطس الماضي مع نظيره الجزائري على إعلان من أجل شراكة متجددة بين البلدين واتفاقهما على المستقبل الذي يخص البلدين، مثلما أشار إلى ذلك الرئيس تبون، ولم تمض شهور كثيرة على زيارة وزيرة خارجيتهم في ديسمبر الماضي إلى الرباط، حيث قالت من هناك إن فرنسا «ترغب في أن تكون علاقتها مع المغرب شراكة مثالية استثنائية أخوية وعصرية»، يحدث العكس تماما وترتد الأمور إلى الوراء لتعود تقريبا إلى نقطة الصفر. وبالطبع فسيكون من التبسيط أن يرد ذلك فقط إلى الاضطراب أو قلة الخبرة أو ضيق الأفق من جانب باريس، أو أن يقال مثلا إن هناك طرفا أو جهات أخرى تعمل من وراء الستار وتحرك خيوط اللعبة، وهي من تقرر بدل الإليزيه في مسائل حيوية وحساسة للغاية مثل العلاقات مع الجزائر والمغرب، ذلك يجعل ماكرون والدوائر المحيطة به في الإليزيه في مأمن من أي لوم، وهو الذي اختار أسلوبا مختلفا في التعامل مع ملفات الشمال الافريقي يقوم على الحفاظ على حد أدنى من التوتر من فترة لأخرى بين فرنسا والجزائر من جانب، وبينها وبين المغرب من الجانب الآخر، لزجر ما تعتبره باريس نوعا من التمرد أو العصيان من جانب البلدين المغاربيين والرغبة بالخروج من الفلك الفرنسي، من خلال تنويع العلاقات والشراكات، ولعب أدوار إقليمية قد تتعارض وتتصادم أحيانا مع المصالح الفرنسية، خصوصا في القارة الافريقية. وقد يقال إن هذا الأمر ليس جديدا على الجزائريين بالذات، فقد كانت لهم علاقات وثيقة منذ استقلالهم حتى بالكتلة الشيوعية. ولكن ما يقلق الفرنسيين الآن أكثر هو أنهم يرون أن هؤلاء قد بدؤوا بالتدخل بشكل قوي في مناطق تعتبر حديقتهم الخلفية. ومن المؤكد أن تصريحات من قبيل ما أدلت بها رئيسة الوزراء الإيطالية قبل فترة قصيرة وبمناسبة زيارة الرئيس تبون لإيطاليا وقالت فيها إن «حوارنا الطويل كان مناسبة للحديث عن السيناريوهات الدولية في افريقيا، بدءا باستقرار ليبيا والوضع الحساس في مالي ومنطقة الساحل بأسرها، كما تحدثنا عن تونس والسيناريوهات المختلفة فيها»، تعطي مبررا إضافيا للقلق على الدور الفرنسي في المنطقة. ولعل وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة كان مصيبا حين قال منتصف ديسمبر الماضي في مؤتمر صحافي مع نظيرته الفرنسية إن «هناك حاجة إلى إعادة تجديد العلاقات بين البلدين». والمشكل الحقيقي هو أن الفرنسيين لا يفهمون ذلك. ومع أنهم يعرفون جيدا أن سهامهم لن ترهب الجزائريين والمغاربة إلا انهم يستمرون في لعبة قد يخرجون منها بخسارة مزدوجة.
كاتب وصحافي من تونس