بعد الانتشارالواسع لأنواع الفساد المستشرية وكثرة المفسدين المحترفين في جميع القطاعات في المغرب ظهرت الحاجة الى المطالبة بمشروع قانون يجرم الإثراء غيرالمشروع الذي يستنزف ثروات البلاد وبمجرد الإعلان عن هذا المشروع بدأ المفسدون الذين يحتلون مناصب المسؤولية في الدولة يعارضونه لكونهم يعلمون أنهم هم الذين يقصدهم مشروع تعديل القانون الجنائي المساند لجهود مكافحة الفساد والرشوة واختلاس الأموال العمومية والاعتداء على ثروات البلاد السطحية والباطنية والبحرية، و بسبب الفساد ارتفعت نسبة الفقر والبطالة وانعدام السكن والحرمان من التعليم والصحة ومن جميع متطلبات الحياة ويمكن تعريف الإثراء غيرالمشروع أنه حصول المفسدين على الكسب بلا سبب و بدون أي جهد بطرق غير مشروعة على حساب قوت المواطنين ، وغالبا ما تكون جريمة الإثراء غير المشروع عن طريق استغلال واستثمار الوظيفة العمومية للحصول على منفعة خاصة وهذا يؤدي حتما إلى آثار سلبية خطيرة تنعكس على الاقتصاد الوطني وعلى الاستقرار السياسي والاجتماعي في البلاد.
الجرائم الأخرى التقليدية
جريمة الإثراء غيرالمشروع لها طابع خاص تختلف عن الجرائم الأخرى التقليدية، سواء من حيث الأشخاص الذين يرتكبونها أو الضرر الذي يترتب عنها، فالأشخاص الذين يرتكبون هذه الجريمة يتمتعون بخبرة في مجال عملهم تمكنهم من إخفاء معالم الجريمة عن الأجهزة الرقابية بفضل قدرتهم المالية على تقديم رشاوى للتستر على جرائمهم والإفلات من المحاسبة والعقاب، كما أن حجم الضرر الذي ينتج عن هذه الجريمة يقع بصفة مباشرة على المال العام، مما يؤدي إلى إضعاف كيان مقومات الاقتصاد الوطني، وبالتالي فإن المواطنين خاصة الفقراء وأصحاب الدخل المحدود، هم المتضررون بالدرجة الأولى من هذه الجريمة، ولهذا فإن التشريع الجنائي وحده لا يكفي لمكافحة هذه الجريمة، ما دام أن القانون تتحكم فيه فئة معينة من رجال المال والأعمال الذين يسيطرون على الحياة السياسية بل لا بد من وجود قوى شعبية مكافحة ضد الفساد والمفسدين تدافع عن مصالح المواطنين الاقتصادية والاجتماعية لاسترداد المال العام المسروق من طرف المسؤولين الكبار في الدولة ورؤساء الجماعات وغيرهم من المتورطين في نهب المال العام، وإلزامهم بتقديم إقرار عن ذمتهم المالية وذمة أزواجهم وأبنائهم على أن تتضمن هذه الإقرارات مصدر الزيادة في الذمة المالية إلا أن المفسدين في السلطة يرفضون التصريح بممتلكاتهم ويعتبر هذا استهتارا مؤسساتيا مع العلم أنه لا يوجد في المغرب قانون يتعلق بإشهار الذمة المالية بالنسبة للموظفين العموميين، كما هو معمول به في الدول الراقية الديمقراطية، وبسبب هذا الفراغ التشريعي تظل الوظيفة العمومية في المغرب مثل البقرة الحلوب يستفيد منها المفسدون، وفي هذه الحالة يصعب مكافحة الإثراء غير المشروع في حين أنه في الدول الديمقراطية اذا طرأت زيادة على مال المسؤولين أوعلى مال أزواجهم أو أبنائهم بعد توليهم المسؤولية وكانت هذه الزيادة لا تتناسب مع مواردهم وعجزوا عن إثبات تلك الزيادة تعتبر هذه الزيادة ناتجة عن استغلال الوظيفة العمومية فيخضعون حتما للمحاسبة والمحاكمة، كما وقع في قضية الرئيس الفرنسي السابق “جاك شيراك” الذي تمت محاكمته من أجل الوظائف الوهمية، واستغلال السلطة واختلاس أموال عامة، وكذلك في ألمانيا أجبر الرئيس الفيدرالي “كريستيان فولف” على الاستقالة بتهمة الفساد، وفي البرازيل أقال مجلس الشيوخ الرئيسة “ديلما روسيف” معتبرا أنها تلاعبت بالحسابات العامة، وشخصيات أخرى أدينت بسبب استغلال النفوذ وإختلاس المال العام، لكن في المغرب يتساءل الكثير من المواطنين عن ظاهرة الإفلات من العقاب وعدم محاكمة المفسدين الذين يعرقلون تعديل بعض فصول القانون الجنائي المتعلقة بتجريم الإثراء غير المشروع بل أكثر من ذلك يعود المفسدون من جديد إلى كراسي المسؤولية رغم الفضائح المالية عن طريق شراء الأصوات في الانتخابات.
صراع مرير
في الحقيقة أن التغيير لا يأتي إلا بعد صراع مرير وشاق ضد الفساد والمفسدين لأن القانون الذي نريد تغييره أو تعديله ما هو إلا تعبير عن إرادة الأشخاص الذين يتحكمون في البلاد والعباد وفي السلطة والمال عن طريق القوة والقهر، لكن الحقيقة هي أن الكون منذ نشأته يعيش حالات التغيير المتعددة في الطاقة والمادة، فالواقع يستمد قوته وبقاءه من عناصر الحركة والتغير والتكيف، فالإنسان وفكره وما يحيط به لم يكن على هذه الحالة منذ آلاف السنين ولن يكون على الحالة نفسها مستقبلا، بالتأكيد سيعرف تقلبات وتغييرات ولن تستطيع أي قوة إيقاف تغييره.
إن جميع علماء الكمياء والفيزياء والجيولوجيا والآثار والفلك والاجتماع والسياسة والتاريخ يجمعون على أن التغيير حالة إجبارية وليس اختيارية، وسوف يجرف جميع الأفكارالراكدة والعقول المتحجرة والطقوس والخرافات الخيالية والمعتقدات المتخلفة، والإنسان يعيش دوما حالة من الصراع بين القانون الثابت والقانون المتحرك الذي ينتج أفكارا متحررة ومفاهيم جديدة تتناسب مع الحاجة والضرورة، وفي البلاد المتخلفة توجد قوى محافظة مرعوبة وخائفة من رياح التغيير وفي المقابل توجد قوى تقدمية مناضلة صامدة داعية الى التغيير من أجل الحرية والعزة والكرامة والمساواة، إن الرشوة الواسعة النطاق والاختلاس والاحتيال مترابطة بهيكلة القطاع العام وبطبيعة العلاقات بين الحكومة والاقتصاد، والحكم المطلق يحدث الفساد المطلق وأهم عناصر قوة الأمة جودة تعليمها ونزاهة قضائها وحسن اختيار قادتها ومحاربة الفساد والمفسدين، وعندما يأمن المسؤول من المحاسبة والعقاب سيقع في الفساد وستظل السياسة تلاعب بمصالح المواطنين وسيظل الصراع قائما بين المواطنين والمفسدين، ومكافأة المفسدين لم تكن يوما سوى إطعام ديناصورات لا تعرف معنى الشبع.
مؤسسات رقابية قوية
الشعب يريد إزالة الفساد، والمفسدون يتشبثون للبقاء للدفاع عن مصالحهم ومكاسبهم غير المشروعة ودون مؤسسات رقابية قوية يصبح الإفلات من العقاب هو الأساس الذي تبنى عليه أنظمة الفساد، وإذا لم يتم القضاء على الإفلات من المحاسبة والعقاب فإن كل الجهود المبذولة لوضع حد للفساد تصبح دون جدوى.
ينص مشروع القانون الجنائي رقم 16- 10 الذي يتضمن مادة تتعلق بتجريم الإثراء غير المشروع على فرض غرامات ما بين 100 ألف إلى مليون درهم على أي موظف عمومي ثبتت زيادة ثروته بشكل غير مبرر خلال فترة أداء مهامه، ولرصد ذلك يلزم الموظف بالكشف عن ممتلكاته وممتلكات زوجته وأولاده قبل تولي المنصب “وهذا ما يعرف في كثير من الدول الديمقراطية بـ “إقرار الذمة المالية” ومنذ سنة 2016 لا زال هذا المشروع مجمدا في رفوف البرلمان الذي يفترض في أعضائه الدفاع عن حقوق ومصالح المواطنين الذين صوتوا عليهم لكنهم غير راغبين في التصويت على مشروع هذا القانون، فكلما طفا على السطح ملف من ملفات الفساد وسرقة ونهب المال العام حتى يضع المغاربة أيديهم فوق رؤوسهم فتصيبهم الدهشة من هول كارثة هذه الملفات وضخامة الأموال المسروقة، وهم يعلمون أن أسماء المسؤولين الكبار لن تظهرعلى قائمة المتورطين في سرقة أموال الشعب المغربي بل تقدم مكانهم أكباش فداء أبرياء تجر إلى السجون لإيهام المواطنين بمحاربة الفساد، وهكذا بدأت الحرب على الفساد في المغرب بسجن خادمة بيوت وهي امرأة فقيرة الحال وجهت إليها النيابة العامة تهمة سرقة قطعة لحم من مطبخ موظفة سامية في وزارة الداخلية، فحكمت عليها محكمة القنيطرة بالحبس لمدة 6 أشهر دون تمكينها من حقها في توكيل محام يدافع عنها، وهنا يظهرالفرق الشاسع بين سرقة المليارات التي يرتكبها كبار الموظفين وبين سرقة قطعة لحم أو رغيف خبز لإطفاء لهيب الجوع، هذا يقع في الوقت الذي تتحدث فيه وسائل الإعلام المأجورة عن ملفات الفساد واختلاس المال العام والإثراء غير المشروع دون متابعة ولا محاكمة في الوقت الذي كشفت فيه المؤسسة العربية لضمان الاستثمار أن الدخل الفردي للمواطن المغربي يعد من بين الأضعف عربيا يقابل ذلك تصاعد عملية تهريب الأموال الى الخارج وشراء الشقق الفاخرة والقصور.
وقالت مؤسسة “بوسطن” الاستشارية الأمريكية إن أكثر من 30 في المائة من أموال الأغنياء في المغرب توجد أساسا في بنوك سويسرية وبريطانية، وأكدت هذه المؤسسة أن المغرب يحتل المرتبة الثانية في دول شمال افريقيا فيما يخص تهريب الأموال إلى الخارج، وفي هذا الصدد قال رئيس الحكومة المغربية السابق بنكيران أمام البرلمان إنه يملك وثائق تشير إلى تورط مسؤولين كبار في تهريب الأموال من المغرب إلى الخارج.