أ.د.عبد القادر بِطار *
في زمن الأوبئة والجائحات، تظهر عادةً بعضُ الكائنات، وتنتعش أيما انتعاش، ربما لموافقة ذلك لطبيعة تفكيرها، ومنطق تحليلها، البعيدين كل البعد عن روح العلم والدين، واليقينيات والبراهين.
وإني لأشفق على هؤلاء المساكين، الذين اختاروا طريق الجحود والإنكار، مع عجزهم وافتقارهم إلى الواحد القهار.
لقد غاب عنهم أن الإيمان مشروع أمل، وهو أساس سعادة الإنسان، إنه رحلة استكشاف عمق التجربة الدينية،” من بساطة المادية إلى رحابة الإنسانية والإيمان، تآكل النموذج المادي”. كما انتهى السير بالمفكر والفيلسوف والأديب عبد الوهاب محمد المسيري (ت 2008م) (رحلتي الفكرية، في البذور والجذور والثمر، سيرة غير ذاتية، غير موضوعية، ص:183).
إن الإيمان هو أعز ما يُطلب، وأجل ما يُكتسب، وهو الأجدر بالإنسان، وغير ذلك خسارة وبهتان.
وكما قال الإمام شمس الدين الذهبي (ت748هـ):” لَعَنَ اللهُ الذَّكَاءَ بِلا إيمانٍ، ورضي اللهُ عَنِ البلادةِ مع التقوى.” (سير أعام النبلاء: 14/6).
كنا وما زلنا نعتقد أن الإلحاد قد ولى منذ زمان. لكونه لا يصمد أبداً أمام عقيدة التوحيد الكبرى، فقد أعلن العلامة عبد الرحمن بن خلدون عن انقراض الـمُلْحِدَةِ والمبتدعة في زمانه على الأقل. (المقدمة: 3/977 بتحقيق الدكتور علي عبد الواحد وافي).
كما وجدنا في تراثنا الإسلامي الغني بعض العلماء الذين انتصروا لعقيدة التوحيد الكبرى، التي لا تختلف ولا تتخلف، منذ آدم عليه السلام، إلى خاتم النبيين والمرسلين، سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
وقد كان المعتزلة من أوائل العلماء الذين نهضوا بهذه الردود العلمية، في مواجهة الملحدين والزنادقة وأعداء الدين.
فقد ألف أبو الحسين عبد الرحيم بن محمد بن عثمان الخياط المعتزلي (ت300هـ) كتابا سماه ” الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد” بَيَّنَ فيه تهافت هذا الماجن السفيه، الذي لا يعبأ الله به.
وقد ختم الخياط كتابه في الرد على هذا الزنديق، ببيتين شعريين للأخطل يقول فيهما:
ما ضرَّ تَغلبَ وائلٍ أهجوتَها ** أَمْ بُلْتَ حَيْثُ تَناطحَ البَحْرانِ
يَوماً إذا خَطَرَتْ عَليكَ قُرُومُهمْ ** ترَكتكَ بَيْنَ كَلاكِلٍ وجِرانِ
ومن صُورِ دفاع المعتزلة عن الإسلام أن رجلا من السُّمَنِيَّة، سأل قاضيا مسلما بحضور ملك السند السؤال الآتي:
أخبرني عن معبودك هل هو القادر؟ قال نعم، قال: أفهو قادر على أن يخلق مثله؟ فقال القاضي: هذه المسألة من علم الكلام، وهو بدعة، وأصحابنا يُنكرونه. فقال السُّمَنـِيُّ للملك: قد كنتُ أعلمتك دينَهم، وأخبرتك بجهلهم وتقليدهم، وغلبتهم بالسيف.
ويقال: إنَّ الخلفية هارون الرشيد، لما بلغه خبر هذه النازلة، قامتْ قيامته، وضاق صدره، وقال: أليس لهذا الدين من يناضل عنه ؟ قالوا: بلى يا أمير المؤمنين، هم الذين نهيتهم عن الجدال في الدين، وجماعة منهم في السجن، فقال: أحضروهم، فلما حضروا قال: ما تقولون في هذه المسألة ؟ فقال: صبي من بينهم: هذا السؤال مـُحَالٌ، لأنَّ المخلوقَ لا يكون إلاَّ مُـحْدَثاً، والـمُحْدَثُ لا يكون مثلَ القديم، فقد استحال أن يُقالَ: يقدر على أن يخلق مثله أو لا يقدر، كما استحال أن يُقال: يقدر أن يكون عاجزاً أو جاهلاً. فقال هارون الرشيد: وجهوا هذا الصبيَّ إلى السند حتى يناظرهم”. (طبقات المعتزلة، لأحمد بن يحيى بن المرتضى، ص:55 عنيت بتحقيقه سوسنه ديفلد-فلزر، دار الفكر، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى، 1409 ه/1988م).
كما ألف العلامة المغربي، المتكلم الأشعري السني، أبو علي عمر السَّكُوني (ت717هـ)كتابا قيما جمع فيه نماذج من عيون المناظرات، بلغت مائة وستين مناظرة، بعضها يتضمن ردوداً قويةً على الـمُلْحِدَة والمبتدعة وغيرهم، سماه” عيون المناظرات” وقد طبع هذا الكتاب بتحقيق الدكتور سعد غراب، وهو من منشورات الجامعة التونسية، سنة: 1976.
كما ألف شيخ الإسلام مصطفى صبري كتابه العظيم “موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين”، وقد طبع هذا الكتاب في أربع مجلدات. بَيَّنَ فيه مؤلفه سمو الدين، وفساد مقالات الملحدين.
كما قرر الشيخ مصطفى صبري في مقدمة هذا الكتاب: “أن تيار التشكيك في العقائد الإيمانية بين العقلية القديمة والحديثة إنما”صَدَّرَهَا الغربُ المسيحيُّ من ناحية، واللاديني من ناحية، إلى شرقنا الإسلاميِّ، كما يُصَدِّرُ سَائِـرَ بضائعه”. (موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين: 1/83).
كما أقام الفيلسوف والشاعر الإسلامي الكبير، محمد إقبال في كتابه القيم، “تجديد الفكر الديني في الإسلام” البراهين الفسلفية على صدق التجربة الدينية، مبيناً أن الدين “تجربة حية ومشاركة واتصال وثيق”. (تجديد الفكر الديني في الإسلام:ص:36).
وفي آخر هذا الكتاب فصل مهم بعنوان: ” هل الدين أمر ممكن” ؟ قسم فيه محمد إقبال الحياة الدينية إلى ثلاثة أطوار: يمكن وصفها بطور الإيمان، وطور الفكر، وطور الاستكشاف، ليخص إلى أن الدين – الذي هو في أرفع مراتبه ليس إلا سعيا وراء حياة أعظم- هو في جوهره تجربة، وقد أدرك أنه لابد من أن تكون التجربة أساسه وقاعدته، قبل أن ينتبه العلم إلى اصطناع هذا الرأي بوقت طويل، فالدين سَعْيٌ صادقٌ صحيحٌ يستهدف توضيحَ الشعور الإنساني. (تجديد الفكر الديني في الإسلام:ص:210).
وجدير بالذكر أن تأثير الإلحاد في العالم الإسلامي ظل محدوداً، وهذا بفضل العلم والتعليم الذي وطن له كتاب الله العزيز، إذْ أول آية نزلت في القرآن الكريم تأمر بالقراءة باعتبارها وسيلةً لتحصيل العلم والمعرفة، قال تعالى:﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق:1-4] فكان هذا الابتداء –كما يقول الشيخ محمد أبو زهرة- إشعاراً بأنَّ هذا الكتاب يدعو إلى العلم، وعنوانه هو العلم، وأن الذي جاء به لا يقوم إلا على العلم، وتعليم الإنسان ما لم يعلم. (أصول الفقه، ص:75).
ثم طبيعة هذا الدين الحنيف الذي أقام العقائد الدينية الإيمانية على براهين عقلية ومنطقية وفطرية لا تتعارض مع الحقائق العلمية البتة.
لقد أتى على الـملحدين حين من الدهر، ظهروا فيه بثوب الزندقة وقلة المبالاة، وبشكل محدود جداً في عالمنا الإسلامي، وقد أشار الدكتور عبد الرحمن بدوي إلى نماذج من ذلك في كتابه: ” من تاريخ الإلحاد في الإسلام”.
كما كان بعض المشككين من تيار الزنادقة يعمدون إلى طرح أسئلة فاجرة، تتعلق ببعض المشكلات العقدية الدقيقة، كمسألة القضاء والقدر، التي تعتبر سراً من الأسرار، تُعتقدُ ولا تُدْرَكُ.
أذكر أنموذجا واحداً فقط لهذا العبث العقدي، ذي الصلة الوثيقة بالاحتجاج بالقدر، فقد سأل أحد الزنادقة، يدعى إبراهيم بن سهل (كما في حاشية العلامة محمد الطالب بن الحاج على شرح ميارة لمنظومة العلامة عبد الواحد ابن عاشر، المسماة: المرشد المعين على الضروري من علوم الدين، 2/174) سأل هذا الزنديق علماءَ الغرب الإسلامي، على سبيل التشكيك قائلا:
أيَا عَلَمَاءَ الدِّينِ ذِمِيُّ دِينِكُمْ ** تَـحَيـَّرَ دُلُّوهُ بأوضحِ حُجَّـــــةِ
إِذَا مَا قَضَى رَبي بكفري بزعمكم ** ولم يَرَضُهُ مني فَمَا وَجهُ حِيلتي؟
قَضَى بِضَلالـِي ثم قال لي ارضْ بالقضا ** فهل أنَا رَاضٍ بالذي فيه شِقْوَتي
دعاني وسَدَّ البابَ دوني فهل إلىَ ** دخولي سَبيلٌ بينوا لي قَضِيَّتي
إذا شاءَ رَبي الكُفْرَ مِني مشيئةً ** فهل أنا عَاصٍ باتباع المشيئةِ ؟
وهل لي اختيارٌ أنْ أخالفَ حكمَه ** فباللهِ فَاشْفُوا بالبراهينِ عِلَّتِي
وقد جاءه الجواب شعراً مفحما من الفقيه العلامة أبي سعيد أحمد بن لب الغرناطي (ت782هـ) قائلا:
قَضَى الله ُكُفْرَ الكَافِرينَ ولم يَكنْ ** ليرضاهُ تَكْلٍيفاً لَدَى كُلِّ مِلَّةِ
نَهى خَلقَهُ عّمَّا أَرَادَ وُقُوعَـــهُ ** وانفاذَهُ وَالْـمُلْكُ أَبْلغُ حُجـــَّـةِ
دَعَا الكُلَّ تَكْليفاً وَوَفَّقَ بعضَهُمْ ** فَخَصَّ بِتوفيقٍ وَعَمَّ بِدَعْوَةِ
فَتعصِي إذا لم تنتهجْ طُرْقَ شَرْعِــــهِ ** وإن كُنْتَ تمشي في اتباع المشيئةِ
فلا تَرْضَ فعلا قد نهى عنه شَرعُـــهُ ** وسَلِّمْ لتدبيرٍ وحُكْمِ المشِيئَةِ
إليكَ اختيارُ الكَسْبِ واللهُ خَالِقٌ ** مُريدٌ بِتدبيرٍ لَهُ في الخَليقَةِ
وما لم يرده اللهُ ليس بِكائنٍ ** تَعَالَى وجَلَّ اللهُ ربُّ البريــــــــــــــــــةِ
فَهَذَا جَوَابٌ عَنْ مَسائلِ سَائلٍ ** جَهُولٍ يُنَادِي وَهْوَ أعْمَى البَصِيرَةِ
أَيَا عُلَمَاءَ الدِّينِ ذِمِيُّ دِينِكُمْ ** تـَحَيَّرَ دُلُّوهُ بَأوضحِ حُجَّـــــــــــــــــــــــــــةِ
وهذه الأبيات تتضمن اعتقاد أهل السنة في القضاء والقدر، وأن كل ما يقع في هذا الكون لا يخرج عن مشيئة الله عز وجل وعلمه وقدرته. أما نصيب العبد من ذلك فهو الكسب فقط. ومعناه: قصد العبد وانبعاثه نحو القيام ببعض الأعمال التي ترجع إلى اختياره، وعلى هذا الأساس، فإن للعباد أفعالا اختيارية، هي أساس التكاليف الشرعية، وهي ترجع إلى كسبهم، ويترتب عليها الثواب والعقاب.
ومِن ثـَمَّ فلا مكان لعقيدة الجبر في مذهب أهل السنة. قال أحد معتنقي مذهب الجبرية مورداً على أهل السنة:
مَا حِيلَةُ الْعَبْدِ وَالأقدارُ جَارِيَّـــةٌ ** عَليهِ في كُلِّ حَالٍ أيُّها الرَّائِي
ألْقاهُ في اليَمِّ مَكتوفاً وقالَ لهُ ** إياكَ إياكَ أنْ تَبْتَلَّ بِالماءِ ؟
وقد أجابه بعض علماء أهل السنة بقوله:
إنْ حَفَّهُ اللُّطْفُ لم يـَمْسَسْهُ مِنْ بَلَلٍ ** وَلَـمْ يُبَالِ بِتَكْتِيفٍ وإلْقَاءِ
وإنْ يَكُنْ قَدَّرَ المولى بِغَرقَتِهِ ** فَهْوَ الغريقُ ولو أُلْقِيْ بِصَحْرَاءِ
على سبيل الختم:
أعود فأقول: إن زمن الإلحاد قد انتهى، وإنَّ البقاء لأهل الإيمان، وإن أيَّ ملحد أينما وجد، في أي عصر من العصور، وحيثما ما وجد، في أي بقعة من بقاع العالم، فهو أكبر مُدَّعٍ، وأَكْبَرُ مُفْتَرٍ، وَأكْبَرُ كَذَّابٍ على صَعِيدِ كوكبِ الأرضِ.
إذْ كيف يَدَّعِي هذا الكائنُ العاجزُ عن إدراك حقيقة ذاته، وحقيقة ما يجري حوله اليوم، مما تواترت أخباره، وظهرت آثاره، كما هو الشأن بالنسبة لفيروس كورونا الفتاك، ثم يتطاول على خالقه ومصوره، فيعمد إلى إنكاره، والزعم بأنه لا يوجد هناك إله معبود بحق ؟
فهل قام هذا المخلوق الضعيف برحلة في أرجاء هذا الكون الفسيح للبحث عن إله معبود بحق ولم يجد شيئا، ثم عاد ليفتري على الناس بأن الله غير موجود ؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيراً.
ما هذا الغرور ؟ وما هذه العجرفة ؟ وما هذا التلبيس على الناس، والزعم بامتلاك القدرة الزائفة على تفسير الظواهر الكونية، بعيداً عن حقائق الدين، وقوانين العلم ؟
وَتَحْسِبُ أنَّكَ جِرْمٌ صَغِيرٌ ** وَفِيكَ انْطَوَى الْعَالَمُ الأكْبَرُ
فالله تعالى، كما يقول قطب العارفين، تاج الدين أحمد بن محمد بن عطاء الله السكندري (ت709هـ): “استتر لشدة ظهوره، وخفي عن الأبصار لعظيم نـوره”.
وقد تظافرت الأدلة النقلية والعقلية على وجوده سبحانه وتعالى، حتى قال علماؤنا: إنَّ الأدلةَ على الخالقِ بِعَدَدِ أنْفُسِ الخَلاَئِقِ.
وقد انتقى العلامة محمد جمال الدين القاسمي (ت1332هـ) خمسة وعشرين دليلا من تلك الأدلة النقلية والعقلية على كثرتها، وبسطها في كتابه القيم”دلائل التوحيد”.
لا نملك في الأخير إلاَّ أن نردد مع الأستاذ عباس محمود العقاد بأن:” الحس والعقل والوعي والبديهة، تستقيم على سواء الخلق، حين تستقيم على الإيمان بالذات الإلهية، وأن هذا الإيمان الرشيد هو خير تفسير لسر الخليقة، يعقله المؤمن، ويدين به المفكر، ويتطلبه الطبع السليم”. (الله جل جلاله، ص:299).
ومهما يكن من شيء، فسيظل الإيمان رَاسِخاً سَاطِعاً، والإنسانُ عَابِداً خَاضِعاً، والْبَقَاءُ لأَهْلِ الإيمَانِ، ولـِمَنْ حَادَ عَنْ نُورِ الْوَحْي الشَّقَاءُ وَالخُسْرَانُ.
*– أ.د. عبد القادر بطار، أستاذ العقيدة والفكر الإسلامي في جامعة محمد الأول بوجدة.