نزار بولحية
التراشق الإعلامي بين الجارين مستمر، ولا شيء يدل على أنه سيتوقف. والمزعج في ما يحصل بين أكبر بلدين في الشمال الافريقي، هو أن التصعيد بينهما يجعل كثيرين يضعون أيديهم على قلوبهم ويتوجسون من أن ينجر البلدان إلى حرب جديدة بينهما، لكن ذلك السيناريو وعلى سوداويته قد يكون الشجرة التي تخفي الغابة. فالعواقب غير المنظورة التي يمكن أن تنجر مستقبلا عن الوضع الذي تشهده العلاقات الجزائرية المغربية منذ فترة ليست بالقصيرة، قد لا تكون أقل قسوة ومرارة من الدمار الذي قد يلحق بهما، لا قدر الله، جراء تلك الحرب. والعنصر الإضافي الذي دخل قبل أقل من عامين على خط التصعيد، هو علاقة المغرب بالكيان الإسرائيلي، فإذا كان من حق المغاربة أن يوافقوا أو يعترضوا على القرار الذي وقعه رئيس حكومتهم في ديسمبر 2020 وقضى بإعادة العلاقات الدبلوماسية بين بلادهم وذلك الكيان، فإن الإشكال يبقى في تحديد ما إذا كان يحق لجيرانهم أيضا أن يغضبوا، وأن يتخوفوا مما قد تراه الرباط قرارا سياديا أخذته بالاستناد إلى عدة اعتبارات، قد يكون من بينها موقف بعض هؤلاء الجيران بالذات مما تعتبرها قضيتها الوطنية الأولى، أي قضية الصحراء، وأن يجعلوا من ذلك القرار مبررا آخر لاستمرار القطيعة معها؟
أخطر ما يمكن أن يؤدي إليه استمرار الاحتكاكات والهجومات اللفظية وتواصلها بين الجارتين حول تلك القضية وحول غيرها أن تتدحرج كرة الثلج بينهما وتكبر
من الواضح أن الأمر كان سيبدو، وفي سياق آخر، مفهوما، في حال ما إذا كانت الدول المغاربية الخمس تطبق سياسة خارجية موحدة، أو كانت وفي الحد الأدنى على الأقل تجتمع دوريا للتشاور، أو للتنسيق بينها، قبل الإعلان عن أي موقف أو قرار بإقامة علاقات أو روابط دبلوماسية مع أي جهة أو كيان خارجي. لكن الوضع ليس بالتأكيد كذلك. فالكل يعلم جيدا أن العلاقة بين أكبر بلدين مغاربيين، أي المغرب والجزائر، ليست منذ شهور، بل حتى منذ سنوات في أفضل حالاتها. وأخطر ما يمكن أن يؤدي إليه استمرار الاحتكاكات والهجومات اللفظية وتواصلها بين الجارتين حول تلك القضية وحول غيرها من المواضيع والملفات الأخرى هو، أن تتدحرج كرة الثلج بينهما وتكبر، ليتحول ما يفترض أن يكون خلافا سياسيا في الأصل بين نظامين مغاربيين في التوجهات والخيارات، إلى نزاع أكبر وأوسع مدى يقحم فيه الشعبان رغما عنهما في معركة مريرة لا ناقة لهما فيها ولا جمل. ومن الواضح تماما أن اللغة التي بات يتخاطب بها بعض الجزائريين والمغاربة مع بعضهم بعضاً في وسائل الإعلام وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، تدل وبوضوح تام على استفحال نوع من الوباء الذي يمكن أن يطلق عليه «مغرب فوبيا» في الجزائر و»جزائر فوبيا» في المغرب. والأمر تجاوز بالفعل كل الحدود، بل صار يشكل ما يمكن اعتباره عقدة أو معضلة نفسية واجتماعية، ولم يعد محصورا في كونه مناكفة أو خصومة سياسية كبيرة بين حكومتين. وهذا ما يطرح أكثر من سؤال عمن سيدفع في النهاية ثمن التحريض الإعلامي المفتوح والمستمر بين البلدين. ففي الوقت الذي يمكن فيه للحكومات أن تراجع سياساتها ومواقفها، وأن تتقارب وتتصالح في ما بينها بعد طول قطيعة وجفاء، وتنسى أو تتناسى ما جرى بينها من عداء، فهل سيكون باستطاعة الشعوب بدورها وبكبسة زر واحدة أن تفعل بالمثل، وتلملم جراحها بسرعة وتتجاوز الندوب العميقة التي ستتركها تلك الخلافات على علاقاتها وروابطها ببعضها بعضا؟ إن ما لا ينتبه له مَن يقف وراء حملات التحشيد والاستعداء والتحريض، أو ربما لا يعطيه قدرا واسعا من الأهمية هو، أن الوقت قد يفرض سلطانه. فالنتائج والآثار التي قد تترتب عن تلك الحملات على المدى المتوسط والبعيد لن تكون محدودة، بل ستمس الوجدان الشعبي في العمق وستضرب أيضا إحساس المغاربة والجزائريين وإيمانهم بفكرة وحدة المصير. ومن الواضح أن تفكير كل طرف في تسجيل نقاط على حساب الآخر، ولو من خلال تشويهه والتهجم عليه بشتى الطرق والأساليب، هو ما يمنعه من التطلع لما هو أبعد من ذلك الفعل واستشراف مآلاته البعيدة. فما هي القيمة الحقيقية بالاخير لما يحصل اليوم من حملات إعلامية، إن كانت الأجيال الشابة في الجزائر والمغرب هي من ستدفع غدا، ثمن عداء لم ترده ولم تختره ولم تستشر فيه، رغم أنها هي من ستكتوي في النهاية وأكثر من غيرها بناره؟ الثابت أن أكبر خطأ يقع فيه من ينفخون في تلك النار هو أنهم، حين يظنون أن الشتائم والنعوت والاتهامات المغرضة والملفقة وحملات السب والشتم على الطريقة السوفييتية، هي التي ستطيح بهذا النظام، أو أنها هي التي ستسقط الآخر لا يحصلون على شيء من ذلك، بل إن النتيجة الوحيدة التي يحققونها هي أنهم يلحقون مزيدا من الأذى النفسي والمعنوي بالشعوب، ويتركون ندبة عميقة وراء أخرى على صفحة الذاكرة الجماعية، ربما سيتطلب محوها عقودا، بل حتى قرونا. فهل سيكون من السهل على الأجيال الجزائرية الجديدة أن تذكر غدا ولو جميلا واحدا قدمه المغاربة لبلدهم من قبيل ما فعلوه في حقبة الاستعمار الفرنسي، حين وقفوا مع الثوار في حربهم من أجل التحرير؟ وهل سيكون من السهل أيضا على الأجيال المغربية الجديدة أن تتذكر ولو قليلا من المعروف الذي أسداه الجزائريون للمغاربة حين ساندوهم في نضالهم من أجل طرد الاستعمار الفرنسي والإسباني من أرضهم؟ أم أن أكثر ما سيذكره هؤلاء وهؤلاء هو أنهم ولدوا وعاشوا جزءا طويلا من حياتهم في ظل قطيعة لا دبلوماسية فحسب، بل تكاد تكون شبه تامة بين بلديهما وفي وضعية غير عادية وطبيعية بالمرة بين جار وآخر، لم تكن فيها الحدود بينهما فحسب مغلقة في وجوه بعضهما بعضا، بل حتى عبور مجالهما الجوي محظورا وأنهم رضعوا لسنوات حليب العداء لبعضهما بعضا؟ إن أقسى شيء هو ما سيتعلمه الأطفال الجزائريون والمغاربة من وسائل التواصل، وحتى من بعض وسائل الإعلام من أنهم خلقوا ليكونوا اعداء أبديين، بدل أن يتعلموا أنهم ينحدرون من أصل واحد، وأن ما يجمعهم أقوى وأكبر بكثير مما يمكن أن يفرقهم أو يقسمهم. فما هي الصورة التي سترسخ غدا عن المغربي في الجزائر أو الصورة التي ستنطبع عن الجزائري في المغرب، غير صورة العدو اللدود الذي يتربص بجاره ليغدره ويجهز عليه حتى لا ينافسه أو ينازعه على السيطرة والزعامة الإقليمية؟ لقد بات الماضي وبلا شك خلف المغاربة والجزائريين ولن يمكنهم تغييره، كما أنهم عاجزون الآن أو غير مستعدين لتغيير حاضرهم، لكن بأي حق يلعن البعض منهم المستقبل ويحكم على علاقتهم مسبقا بالإعدام؟ إن العزاء الوحيد هو أن البلدين لم يخلوا بعد من العقلاء، وعلى هؤلاء بالأساس أن يمنعوا المجانين من أن يستمروا في العبث بالروابط الوثيقة بينهم ويجنبوا الأجيال الشابة فيهما خطر الوقوع، لا سمح الله، في مأزق حضاري حاد.
كاتب وصحافي من تونس